"الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي" لمحمد أركون

13-10-2010

"الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي" لمحمد أركون

تحتل قضية الانسنة في الفكر العربي الاسلامي موقعا اساسيا في مشروع محمد اركون في "نقد العقل الاسلامي"، وهو كان بدأه مع اطروحة الدكتوراه التي تمحورت حول هذا الموضوع انطلاقا من دراسة عن ابي حيان التوحيدي ومسكويه. ظل هذا الموضوع يخترق مجمل ابحاثه ودراساته، يزيد الاصرار عليها من جانبه انبعاث الفكر الاصولي، ومعه ممارسات العنف التي تعطي صورة عن الاسلام متمحورة حول هذا الجانب. لذا يكافح بقوة لنزع الانغلاقات اللاهوتية عن الاسلام وتحريره من القيود التي تكبله. في هذا السياق يأتي كتابه "الانسنة والاسلام، مدخل تاريخي نقدي"، الصادر عن "دار الطليعة" في بيروت، ترجمة هاشم صالح، ليشكل مساهمة في اضاءة الانسنة في الاسلام واعادة بنائها، حيث يقول في مقدمته: "في هذا الكتاب رغبة في تحطيم العزلة عن الاسلام ورفع اطارها لتقويته حتى يستطيع ان يخرج من سياجه العقائدي المحصن داخل قلعة الصمود ضد تحديات التاريخ، في حين ينتظر منه العالم اجابات مسؤولة عن تحديات عاجلة ومحددة".
يشير اركون الى مفاهيم متعددة للانسنة في الفكر الاسلامي، فهناك الانسنة المتمركزة حول الله، او ما يعرف بالتمركز اللاهوتي الذي ينطبق على الاديان التوحيدية الثلاثة، وهناك الانسنة الفلسفية المتمركزة حول الانسان العاقل، سواء اتى الامر من "داخل المنظور الافلاطوني للمعقولات، ام داخل الاطار المفهومي للتمركز المنطقي للارسطية"، ليصل من ذلك الى القول إن تحرير الفكر الاسلامي من سياجاته العقائدية الخاصة به، لن ينجح ما دامت الاطر والاسس التاريخية القصصية للايمان غير مهدمة، وذلك على غرار تهديم اسس الايمان المسيحي منذ عصر الانوار.
ينطلق اركون من تعيين مفهوم الانسنة بما هي احد الاسس التي يرتكز عليها الفكر الديموقراطي والممارسة الديموقراطية، وتقوم على الامتناع "عن اقصاء اي شيء ينتجه الانسان او مما يدفعه اليه قدره، ولكنها تخضع كل ذلك للتمحيص النقدي، بما في ذلك عقائد الايمان الديني والحقائق المقدسة". انطلاقا من ذلك، يحاول اركون ان يعيد الاعتبار الى هذا الجانب الانساني في الفكر العربي الذي ازدهر في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، حيث مهدت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في زمن العصر البويهي لنجاحه وانتشاره. كان ابو حيان التوحيدي ابرز المفكرين، وهو صاحب المقولة الشهيرة "الانسان اشكل عليه الانسان"، فحكمت هذه المقولة جميع كتاباته وتمرده الفكري ونقده الصارم لما هو سائد حيث سعى الى تعطيل الشرائع الدينية من اجل خلق فضاء مناسب للتعميق الروحي.
يقارن اركون بين ذلك العصر القديم والحال الراهنة، فيشير الى ان معاركه من اجل الانسنة انما تهدف الى تظهير الازمة الفكرية والروحية للفكر الاسلامي الذي تصادره وتحتجزه ايديولوجيا المعركة وتكبّله مؤسساتها الميثولوجية منذ اكثر من الف عام حتى اليوم. يزداد الامر اهمية بعدما جنحت ايديولوجيا المعركة في نضالات سياسية عبثية وخصوصا في العمليات الارهابية التي وصلت ذروتها في هجومات الحادي عشر من ايلول عام 2001. فاقم الامر ان النخب السياسية التي استولت على السلطة منذ الاستقلال لم تتمكن من ان تحيي او ترمم خطابا انسويا سبق لرواد النهضة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ان لامسوه، وذلك في ظل "خطاب تحرري تتخلله تلفيقات حداثية واوامر عقائدية ظلامية، فضلا عن كونها حطمت الهويات الوطنية، التي تلقي مسؤولية انمحائها على المستعمرين وحدهم".
