السينما التسجيلية السورية: أفلام منسية ومنفية.
من يتابع اليوم مهرجان «أيام سينما الواقع، دوكس بوكس»، يبدُ له أن السينما التسجيلية السورية مقطوعة السياق. لا أحد هنا يعرف شيئاً عن تسجيليين سوريين أو عن سواهم ممن كرّس نفسه للفيلم الروائي، وصنع على هامش ذلك فيلماً تسجيلياً أو فيلمين. لا ذكر لهؤلاء ولا لأفلامهم، ولا مطالبة من أحد لفض ختم المنع الذي وضع أحياناً حتى قبل أن يكتمل إنجاز تلك الأفلام. لا بدّ إذاً من أن يكون للمهرجان الدمشقي أرشيفه الخاص، ومطالبه بخصوص الكشف عن تلك الأفلام، واستعادة تلك التجارب، بمعنى الكشف عن حكايات تلك الأفلام: كيف اشتُغلت ولماذا مُنعت. بل كيف أُعدم بعضها أو أُخفي، أو كيف اقتُطعت منه أجزاء، ولماذا جرت المطالبة بمحاكمة بعض السينمائيين.
من يتذكّر اليوم فيلماً جميلاً لمأمون البني بعنوان «المرأة الريفية»، ومن يظّنه أساساً أنه عمل في السينما التسجيلية؟ من يعرف عن تجربة فيلم نبيل المالح «المدرسة»، الذي قال عنه مخرجه إنه أُعدم؟ من يعرف الأفلام التسجيلية لمحمد ملص وأسامة محمد وعبد اللطيف عبد الحميد وهيثم حقّي وهالا محمد ومحمد الرومي وعدنان مدانات وسواهم، وصولاً إلى المشتغلين حديثاً في السينما التسجيلية مثل عمار البيك؟ أو أولئك المنفية أفلامهم، أمثال هالة العبد الله ورامي فرح وريم علي وغيرهم؟ ليس صعباً أن يأخذ المهرجان على عاتقه تسليط الضوء على تلك الأفلام والتجارب. فإذا كان القصد التأسيس لذاكرة، فهي جزء كبير منها. وإذا كانت المعرفة هي الهدف، فتلك دروس لا تنسى.
اقتصرت تظاهرة «أصوات من سوريا» على ستة أفلام، أبرزها فيلم سؤدد كعدان بعنوان «سقف دمشق وحكايات الجنة»، وهو العمل الأكثر حرفية بينها. فيه تبدأ كعدان من تجربة شخصية، حين تروي حكاية ذلك السقف الجميل في سوق مدحت باشا، الذي بناه والد جدّها. ومع اختفاء ذلك السقف، يختفي ذلك الجدّ البعيد للسينمائية الدمشقية. تروح كعدان تدور في بيوت المدينة القديمة، وتستكشف حكاياتها وأساطيرها، وتأخذنا إلى فضاءات معمارية وحنان تفاصيل، بل إلى بقايا تفاصيل في مكان يختفي فتختفي الحكايات، التي تكون التفسير الوحيد لهذا الاطمئنان التي تعيشه المدينة. لعبة كعدان هنا هي التنقّل بين الحكايات الجميلة لأهل المدينة، والأماكن التي انقرضت أو تسير إلى الانقراض. الحكاية تتحدّث عن بردى، نهر الذهب، الذي صنع مجراه غوطة دمشق، فيما الكاميرا تظلّ تعود إلى زحام على باب الفرن. تزحف الكاميرا على الجدران لتتبع التزيينات والزخارف، لكنها تروي في المقابل حكاية تلك الخوازيق التي زرعتها البلدية في غرف النوم، في تلك الأمكنة القديمة. تقول المخرجة في آخر الفيلم، وهي تصوّر مشهد الزحام في شارع ملاصق لأسوار دمشق، إنها كانت تريد أن تختم هنا بمشهد الزحام والضوضاء، لكنها أرادت، كأبطال فيلمها، أن تحكي حكايتها الخاصة، فتخرج الذكريات والصوَر من الصندوق، وتختم بصورة جدّها الذي بنى ذلك السقف، كما لو أنها بفيلمها استعادت ذكرى الجدّ، الذي اختفى باختفاء ذلك السقف الدمشقي الجميل.
