الروائي فواز حداد:من التبجح ادعاء الكاتب أنه يعيد صياغة التاريخ
بدأ بكتابة القصة ثم انضم إلى نادي الرواية التي حملّها الكثير من المضامين والدلالات التي تخترق عمق الإنسان العربي وتتصدى من خلاله لشواغل الذات العربية.كتب عن التاريخ لترميم الذاكرة، وكتب عن الحلم لفهم وتغيير الواقع .. وعن الخيال لطي المسافات والسفر عبر الزمان والمكان..وكل ذلك جاء في بناء مليء بالجماليات الفنية ..إنه الروائي السوري «فواز حداد» صاحب روايات (موزاييك دمشق 93، تياترو، صورة الروائي، الضغينة والهوى، الولد الجاهل ، مرسال الغرام ...) معه كان هذا الحوار:
في رواية مرسال الغرام تعتمد المواربة لقول ما تريد وكشف زيف بعض الشخصيات، والسؤال لماذا لجأت إلى المواربة في التعبير عما تريد؟
- اعتقد أنني كنت في هذه الرواية بالذات مباشراً وحاداً.. أحياناً المباشرة مطلوبة، مع أن النقاد يستهجنونها والروائيين يخشونها، بدعوى أنها تشكل مقتلاً للعمل الروائي. أغلب الأدباء يحاذرون هذه السقطة، وينفونها عن أنفسهم. بالنسبة إليَّ، ليست لدي محاذير ولا مخاوف من المباشرة أو غيرها، وليس من الضرورة مسايرة تنظيرات مسبقة. عندما يتطلب العمل الأدبي المباشرة، فلابد منها. بشكل عام، تغني عن الكثير من المناورات والمداورات، وقد نحقق بالمباشرة ما لا تتيحه لنا المواربة.
أما من أين جاءت فكرة اعتمادي لها في رواية «مرسال الغرام»، فعائد إلى الأسلوب الذي عملت عليه، والظاهر في هيمنة خطين رئيسيين على الرواية: (خط الفساد/ خط سيرة أم كلثوم). للوهلة الأولى يبدو أن أشبه بخطين متوازيين لا يتلاقيان. فأوحى هذا الأسلوب بالمواربة للبعض، بينما هي وبالدقة إيجاد قنوات تربط بينهما، أي الربط بين موضوعات تبدو مختلفة وشخصيات متباعدة ومتناقضة؛ السياسة والفن، التلازم بين الحب والكره، الغناء والاستغلال، الموهبة والعهر. والأهم تلك الصلة بين الماضي والحاضر وأحد أمثلتها: (مصر الملكية والناصرية، وسورية الحالية). ثم ما الذي يجمع بين الراوي الساذج وبطل الرواية المحنك والنفاج سوى تلك المصادفة؟! هذا الجمع بينهما في إطار واحد كان وسيلة لمجابهة الكثير من التساؤلات، في عالم حافل بتنويعات لا مفر من استدعائها.
لكل رواية خصوصيتها!
عملت في روايتك «موزاييك» على المكان، بينما عملت في «تياترو» على الشخصيات حيث توارى المكان. وفي «مرسال الغرام» تنقلت بين الزمان والمكان بكل حرفية، لماذا هذا التبدل؟
- يشكل أي عمل للكاتب مرحلة أو جزءاً من مرحلة، بعدها ينتقل إلى غيرها. مأساة الكاتب أن يكرر نفسه، فيعيد كتابة عمله ثانية، وإن كان بصيغة أخرى وأبطال جدد. وهذا يشمل الأفكار والمضمون والحبكة والشكل الروائي. بالطبع هناك صلة لا تنكر بين جميع أعمال الكاتب سواء في الأسلوب أو في متابعة أفكار أو أجواء تستولد بعضها بعضاً، تقوده من رواية إلى رواية. غالباً يراود الكاتب إحساس بأنه لم يستكمل روايته، فتراه يحاول في غيرها. أو أن العالم الذي يكتب عنه لا تكفيه رواية واحدة. الروائي أكبر من رواياته، والعالم أكبر من الروائي. ليس عمل الروائي في الكثير من الأحيان سوى تلك الرغبة التي تدفعه إلى نقل رؤيته للعالم والزمن والبشر والحياة إلى الورق.