في سياق الفكر الاسلامي المتصل بالمفاهيم الانسانية، احتلت مفاهيم السعادة والسعي الى الخلاص موقعا غير بسيط في التحديد والموقع. فخلف النموذج الاسلامي الذي يتمثل في أدب غزير، ماضيا وحاضرا، "تحيل مسألتا السعادة والخلاص على مظاهر وجودية، اعني نماذج لتشكل فكري واخلاقي وروحي للفرد البشري". في هذا المجال يبدو ان الخلط الذي تقوم به الحركات السياسية في العصر الحديث بين الخلاص "الاخروي" والخلاص الارضي من اجل تجييش الجماهير في الصراعات السياسية والاجتماعية على السلطة، انما يعبر في الحقيقة عن الارتداد الذي يلفّ المجتمعات الاسلامية اليوم. يتجلى ذلك في ان كلمة "جهاد" قد صادرتها الحركات الاصولية الارهابية، وهي كلمة كانت لزمن طويل محور المعركة الروحية الصوفية في طريق الوصول الى الله والاتحاد به.
في العودة الى الفكر الاسلامي، يشير اركون الى مسكويه، صاحب كتاب "تهذيب الاخلاق"، في كونه اكثر المعبّرين "عن مفاهيم السعادة النامية داخل السياقات الاسلامية الوسيطية والاكثر شمولا والاحسن بيانا والاوسع تأثيرا، فهو يقدم بناء رحبا للحكمة، حيث توجد كل الاشياء المتقاربة متناغمة متناسقة منسجمة". قاد مسكويه خطاً في الفكر الفلسفي الانسني يشدد فيه على سعادة الانسان، ويعطي هذا الانسان دروسا في الفكر والاخلاق من اجل ترجمتها في حياته الواقعية الملموسة. هذا الفكر حلّ محلّه فكر ديني عن الخلاص الابدي والوعد بالملذات للابرار في الجنة والوعيد بالعقاب الشديد للفجّار والكافرين في نار جهنم. هكذا بات المسلمون اليوم محكومين في حياتهم اليومية الى اسلام متخيل استيهامي يعود بنا الى العصور الاسطورية، والى زمن قديم يجري افهامنا انه الزمن الاصيل الواجب استعادته واسقاطه على عصرنا، واجبار الدارسين على درسه من دون الاخذ في الاعتبار الحد الادنى من معايير التاريخ النقدي وتساؤلاته وشكوكه، بحيث يمكن القول إن الاسلام قد اختزل اليوم الى وظائف ثلاث: الوظيفة الاسطورية التي تجعل منه الملاذ والامل لفئات واسعة من المنبوذين والمهمشين والعاطلين عن العمل واليائسين. الوظيفة الثانية التي تجعل منه ملاذاً لمعارضي الانظمة الحاكمة والمتجلي اليوم في الحركات السياسية المعتقلة للاسلام والمسخِّرة تعاليمه في خدمة برامجها السياسية الانقلابية. اما الوظيفة الثالثة فهي تسخير الرأي العام وتعبئته، وهذه وظيفة تمارسها السلطة السياسية والحركات المعارضة في الان نفسه، كلٌّ في خدمة مشروعه في الاستيلاء على السلطة او المحافظة عليها.
يتساءل اركون عن المكانة التي تحتلها المعرفة التاريخية النقدية في النظام التعليمي في كل بلد من البلدان التي تتخذ الاسلام دينا للدولة، ليخرج بنتيجة سلبية عن وجود هذه المعرفة. يعزو اركون هذا الغياب او التغييب الى ان اعتناق هذه المنهجية في قراءة التراث الاسلامي قد يؤدي الى زعزعة المجتمعات الاسلامية في ظل ظروف تاريخية تواجه فيها ازمات متعددة في الداخل والخارج. لذا تبدو هذه المجتمعات متمسكة بالدفاع عن مدونة "ايمانية" بعيدة عن اي مساءلة نقدية، "فالمجال الاسلامي منغرس في الرفض العقائدي للتاريخ وفي