الإنسان، العقيدة والموت اندريه مالرو: الشخصية الروائية، مُحرّك التاريخ

23-09-2011

الإنسان، العقيدة والموت اندريه مالرو: الشخصية الروائية، مُحرّك التاريخ

"الرواية الحديثة هي وسيلة مميزة للتعبير عن مأساوية الإنسان، وليست لتحليل الفرد"، تلك هي فكرة أندريه مالروعن الكتابة الأدبية. لذلك، لا يمكن فصل شخصية مالرو عن الفكر أو العقيدة التي تجسدها. فالشخصية الأدبية تعكس من خلال حركتها الديناميكية السياسية والتاريخية. وقد شارك مالرو بنفسه بحركة التاريخ. وبالفعل، تميّزت حياة ذلك الكاتب الفرنسي بطابعها التاريخي. فبرع بكتابة روايات يعرض من خلالها الحركة السياسية الجماعية التي ترتبط في بعض الأحيان بتخبط الإنسان الفردي والعاطفي. تبرز السياسة بقوة في كتابات مالرو لأن الأحداث التاريخية ليست مجرد مادة أدبية بالنسبة له، إنما هي حياته التي عاشها. لذلك تتميّز شخصياته بالكثير من الإنسانية والواقعية، إذ أنها مرآة نفسه. يؤمن أندريه مالرو بالقيم الكونية، وهي التي تحرّك الحبكة القصصية في رواياته. وهو يجيب من خلال كتاباته على أسئلة طُرحت على المستوى الأدبي والفلسفي في القرن العشرين. في هذا السياق، عبّر أدب مالرو عن تفاعله مع الشيوعية كفكر وكنمط حياة نضالي.
بالإضافة الى ذلك، شكّل أدب أندريه مالرو فسحةً للتفاعل بين الثقافات المختلفة. وهوغالباً ما يتكلم عن المزيج بين مختلف الثقافات؛ المصرية، الهندية، اليونانية وغيرها. وبالفعل، سافر أندريه مالرو عام 1923 الى كامبوديا حيث احتكّ بشعب الخمير واكتشف فساد السلطة. ذهب الى الهند-الصينية عام 1925، حيث أسس في سايغون جريدة "الهند-الصينية" L’Indochine. إنما لفتت مقالاته المعادية للاستعمار انتباه السلطات التي حاولت منع صدورها. وقد يكون أندريه مالرو قد التقى في تلك الحقبة بثوار صينيين. شكلت تجربته في الشرق الأقصى مصدر وحيٍ لرواياته المتجذرة في التاريخ والواقع. وهكذا، يعرض مالرو المواجهة بين الإنسان وقدره في أجواء تمازجت فيها ثقافتا الشرق والغرب. بالإضافة الى ذلك، شارك مالرو في الحرب العالمية الثانية في مواجهة الحلف الألماني-الروسي. جُرح، فتمّ سجنه، ولكنه فرّ من السجن. ثم جُرح مجدداً، وتم توقيفه من قبل الغيستابو. إنما حرّرته الجيوش الفرنسية. يظهر أثر كل تلك الأحداث في أدبه بشكل جلي. بالإضافة الى ذلك، كان مالرو مقرباً من الجنرال ديغول، فتم تعيينه وزيراً للاتصالات في الجمهورية الفرنسية المؤقتة، ومن ثم وزيراً للشؤون الثقافية. وهكذا، شكلت السياسة جزأً من حياة الكاتب ومخيلته. لذلك، في روايته "زمن الاحتقار" Le Temps du mépris (1936)، عرض الكاتب الديكتاتوريات التي باتت تشكل تهديداً هاماً في تلك الحقبة. في إيطاليا، فرض موسوليني سلطته الديكتاتورية، كما فعل هيتلر في ألمانيا. وكتب مالرو روايته "الأمل" L’espoir (1937) حيث روى قصة الصراع من أجل الحرية في مواجهة ديكتاتورية فرانكو.
