الامتدادات الإسرائيلية في قبرص التركية
الجمل: ما من نزاع إلا وتسعى إسرائيل لاستغلاله وتوظيفه عن طريق اللعب والمناورة على خطوطه الداخلية والخارجية، وفي تأكيد على هذه الحقيقة تقول المعلومات التي أوردتها صحيفة هاآرتس الإسرائيلية بأن جمهورية قبرص التركية الشمالية ستقوم خلال الأسابيع القادمة بافتتاح مكتب تجاري في إسرائيل.
* النزاع القبرصي: فرصة جديدة لأجندة المشروع الإسرائيلي:
تمتد جذور النزاع القبرصي الحالي إلى ما يقرب من 100 عام، وعندما جاء البريطانيون قبل أكثر من مئة عام، كان وجودهم في الجزيرة بناء على اتفاقية بين بريطانيا والإمبراطورية العثمانية، ولكن في مطلع الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في العام 1914م، أعلنت بريطانيا تخليها عن اتفاقيتها مع الإمبراطورية العثمانية، وضم قبرص إلى مستعمراتها وراء البحار، انتقاماً من الإمبراطورية العثمانية التي تحالفت آنذاك مع ألمانيا والإمبراطورية النمساوية – الهنغارية. بعد ذلك، بدأ الصراع داخل قبرص يأخذ شكلاً جديداً يقوم على أساس الصراع بين طرفين هما بريطانيا والشعب القبرصي المطالب بحق تقرير المصير، ولكن استطاع البريطانيون بخبثهم الاستعماري تحويل الصراع بينهم وبين الشعب القبرصي إلى صراع قبرصي – قبرصي بين القبارصة اليونانيين (مسيحيين أرثوذكس) والقبارصة الأتراك (مسلمون سنة) وأصبح البريطانيون يلعبون على خطوط الصراع الداخلية بين القبارصة اليونان والقبارصة الأتراك، وعلى خطوط الصراع الخارجية بين اليونان الداعمة للقبارصة اليونانيين وتركيا الداعمة للقبارصة الأتراك على النحو الذي أدى فيه صراع القبارصة اليونان مع القبارصة الأتراك إلى نشوء صراع إقليمي تركي – يوناني.
خرجت بريطانيا من قبرص واحتفظوا بمنطقتين اعتبرتهما تابعتين للسيادة البريطانية وأقامت فيهما بريطانيا قاعدتين عسكريتين هما منطقة إكروتيري الواقعة في الجزء الجنوبي الذي تقطنه أغلبية من القبارصة اليونان، ومنطقة ديكيليا الواقعة في الجزء الشمالي الذي تقطنه أغلبية من القبارصة الأتراك. وقد أدى الصراع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونان إلى انهيار دستوري، ترتب عليه قيام الجيش التركي بغزو الجزيرة في عام 1974م دعماً للقبارصة الأتراك الذين يشكلون 78% من السكان في مواجهة القبارصة اليونان الذين يشكلون 18% من السكان والمدعومين بواسطة اليونان وغرب أوروبا.
* انقسام قبرص: العامل الإسرائيلي:
ترتب على الغزو العسكري التركي إعلان القبارصة الأتراك عن إقامة جمهورية قبرص الشمالية التركية وبقي القبارصة اليونان في الجزء الجنوبي محتفظين باسم جمهورية قبرص. واجهت جمهورية قبرص الشمالية التركية مشكلة الاعتراف الأوروبي برغم مساندة تركيا لها، وبسبب موقف الدول الغربية إلى جانب اليونان فقد ظل الاعتراف الدولي من نصيب جمهورية قبرص، وبقيت الجمهورية الشمالية في حالة عزلة إقليمية ودولية. وقد أدى انقسام قبرص إلى تزايد دور الأطراف الثالثة في الملف القبرصي وأصبحت الأطراف الثالثة تتمثل في تركيا واليونان وبريطانيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة وأخيراً الاتحاد الأوروبي.
وجدت إسرائيل مناخاً خصباً للتدخل في الملف القبرصي وركزت في بداية الأمر على استخدام "الحياد الظاهري" في التعامل مع الأزمة حتى تحتفظ بروابطها وعلاقاتها مع تركيا علماً بأن موقف إسرائيل الحقيقي هو إلى جانب قبرص اليونانية. وقد استخدمت إسرائيل البيئة السياسية القبرصية المنقسمة بما يتيح لها:
• توطيد محطة جهاز الموساد الأكبر في منطقة شرق المتوسط.
• استخدام قبرص كمحطة لحركة "الترانزيت" وعبور الجواسيس إلى مناطق شرق المتوسط وعلى وجه الخصوص إلى لبنان.
• استخدام الموانئ والتسهيلات البحرية القبرصية في عمليات التهريب.
• استخدام الشركات القبرصية كغطاء للشركات الإسرائيلية.
• استخدام المؤسسات المالية القبرصية في عمليات تبييض وغسيل الأموال.