لا يحاول الكاتب تغيير توجهاته أو أساليبه وموضوعاته اعتباطاً، وإنما ذلك الشرخ الذي يستشعره في الحياة هو الحافز الذي يحرضه، والروايات لا تكتب على نمط واحد، لكل رواية خصوصيتها، والفكرة تستولد شكلها المواتي. أي ماذا نريد القول، وكيف، وماهية تلك العوالم التي نريد ارتيادها، والتأثير الذي نريد إحداثه. لا ينبغي لرواية أن تكتب كما كتبت سابقتها. وإذا كان العالم متنوعاً، فلا يمكن أن تكون الروايات إلا كذلك.
الحاضر زئبقي!
المتابع لأعمالك الروائية (موزاييك دمشق 39، صورة الروائي، تياترو، الولد الجاهل، الضغينة والهوى) يجدها تركز على التاريخ، برأيكم هل وظيفة الروائي صنع التاريخ، وأيضاً توثيقه، ولماذا تعتمد الماضي في رواياتك؟
- من المبالغة المفرطة الادعاء بأن الروائي يصنع التاريخ أو يعيد كتابته، ومن الصعب أن يبلغ التبجح به الزعم بتوثيقه. الروائي ليس في هذا الوارد، ولا مهمته، وليست لديه القدرة على الإقدام على هكذا عمل. إنه كاتب قصص وحكايات، وحتى في حال أصغى إلى الوثيقة وجعل لها مكاناً مهماً في عمله، يبقى الخيال عدته التي لا يستغني عنها. أما من يكتب التاريخ، أو يعيد كتابته فهو المؤرخ، يبدأ بالوثيقة وينتهي بها، ويخضع عمله لمناهج البحث التاريخي. أما إذا زعم روائي أنه في وارد إعادة كتابة التاريخ، فالأوفق له أن يعمل مؤرخاً.
الروائي ببساطة، يستفيد من التاريخ، ليس من أحداثه فحسب، وإنما في طريقة النظر إلى الأسباب والنتائج، ومن ثم التعامل مع الزمن بإدراجه في الحاضر. لا يمكن لأي رؤية إلى الحياة أن تكون واسعة وشاملة وعميقة، وتحيط بموضوعها، إن لم تأخذ الماضي في حسبانها. وحتى عندما يتصدى الروائي للراهن، هل يبقى الراهن على حاله؟ الحاضر زئبقي، في حالة رحيل مستمر، سرعان ما يأفل، ويصبح مجرد تاريخ.
اعتمادي على الماضي، بمعنى ذهابي إليه، فلأنه يقدم لي المكان والزمان والأحداث، وهذا ليس بالقليل، لكنه لا يعني شيئاً، إذا لم استطع تحريكهم باتجاه ما. يحرض التاريخ فينا التأمل، معه يقف الكاتب إزاء الزمن، وفي هذا اختبار كبير. كما كل رواية اختبار ليس بوسعنا التخلف عنه، يوضع الأبطال مواجهة جريان الزمن وتدفقه، وهي مواجهة بين الكاتب القادم من «الآن»، والتاريخ داخل ماض منصرم، ليسهم مع الراهن بتشكيل رواية تبقى دون تزيد مدينة لكليهما. هنا لا يحتفظ ما مضى بماضويته، لأنه يُكتب ويُقرأ بعيون حاضر متح نسغه من عصر سلف. ترى ما التركيبة المعقدة التي ستجمع بينهما غير تلك الرواية التي نطمح إلى كتابتها دائماً؟
تشكل الرواية في هذا المضمار، الصلة بين زمنين، بين ما حدث سابقاً وبين ما يجري حالياً، مادتها البشر وتلك الجغرافيا الراسخة والطموحات الغامضة، وآمال تتجدد، وموت لا يحول ولا يزول.