الحركة الجماعية
الثورة التي اندلعت خلال الحرب الأهلية في إسبانيا هي بطلة رواية "الأمل"، وقد أثرت تلك الثورة على مالرو بعمق. فقد مكث هذا الكاتب من 1936 حتى 1937 في إسبانيا، كتب روايته في النصف الثاني من سنة 1937 ونشرها خلال الحرب الأهلية مباشرةً. وقد تداخل في هذا العمل الأدبي الفكر والحركة الروائية: "اكتست مدريد بكل أزياء الثورة، فباتت كستوديوليلي"، "كل تلك الصفارات التي أُطلقت في نفس الوقت فقدت دويها المحزن الذي يشبه صوت السفن المسافرة لتصبح انطلاقة الأسطول الثائر". وهكذا، نجح مالرو بجعلنا نعيش شعور الحرب، ذلك الحيوان المفترس: "اشتعلت بناية، كما في السينما، من الأسفل الى الأعلى"، "برشلونة ليلاً مليئة بالغناء، الصراخ والطلقات النارية"، "انفجرت قذيفة من عيار كبير. تحطّمت زجاجات النوافذ وفي وسط الزجاج، راح حمار فلِت دون أن يحاول الهرب ينهق بيأس..."، "ها هم جميعاً في رائحة الطحالب وذكريات الطفولة. ينزل أول الجرحى، وقد تأذّت وجوههم التي يخبئونها بأصابعهم الملطخة بالدماء". يلامس عالم رواية "الأمل" المنحى الملحمي. إنها رواية حول القتال والمواجهة، لا نجد فيها أثراً للحب، الإباحية أوالعائلة. يقتصر فيها الإنسان على وظيفته النضالية. وبالفعل، لا يبرز في هذه الرواية الإنسان ببعده الفردي، إنما تتبلور الحركة على مستوى مجموعات؛ "الفوضويون"، الشيوعيون" وغيرهم، وكأن كلٌّ شخصيات الرواية ليسوا سوى جزء من شخص جماعي مُتجرّد، إذ تقول إحدى الشخصيات في الرواية: "أراد الشيوعيون أن يفعلوا شيئاً. أنتم والفوضويون تريدون أن تكونوا شيئاً ما لأسباب مختلفة. إنها مأساة كل الثورات التي تشبه هذه. الأساطير التي تغذي حياتنا متناقدة".
الوضع البشري
أما رواية "الوضع البشري"La Condition Humaine، أهم أعمال مالرو الأدبية وأروعها، فتبدأ أحداثها في 21 آذار 1927، في شانغهاي، حيث تحضّر مجموعة من المقاتلين الشيوعيين انقلاباً على السلطة. يبرز العنف في أول مشاهد الرواية حيث يقتل تشين الثائر مهرب أسلحة في منتصف الليل، ليأخذ منه وثيقة تسمح لأصدقائه المناضلين بالانقضاض على شحنة من 300 مسدس محفوظة في باخرة شان-تونغ: "هل يجب على "تشن" أن يرفع كلّة السرير، أم أن يطعن من خلالها؟ كان القلق يعصر أحشاءه. لم يكن يجهل ما عنده من العزيمة، لكنه لم يكن ليستطيع، في تلك الساعة أن يفكر في ذلك إلا بنوع من الذهول، تقلقه تلك الكدسة من الشاش الأبيض التي كانت تتدلى من السقف على جسد أقل بروزاً من الظل فلا يبدو منه سوى ساق ونصف منحنية تحت ثقل النوم (...) إن موت الشخص كان رهناً بحركة من يد تشن. لم يكن القتل شيئاً يذكر، لكن البلوغ الى الشخص شبه مستحيل. كان يتوجب على تشن طعنه بدقة تامة". أما كيو، زعيم الثوار، فيراقب خلايا قتالية سرية. على مستوى حياته العاطفية، هو يواجه زوجته ماي التي خانته من خلال علاقتها بطبيب. هكذا، تنطرح مسألة الحرية الجنسية. ويعرض مالرو ببراعة الناحية الفردية من شخصية ذلك المناضل. ماي هي الشخصية الأدبية الوحيدة التي ترى في كيوإنساناً. هي تتفاعل معه على المستوى العاطفي. وبالفعل، بنظر الجميع، كيو هو مجموعة من الأفعال التي تعبّر عن فكر وعقيدة. لذلك، تتميز ماي بكونها تضفي على وجوده طابعاً فردياً: "التفتت إليه ودلته الى الباب بإشارة من رأسها؛ أما هو، فبعد أن تفرس فيها ملياً، أخذ رأسها بكلتا يديه وضمه الى صدره بلطف من غير أن يقبلها، كما لو كان يضع في هذه الضمة كل حنان وعنف الحب الرجولي. أخيراً انفصلت عن يديه ومشى بحزم"، "فتح كيوعينيه ونظر الى المرأة الجالسة أمامه متسائلاً: أي كائن بشري هو هذا الجسد القوي، الرياضي، الأليف، بحدقتيه المستطيلتين المنطلقتين من الصدغين، والقابعتين بين الجبين العريض والوجنتين البارزتين؟ أهي المرأة التي سقطت في الخطيئة؟".