وقد عانت دول شرق المتوسط كثيراً من استغلال الإسرائيليين لمزايا استخدام قبرص كنقطة مفصلية في الحركة خاصة وأن قبرص تربطها تاريخياً علاقات وطيدة بالبلدان العربية الموجودة في منطقة شرق المتوسط، هذا، وقد شهدت الساحة القبرصية واحدة من أكبر عمليات الحرب السرية الاستخبارية التي كان يقوم بها جهاز الموساد الإسرائيلي ضد الدول العربية.
* العامل الإسرائيلي والخطوة الجديدة إزاء الملف القبرصي:
نشرت صحيفة هاآرتس الصادرة اليوم 10 آذار 2008م تقريراً أعده الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد حمل عنوان «جمهورية قبرص الشمالية التركية سوف تفتتح مكتباً تجارياً في إسرائيل». وأشار التقرير إلى النقاط التالية:
• جمهورية قبرص الشمالية التركية المنفصلة ستفتتح مكتباً تجارياً في إسرائيل خلال الأسابيع القامة.
• افتتاح المكتب سيتم بمساعدة المكتب القانوني التابع لدوف فايسغلاس رئيس مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيريل شارون.
• لن يحمل المكتب أي صفة دبلوماسية.
• يهدف المكتب إلى تعزيز الصفقات والمعاملات الاقتصادية بين إسرائيل وقبرص الشمالية.
• القرار الإسرائيلي بالموافقة على فتح المكتب وتصريحات الخارجية الإسرائيلية المتعلقة بذلك تمت صياغتها بعناية تفادياً للحرج والمشاكل التي قد تترتب على ذلك في علاقات جمهورية قبرص (اليونانية) مع إسرائيل، وتفادياً للدخول في مشاكل مع الاتحاد الأوروبي خاصة وأن جمهورية قبرص اليونانية تتمتع بعضوية الإتحاد كما تجد الدعم والتأييد من الدول الأوروبية الغربية بعكس جمهورية قبرص الشمالية التي يرفض الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة الاعتراف بها.
• القرار الإسرائيلي بالسماح لجمهورية قبرص الشمالية التركية بفتح مكتب في إسرائيل تعود بدايته إلى المحادثات التي سبق أن تمت بين الحكومة التركية والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز خلال زيارته للعاصمة التركية في شهر تشرين الثاني 2007م.
• عللت إسرائيل رفضها منح المكتب صفة دبلوماسية تحت ذرائع أن إسرائيل ستتعامل مع وجود المكتب على أساس اعتبارات قرارات الأمم المتحدة والمنظمات والأجهزة الدولية الرافضة للاعتراف بجمهورية قبرص الشمالية ككيان سياسي مستقل.
• أكد الإسرائيليون بأنه لا يوجد في إسرائيل أي تشريع قانوني بمنع إقامة جمهورية شمال قبرص التركية مكتب تجاري في إسرائيل وفقط الدول التي يمنع القانون الإسرائيلي التعامل معها هي سوريا، إيران، والعراق.
• توجد الكثير من الأنشطة الإسرائيلية في جمهورية قبرص الشمالية التركية، وحالياً ينشط الإسرائيليون فيها في مجالات الاستثمارات العقارية والسياحية إضافة إلى إدارة العديد من الكازينوهات
من المعلوم أن مشكلة قبرص لن يتم حلها قريباً، ولكن ما هو معلوم يتمثل في أن السبب الرئيسي وراء تعليق المشكلة وإبقائها بلا حل ليس اليونان ولا تركيا، وليس القبارصة الأتراك أو اليونانيين، وإنما لأن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وحلف الناتو وبريطانيا والاتحاد الأوروبي لا يرغبون في حل المشكلة طالما أن مصلحة هذه الأطراف تقتضي استمرار المشكلة. بكلمات أخرى، فإن الإبقاء على ملف الأزمة القبرصية معناه:
• الإبقاء على القواعد العسكرية البريطانية التي تستفيد منها حالياً القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو.
• الإبقاء على النفوذ الأمريكي والإسرائيلي على قبرص طالما أن أطراف الصراع الداخلية القبارصة الأتراك واليونانيين، واليونان وتركيا يحاولون جميعاً استرضاء الولايات المتحدة الأمريكية والحصول على دعمها ومساندتها.
• تقع جزيرة قبرص ضمن منطقة الشرق الأوسط، ولما كان هناك اتفاق استراتيجي إسرائيلي – أمريكي يقضي بأن تتفاهم أمريكا وإسرائيل حول أي ملف شرق أوسطي، فإن توجهات السياسة الخارجية الأمريكية إزاء الملف القبرصي تمر بالضرورة عبر بوابة تل أبيب لأنها تمثل أحد ملفات أجندة خط تل أبيب – واشنطن.
تشير التحليلات إلى أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد تم التوافق بينهما على توزيع الأدوار إزاء الملف القبرصي بحيث يدعم الاتحاد الأوروبي قبرص اليونانية وتقف أمريكا نسبياً إلى جانب قبرص التركية، على النحو الذي يتيح لمحور تل أبيب – واشنطن استخدام وتوظيف الملف القبرصي واستثماره في علاقات خط أنقرة – تل أبيب – واشنطن.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد