الفطام المتأخر

29-10-2009

الفطام المتأخر

قبل خمس سنوات مات جدي على حلم العودة إلى أرضه التي تركها مرغماً  عام 1967 في قريته عيون حور في الجولان المحتل، وبعد وفاته خان خالي الوحيد وصيته وسطا على حصة والدتي في الإرث، الإرث الذي جاء ليس من ثروة ولكن من سقوط خالي الكبير شهيداً في النكسة، الشهادة التي صيرت خالي الحي فيما بعد  وحيداً، ومغضوباً أيضاً كما تقول والدتي.
لكن السؤال الذي غالباً ما يتردد عند سرد هذه القصة، لماذا وصلت أخلاقنا إلى هذا الحد من الانحطاط..أمي تسأله واسعاً: لماذا صارت الدنيا هكذا؟
يجمع السوريون على انقلاب في حياتهم، انقلاب على كل ما يمكن أن تسمى حياتهم، من الليرات التي لا تساوي شيئاً في جيوبهم إلى انهيار القيم التي كانت مصدر اعتزازهم لأنهم في الغالبية شعب فقير، والكرامة والشرف والأخلاق مفاهيم يتحدثون عنها كأملاك.
الموظف الذي كان محسوداً صار مسكيناً يثير الشفقة والتقزز بعد أن صار القطاع العام مجرد أغان عن المعامل وأبطال الإنتاج، وشعار تردده الطبقة العاملة في احتفالاتها، وبعد أن بدأت تتهاوى الشركات التي كانت ضمانة العامل من الأيام القادمة، وضمانه الصحي، وراتبه المحدود وإن يكن في أول الشهر، والتقاعد الذي ربما يسند الظهر المحني من سنوات الركض، وتعويض الوفاة الذي يساوي أكثر من كفن أبيض عندما يأخذ البرد الجسد إلى التلاشي.
شركات تعيش على زكاة وزارة المالية حتى نهاية العام، بردى التي وزعت على مطابخنا أدواتها الكهربائية عندما كان البراد حلماً، والدبس وكاميليا وشركات الزيوت التي حولتها وزارة الاقتصاد إلى وزارة التربية، أما ما تبقى من شركات على قيد الحياة تنتظر ربما... ما يشبه من سبقها، أو مستقبلاً مجهولاً في الأفق.
السوري الذي كان يرى في الدولة أماً، قررت بعد أن اعتاد ذلك أن تسحب الثدي وتعلن الفطام، الفطام الذي تأخر عقوداً، رفعت الأم الدعم عن الوقود، ثم قررت توزيع الدعم بعدل، ثم سيعتاد الولد على تدبير رأسه، السكر والشاي والرز وزيت القلي محفوظات كتاب الدولة الراعية انسحبت وراء بعضها إلى السوبرماركات، وصار الراعي الجديد ما يمن به التجار، وما يمكن أن تفرضه السوق المتوحشة على السوري بعدما أطلقت الدولة دورها الوحيد وهو التدخل عند الأزمات، أما كيف شكل التدخل فهو الزج بما لدى مؤسساتها من لحوم وخضار في السوق عندما تعترف بالأزمة، وعندما يكون المواطن قد خرج من فم التاجر عرياناً.
الدولة ليس لها علاقة بالتسعير كما يرى أبو عبدو الخضري البسيط، والتموين ليس لها علاقة، العرض والطلب، التاجر الذي يأتي بالبضاعة هو الذي يحدد السعر، والبندورة والبطاطا والثوم وجوز المكدوس والباذنجان وكل ما تنتجه الأرض سواء من مطر الله أو من الصرف الصحي قد تصير أزمة دون إنذار.
الكهرباء وبقدرة قادر انتقلت من العجز الذي أعتم بيوت السوريين طوال أشهر إلى استقرار، وفي أيام معدودات صارت فائضاً يمكن أن نصدر منه إلى الأشقاء المعوزين.
الوحدات الإدارية الصغيرة من بلديات وجالس قرى ترتزق على حساب القوانين الصارمة التي أرادت منها الدولة أن توقف المد الإسمنتي الذي يأكل الأرض، المكاتب الفنية تسمح للناس سراً بالبناء المخالف في العطل والأعياد وتقبض ثمن هذا التجاوز، ثم تقيم الحد على المخالف في أول نازلة من ورش الهدم.
دوائر المحافظات تغط في نوم عميق على شكاوى المواطنين، وعندما تتم المعالجة تكون الحاشية التالية: إلى رئيس المجلس البلدي لمعالجة الشكوى وإزالة المخالفة مع التصوير، يأتي الرد التالي: إلى محافظة.. المخالفة المذكورة تم تسويتها وهي تعود إلى ما قبل صدور القانون رقم 1 وتعديلاته.
المدارس العامة ليست صالحة للتعليم، التعليم الذي كنا نباهي به كل العرب، الأساتذة السوريون الذين أسسوا المدارس والجامعات من المغرب العربي حتى اليمن انقلبوا في سنوات ليست كثيرة إلى أميين، وما تبقى منهم توازعته المدارس الخاصة بعد أن سمحت الدولة بالخصخصة، فنهضت المدارس الخاصة أجمل من فنادق النجوم الخمسة، وصارت المدارس العامة مثل خرائب، أما الأستاذ الذي سقطت عصاه أولاً، ولم يعد يثير شعوراً بالهيبة والخوف لدى مروره المهيب في شارع طلبته ثانياً..فقط لأنه تحول إلى أستاذ خاص، سقط الأستاذ الذي أحببناه بقدر ما خشيناه ذا يوم بعيد.
الطبيب يخاتل مريضه، من مشفى المواساة أو المجتهد إلى أحد المشافي الخاصة التي تعاقد معها، وطبيب النسائية ينصح دائماًُ بالعملية القيصرية فهي لا تترك ترهلاً في البطن، ولا حناناً في القلب، كذلك يمكن أن يجري إجهاضاً إنسانياً، أو يقدم عذراء جديدة إلى زوج مخدوع، وطبيب الأسنان يقسط للمريض حسب نوع السن إن كان عظماً أو خزفاً، وعمليات التجميل لا تترك قبيحة أو دميمة، وكل الأنوف تتشابه، وكل نسائنا بضربة مشرط ماهرة قد يصبحن بأنوثة هيفاء وهبي.
انفتحت البلاد، السيارات تباع بالتقسيط كما الغسالات، العقارات وشركات العقارات والمكاتب العقارية تقدم العروض، جرائد الإعلانات تقدم لنا الخدمات والخادمات وأجهزة المتع الجنسية وحتى ورشات تنظيف المجارير، البنوك الخاصة والإسلامية تتنافس لكي تقرضنا، والكاميرات تراقب شوارعنا، وأنفلونزا الخنازير ما زالت تحت السيطرة، ونحن أقل بلدان العرب في عدد الإصابات بالإيدز، وفي حلب وحدها فقط 15 حادثة اعتداء على الأطفال، واعتداء وحيد على عجوز تجاوزت الثمانين، والفساد مصطلح عالمي، والفاسدين ليسوا منا.
جاء الفطام متأخراً.. أيتها الأم.

 

عبد الرزاق دياب

المصدر: مجلة تجارة وأعمال

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...