ومن ثم تتابع أحداث الرواية، فيظهر جنود تشانغ كاي-تشيك على أبواب المدينة في 22 آذار. ونلاحظ في هذا السياق أن الأحداث ترتبط بتواريخ وكأنها معروضة بشكل صحافي. لذلك نذكر ما قاله تروتسكي حول رواية مالرو "الغزاة" Les Conquérants التي اعتبرها وثيقة سياسية لا تتمتع بأية قيمة أدبية. وبالفعل، في رواية "الوضع البشري"، اعتمد مالرو أسلوباً شبه علمي في عرض الأحداث التي تتخذ طابعاً مأساوياً حين يتجلى منحاها الفردي والعاطفي. ونشهد في هذا الجزء من الرواية على حركة ذات طابع جماعي بامتياز، إذ يقتحم تشين مع رفقائه مركزاً للشرطة بهدف تسليح رجاله. أما فيرال، المعادي للثورة، فيتعاون مع تشانغ كاي-تشيك بهدف تمويل الجيش. وهنا تبرز الناحية الفردية في حياة فيرال من خلال تناول علاقته بعشيقته فاليري، تلك العلاقة التي ترتكز على الرغبة في السيطرة، وكأنها امتداد لأجواء العنف التي تحيط بهما.
وأخيراً، تبلغ الرواية اللحظة المحورية التي تنطلق منها الأفعال الحاسمة، إذ يتابع كاتو، تشين وكيو الأحداث، ويعلمون أن الثورة قد انتصرت في شانغهاي. إنما سرعان ما تكتسب الأحداث طابعاً مأساوياً. وقد نجح مالرو بعرضها بشكل واقعي لأنها تتشابه مع بعض الأحداث التي جرت في حياته. يقرر تشين أن يقتل تشانغ كاي-تشاك لأنه يعتبر أن شخصيته القوية تدعم الكووميتانغ، إنما يمنعه فولوغين من ذلك. فيعود تشين الى شانغهاي مقرراً أن يقوي إرادة الثورة. وبعد عدة أيام، يلقى تشين حتفه وهو يلقي بقنبلة على سيارة يحسبها لشانغ كاي-تشيك. ومن ثم يتم توقيف كيو. ويبدأ الصراع مع جنود شانغ كاي-تشيك. يُصاب أحد المحاربين كاتو بجراح، ومن ثم يُسجن كيو. ومن ثم يعرضون عليه الانضمام الى جيش شانغ كاي-تشيك، ولكنه يفضل الموت على ذلك.
أهم شخصيات هذه الرواية هو كيو الذي برز في أدب مالرو على المستوى الفردي كما على المستوى الجماعي على أنه رئيس ومنظم المجموعة. فالكاتب يسمح لنا باكتشاف شخصية كيو من الناحية الفكرية والعاطفية. إنه فعلاً القائد الذي يعرف كيف يقود الآخرين ويجعلهم يتقبلون سلطته، وهو الذي يأخذ القرارات بسرعة وبرودة. بفضل ثقافته اليابانية، فهم كيو أنه "لا يجب أن نكتفي بالتفكير بالعقيدة، إنما علينا أن نعيشها". لذلك، أضفت العقيدة معنى على حياته. عرف كيو الإذلال، إنما سيطر عليه، فلم يعد ذلك الإذلال يتحكّم بفكره وأفعاله. الإذلال موجود في حياة كيو باستمرار، إنما هو نجح بالتحكّم به بفضل عقلانيته. وقد عرف كيو الإذلال على المستوى الفردي حين اكتشف أن زوجته خانته، كما عرفه حين كان مسجوناً. وهكذا، عاش كيو الإذلال كإنسان وكفرد. وأجمل ما يلفت انتباهنا على هذا المستوى هو حين لا يتعرّف كيو على صوته كقائد. وبالفعل، هو يستمع الى صوته المُسجل، صوت القائد الذي يتعرّف اليه الجميع، ولكنه يشعر وكأنه يستمع الى صوت مجهول. لماذا؟ انفصل كيو عن صورة القائد التي باتت ملكاً للجمهور وعاد الى نفسه في تلك اللحظة، عاد الى تلك "الأنا" المتجردة من صورة الرجل السياسي، من أسطورة البطل الذي يبدو وكأنه يتميز بقوة خيالية. يقول مالرو على هذا المستوى: "تجعلنا المشاركة في التاريخ ملكاً للناس، للأمم، ولتلك اللحظات المميزة، فنصبح جزأً من إطار لا ينحصر في الواقع، وهوالإطار الذي نصفه بالأسطوري". وحسب لوسيان غولدمان في “Pour une sociologie du roman” (علم اجتماع الأدب)، يفصل مالرو بين شكلين أدبيين؛ الأدب الذي يعالج المسائل الفردية على غرار أعمال فلوبير الأدبية، والأدب الذي يمنح الإنسان أبعاداً كبرى على غرار كتابات شاتوبران ودوستويفسكي. في هذا النوع من الأدب، يبرز "البطل ومعنى حياته". ومن الواضح أن أدب مالرو هوالذي يضفي على الحركة الإنسانية بعداً عقائدياً وجماعياً. إنما، في بعض الروايات تظهر الناحية الفردية. ومن هنا أهمية رواية "الوضع البشري" التي يبرز فيها البعد الفردي ليضفي على البعد الجماعي واقعيةً حادة.
تجربة السجن
بالإضافة الى ذلك، يشكل كيو في تلك الرواية مرآة حال الكاتب من خلال تجربته في السجن. وهو قد عانى على المستوى النفسي حين كان مسجوناً، وشعر بالفرح حين خرج من وراء القضبان. إنها سعادة النقاء، سعادة التحرّر من الفساد والقذارة. إذ ان كل شيء في السجن بات يغذي تلك الناحية من نفسه التي بات يكرهها. إنها نفسه المروّضة. في هذا السياق، يتم وصف المسجونين في هذه الرواية على الشكل التالي: "كانت تلك الكائنات المتجمهرة وراء القضبان تثير القلق مثل قشريات وحشرات ضخمة نابعة من أحلام الأطفال". كذلك، تناولت رواية "زمن الاحتقار" Le Temps du mépris السجن من خلال قصة كاسنر الذي تمّ توقيفه وسجنه. وأخيراً، يتم إطلاق سراحه فيذهب الى براغ حيث يلتقي بزوجته وابنه الذي ولد في غيابه. تُروى القصة من وجهة نظر كاسنر الذي واجه العزلة والجنون. ويخصص الكاتب فصلاً بأكمله لعرض هلوسات كاسنر الذي بات مهووساً بكابوس العقاب المحبوس معه في قفصٍ. وهكذا، عرض الكاتب تجربة السجن، إنما هو يتطرق كذلك الى الموت، موت البطل الذي يبرز في نهاية عدة روايات. وبالفعل، في رواية "الوضع البشري"، يبلغ توق كيو نحو النقاء حدّه الأقصى من خلال توقه الى الموت: "أغمض كيو عينيه وهو متمدد على ظهره، ويداه مضمومتان الى صدره: كان ذلك، بالضبط، وضع الأموات. تصور نفسه ميتاً، متمدداً بلا حراك، مغمض العينين، ساكن الوجه بالسكون الذي يمنحه الموت. كان قد رأى كثيرين يموتون؛ وقد ساعدته تربيته اليابانية على أن يرى جمال الموت حينما يكون موتاً خاصاً، شبيهاً بالحياة الخاصة". كذلك، في رواية أندريه مالرو"الغزاة" Les Conquérants، يروي الكاتب تجربته الآسيوية التي تجري أحداثها في الحاضر التاريخي. يتخطى غارين فرديته ليصبح تجسيداً رمزياً للثورة الصينية في كانتون. يموت غارين في نهاية الرواية على غرار بطل رواية "الطريق الملكي"La Voie Royale. وهكذا، تميّز أدب مالرو بعرض الأحداث بإيقاع سريع تتجرد الحالة البشرية من خلاله تدريجياً من مظهرها المزيف لتسمح للوضع البشري بالبروز بطابعه المأساوي. إنه موت البطل في نهاية الرواية، موت يتكرر في نهاية كل رواية وكأنه مصير إنساني لا مفرّ منه.