فوضى دلالية مرتبطة باستيراد جنوني لوسائل الرقابة المتطورة بقصد مراقبة اكثر شمولية لشعوب ظلّت محرومة من كل اشكال الحرية والعدالة الاجتماعية منذ امد بعيد". لذلك تبدو الفضاءات العربية والاسلامية غارقة في شتى انواع الفشل في المعارك الدائرة على جبهات العقل الذي يقود الانسانية الى درب خلاصها الحقيقي المستند الى المعرفة العلمية والثقافة الديموقراطية والانسنة الشاملة. وهو امر يفتح مباشرة على دور المثقف ووظيفته في هذه المعركة الكبرى، في دفاعه عن حقوق العقل وفي نشره للفكر الانساني. لا ينكر اركون وجود علماء في التاريخ الاسلامي دافعوا عن فكرة الابتعاد عن مواقع السلطة من اجل الانصراف بحرية الى القيام بمسؤولية انتاج سلطة فكرية واخلاقية وروحية، واخذ الحرية في الاجتهاد في النصوص المقدسة واستنباط الاحكام الفقهية. مثلما وجد في الان نفسه "مثقفو السلطان" الذين كان همّهم الاساسي اسباغ المشروعية على السلطة والسلاطين وتبرير قراراتهم وممارساتهم. يخلص اركون من ذلك الى مخاطبة العلماء المسلمين لاستبدال خطابهم عن الانسان الاسلامي وعن الصاق الاسلام بكل القضايا الدنيوية، نحو الالتفات الى "الحركية التاريخية التي تؤثر في الاعتقاد والوظائف الدينية الخاضعة لقوى العولمة التي لا يمكن التصدي لها".
يؤكد اركون في مجرى كتابه، ان الانغلاق العقائدي ليس إنتاجا للتعاليم الدينية فحسب، فليست التعاليم الدينية سوى عامل يساهم في تثبيت تقديس التقاليد والعادات والطقوس والقوانين الثقافية والمعتقدات والقيم والممارسات السياسية القديمة المرتبطة بمسألة النظام الرمزي والنظام الاجتماعي – الاقتصادي والسلطة التي تديرهما. لذا يضع في اولوية مشروعه مسألة الخروج من هذا الانغلاق العقائدي، بل يرى ان المجتمعات العربية والاسلامية هي في مرحلة مفصلية بحيث سيكون عليها الاختيار بين الموروث المترسخ والمتبلور في اطار العائلة والمدرسة والمسجد والاعلام وغيرها من اماكن التعبير الثقافي والديني، وبين انتهاج سياسة هادفة الى إعمال العقل في ميادين البحث والتعليم، بما يسمح بتحرير القوى والمواهب الخلاّقة، مما يفتح على حركة الاصلاح الواسع والمتعدد الوجه، الذي يذهب به اركون بعيدا في "الحديث عن هدم الفكر الديني ببناءاته القصصية التاريخية للايمان، او عدم هدم الفكر الحديث بتحولاته الاسطورية والايديولوجية: اعادة اعمال حركة فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، بهدف فتح آفاق جديدة للمعنى وقابلية الفهم والمعرفة مع مراعاة ضرورة الافهام وتوجيه الحركة الثورية".
تبدو المجتمعات العربية والاسلامية اليوم في أمس الحاجة الى "صرخة" اركون وتركيزه على منهجية النقد من اجل الوصول الى الاصلاح. كتابه هذا نداء ملحّ للانخراط في نقد ينزع القدسية عن العقل القانوني في الفكر الاسلامي لاستعادة عقل يساهم في هدم الاشكال والانحرافات العقائدية للعقل الديني، وكذلك لعقل الاديان العلمانية التي تضع نفسها في اطار الحداثة. "اليوم ثمة هدم اجتماعي وسياسي لا رجعة فيه نظرا للعنف المعمم الذي يتميز به التعبير السياسي والخيالي للمجتمعات، غير ان اعادة تفعيل الاسطورة القائلة ان "الاسلام صالح لكل زمان ولكل مكان" تعبئ جماهير غفيرة لدرجة انه يخفي اتساع الهدم وطبيعته" على ما يشير الى ذلك الكاتب


خالد غزال

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...