لا يبتعد فيلم علي الشيخ خضر (مواليد 1987) «مدينة الفراغ» (7 د.) عن بحث كعدان من حيث موضوع الفيلم. فالسينمائي الشاب يعود إلى مدينته سلمية ليصوّر الشوارع الفارغة، التي تكاد تخلو فعلاً من الناس. وإذا عثر الشاب على الناس يُصوّرهم كأفراد وحيدين: رجل عجوز ومتعب على طريق طويل مثلاً. كذلك يصوّر الطريق الطويلة الصاعدة إلى قلعة دارسة. لكنه لا يصوّر الوحشة والفراغ في تلك المدينة، بل بشاعتها، ويختم بصورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، تأكيداً منه على أن ذلك المكان (الرهيب) هو أيضاً مكان الطفولة والذكريات. أما فيلم إياس المقداد فيصوّر رحلة مجموعة من الراقصين العرب والأوروبيين إلى بيروت للمشاركة في مسابقة «الموجة السابعة» للرقص مع المصمّمة السويدية ماري برولين تاني. الفيلم يبدو أشبه بيوميات للبروفات والتدريبات، التي ربما تخصّ صاحبها. ولعلّه أدرك كم هي خالية من المعنى، فحاور راقصين تحدّثوا عن بعض مشاكلهم الشخصية، من قبيل مشكلة الفيزا لراقصة، أو مشكلة الخدمة الإلزامية لراقص في بلده. لكن تقديم تلك المشاكل بدا مفتعلاً، ومحاولة لابتكار معضلة ما تليق بفيلم تسجيلي. ويروي فيلم «الشعراني» لحازم حموي سيرة فنان الخطّ العربي المعروف منير الشعراني، راصداً سيرة الاغتراب والمنفى، ثم العودة إلى دمشق. غير أن السيرة الساخنة للشعراني بدت في الفيلم باردة وعلى السطح، بل بفائض من الشخصيات التي ثرثرت أشياء لا يحتملها الفيلم. ومثله، خلا فيلم أديب الصفدي «صفقة مع السرطان»، عن السجين السوري المحرّر من السجون الإسرائيلية سيطان الولي بسبب إصابته بالسرطان، من كشف جوانب مخفية، تلك الأشياء التي يصعب رؤيتها بكاميرا تلفزيونية عابرة.
أما فيلم «في انتظار أبو زيد» لمحمد علي أتاسي، فقدّم بورتريه ممتعاً وموجزاً ورشيقاً عن فكر الراحل المصري نصر حامد أبو زيد. لكن اللافت للانتباه أن الفيلم، الذي يأخذ مقاطع مطوّلة من محاضرات الرجل وندواته في غير جامعة ومركز ثقافي، بدا من بطولة أتاسي نفسه، إذ من غير المفهوم هذا الحضور الكثيف للمخرج في العمل، وتلك الوصاية التي يفرضها المخرج على المفكر، حتى لو كان صديقاً. فأثناء التحضير للّقاء مع الـ«بي. بي. سي.»، يسأل أتاسي المعدّ والمذيع أن يُري الأسئلة للضيف أبو زيد قبل البدء. أقلّ ما يقال هنا هل كان أتاسي الصحافي ليقبل أن يُري أسئلته لمن يحاوره؟ ماذا كان سيقول لو كان في وضع مشابه؟ فيلم أتاسي ممتع فعلاً، لا لشيء إلاّ لأن أبو زيد نفسه شخصية ممتعة، وفيها خفّة الدم المصرية المعتادة.
راشد عيسى
المصدر: السفير
التعليقات
سيد راشد أنا ألاحظ دوما ً في
إضافة تعليق جديد