ويترافق موت الإنسان في "الطريق الملكي" مع وصف الغابة في كامبوديا التي تبدو وكأنها خارجة عن العالم البشري. تلك الغابة هي سجن، كل ما فيها متفكك وعفن. يبدو وكأن وصف الغابة يرمز الى ما هوغير إنساني. يبرز فيها بيت العنكبوت، رمزاً للجماد الأبدي. تلك الغابة هي التي تقتل بيركين الذي نشهد في آخر الرواية على تفكك رجله. عاجزاً عن طرد الذبابات التي حطّت على رموش عينيه، يموت بيركين ببطء. نعرض على هذا المستوى التفاعل مع الهشاشة البشرية في هذه الرواية: "باتت نهاية النهار، بقوتها البطيئة والمفرطة، تثقل عزلة كلود، وتكسب حياته طابعها المُزعج. كانت تغمره على غرار لا مبالاة لا تُقهر، على غرار يقين الموت.(...) الليل الذي هبط بشكل جلي ينسدل حتى أقصى أراضي آسيا (...) برز الفكر ولكنه كان يتغذى من الأعماق التي خرج منها، وسيطرت عليه كذلك قوة غير طبيعية تتصاعد من الليل والأرض المحروقة وكأن كل شيء، حتى الأرض، فرض نفسه ليقنعه بالبؤس الإنساني (...). إيماء تافه، على غرار بقعة بشرية صغيرة ذات قدمين ضائعين في الظل، وذات صوتٍ متقطع في مساحة شاسعة ملأتها النجوم. ذلك الصوت وحده، بين السماء البراقة والموت والعتمة، يصدر من الإنسان...". نتلمّس من خلال هذه العبارات المؤثرة علاقة مالرو بالموت الذي بات يبرز من خلال كل العناصر. الغابة، العنكبوت، الذبابات، الأرض... كلها توحي بحتمية نهاية الحياة البشرية. وحسب غولدمان في “Pour une Sociologie du roman”: "فكّر هايدغر عام 1927 أن الإمكانية الوحيدة لوجود حقيقي هو من خلال حياة تُعاش للموت وتتجه نحوه". لذلك، نجد أن معظم شخصيات أدب مالرو يلقون حتفهم في نهاية الروايات وأن أجواء رواياته مليئة بشاعرية الموت.
وفي هذا السياق، نعرض من رواية "الغزاة" المشهد الذي يجد فيه غارين جثة صديقه كلاين المشوّهة والمعذبة. وهنا يبرز الموت، مرتبطاً بالعنف، في سياق سياسي على عكس رواية "الطريق الملكي" التي تبدأ بجدل حول الإباحية وتعرض بكل بساطة مغامرة عالم الآثار الفرنسي كلود فانيك يرافق صديقه بيركين في رحلة في الغابة في كامبوديا بحثاً عن تماثيل. بعد أن يجدا التماثيل، يذهبان للبحث عن غرابو، الفراري. هما يجدانه، إنما بيركين يلقى حتفه. تتجرد هذه الرواية من بعدها السياسي، إنما هي لا تخلو من موضوع مواجهة المخاطر والموت من أجل تحقيق الهدف. في هذا السياق، يكتسب بيركين بعداً أسطورياً بفضل شخصيته الغامضة على غرار الأبطال التاريخيين، وذلك من خلال رمزية النور والظل التي جعلت ملامح وجهه مبهمة: "كان وجهه يبرز بالكاد في الظل، إنما النور كان يلمع بين شفتيه، وعلى طرف سيجارته، البرّاق بلا شك". بفضل هذه الرمزية، اكتسب بيركين منحى غامضاً يجعل منه شخصية بطولية. إذ أن البطل هوالذي يتجاوز الوضع البشري ليصبح صورة تفتقد للواقعية، لذلك هي مبهمة وغامضة. إذاً، على غرار الأبطال التاريخيين، بات لبركين بعداً أسطورياً. وهكذا، بات الوضع البشري هو نفسه على كل المستويات. فالإنسان يموت في الغابة، كما يموت في ساحة المعركة. هو يموت بكل بساطة. في هذا السياق، نعرض مشهد انتحار كيو في نهاية رواية "الوضع البشري"، وهو فعل يرتكز على عقيدة وفكر واقتناع، انه الموت التاريخي، الموت السياسي: "تناول كيو السم واحتفظ به في يده. لقد تساءل مرات عدة هل سيكون موته سهلاً؟ كان يعلم أنه سينتحر إن هو عزم على الانتحار؛ ولكنه كان يعلم، من جهة ثانية، اللامبالاة الهائلة التي تكشف بها الحياة حقيقتنا أمام أعيننا، لذلك لم تكن نفسه تخلو من القلق إزاء اللحظة التي سيسحق الموت فكره بكل ثقله والى الأبد".

منيرة أبي زيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...