ما السبب في كون المرأة في جميع رواياتك مجرد شخصية ثانوية، أو بمعنى آخر ذات دور محدود؟
- في الواقع الأدوار الكبرى ما زالت من حظ الرجل، وهي أدوار كانت محسوسة في جميع المجالات، فهو الذي كان ولا يزال يصنع الحرب والسلام، ويسن القوانين ويبتكر المخترعات...الخ وهو الذي أعد قوالب للمرأة، ما زالت أسيرة لها. طبعاً لا ينبغي إغفال قدرة المرأة في التأثير على قرارته، لكن يبقى للرجل الدور الأول والقرار الأخير. ومن النفاق إعطاء المرأة أدواراً تتجاوز وضعها الفعلي، وهو وضع شكل غبناً للمرأة، ولم يمنحها الحق ولا الفرصة في إطلاق قدراتها الكامنة.
في رواياتي، كانت المرأة الشخصية الثانية لا الأولى، لكنها لم تكن هامشية، وإذا كان حجم دورها صغيراً، أي مساحته صغيرة على صفحات الرواية، لكنه لم يكن محدوداً، وكان تأثيره كبيراً. ففي رواية موزاييك أو الضغينة والهوى، كانت المرأة هي الشخصية التي تمحورت حولها الرواية، ودار الصراع عليها. بينما في رواية مرسال الغرام، احتلت أم كلثوم مساحة كبيرة، وكان دورها طاغياً ومهيمناً، كذلك شخصية ناريمان.
لا ينبغي إعادة الاعتبار للمرأة بتزييف أدوار لها، سواء باختلاق مهام أو طموحات أو مفاعيل لم تكن لها، وذلك مسايرة للانبعاث الحالي للحركة النسوية في العالم العربي.
وإذا عدتُ إلى الرواية التي أكتبها، فهي من الروايات ذات المشاهد العريضة والبانورامية، حيث حتى الرجل يحتل حيزاً محدوداً فيها بالمقارنة مع المكان والزمان. بالطبع من الممكن أن تلعب المرأة دوراً كبيراً في رواية تدور حول حياة المرأة وعالمها الجواني والبراني، وهذا حاصل في كثير من الروايات، لكنه لم يحصل معي، إنها جزء من العمل لا كله.
هل للحب وجود؟
الحب في رواياتك ملتبس أو وهم وربما خداع، ألا يؤثّر ذلك سلباً على الرواية؟
- اعترف ما كتبته عن الحب، كان عموماً ملتبساً، حسب نظرتي إليه، الحب بطبيعته ملتبس، يمتزج بالكثير من المشاعر البديلة والإحساسات المستعارة الجميلة والخطرة، فيحصل الخلط بينه وبين الإعجاب والصداقة والتملك والاستغلال والانتهاك والغيرة والسيطرة، وعقد النقص الجنسية، وما أكثرها. لذلك لا غرابة في كون الحب الأكثر تعرضاً لعمليات الخداع، عدا عن القابلية للتسليم به والاستسلام له، واستعدادنا لتقبل الكثير من الأوهام تحت هذه اللافتة. لذلك يبدو الحب الحقيقي معضلة.
ومع هذا احتل الحب حيزاً كبيراً في رواياتي، ولا سيما رواية «مرسال الغرام»، بحيث مثَّل أحد إشكاليتها من خلال عملية البحث عن حقيقة الحب، والسعي لإعطائه عدة تعريفات، كانت متناقضة، أدت إلى اكتشافات مخيبة وإحباطات، وإنكار ويأس. ليس بالأمر الهين معرفة ما الحب، حينما يتعرض لنوازع جارفة من الطموحات. أما عندما يوضع في بوتقة الاختبار مع الفن والشهرة والمجد، فمن الصعب الظفر به في هذه المعركة غير المتكافئة. بل وقد يصبح التساؤل الرئيسي هو، هل للحب وجود؟!
حوار ـ عماد سارة
المصدر : اليمامة
إضافة تعليق جديد