من يصنع العاهات في شوارعنا
من كلية الحقوق في البرامكة امتداداً حتى وكالة سانا، فوق جسور المشاة المنتشرة في أقدم عاصمة مأهولة بالتاريخ، على الطريق الممتدة أمام مدرج الجامعة وصولاً إلى المتحف الحربي، في نزلة الحلبوني وصولاً إلى محطة الحجاز، على طول شارع النصر وأمام القصر العدلي ومدخل سوق الحميدية، ثمة أسواق وحياة، وبشر يمارسون ارتزاقهم اليومي، الأحوال الاقتصادية السيئة والتنامي المرعب لما يسمى باقتصاد الظل يشكلان حالة حراك هناك.
المشهد اليومي لبائعي الدخان المهرّب، ألبسة البالة، الكعك بأنواعه، الحلويات الشعبية، الفواكه، مواسم من المنتجات في اليوم الواحد تعبرها أثناء مرورك السريع، لكن الأشد فظاظة منظر المتسولين وهم يجوبون المكان.
منذ أسابيع قليلة والمنظر يتكرر يومياً، يشير إلى ظاهرة جديدة علينا، ثمة أطفال مقطوعو الأرجل من الجنسين يفترشون الرصيف، نداء توسل موحد يخرج من الأفواه الصغيرة، وأطفال أصحاء يدورون بينهم، ثمة رابط يجمع كل هؤلاء.
«زيطة» يهرب من الرواية إلينا
لابد أنك بعضكم يتذكر صانع العاهات المصري زيطة، الشخصية المميزة في إحدى روايات الكاتب نجيب محفوظ، زيطة الذي يصنع العميان، ومقطوعي الأرجل والأيدي، سيخ الحديد المحمر من شدة الحرارة وهو ينغمس في عين طفل سيذهب للشارع من أجل استدرار العطف والإحسان.
الأطفال الذين يتمددون في شوارع دمشق وزواياها وعند المفارق، يتشابهون في عاهاتهم، ولكن مع تعديل طفيف في القدم المقطوعة، إما اليسرى أو اليمنى، ويكاد يخالجك الشك في كونها مقطوعة، ربما ربطتها يد خبيرة، وليس بالإمكان تفحصها عن قرب، خشية أن تجرح مشاعر الولد المعاق إن صحت إعاقته.
ثلاث فتيات يشبهن بعضهن، كأنهن شقيقات، تطغى الإعاقة على الفوارق الشكلية بينهن، وولدان آخران يتمدد أحدهما تحت عمود الكهرباء في الطريق المواجه لوكالة سانا، ترافقه بضع فتيات لا تتجاوز أعمارهن الأربع سنوات، الفتيات الصغيرات حافيات، مغبرات، مرتجفات.
تتشابه أيضاً الروايات التي يسردها الصغار عن أسباب تسولهم، الأم متوفية غالباً، والأب متزوج من أخرى قاسية وظالمة على الأرجح، أما من أين أتوا؟ فمن كل محافظات وقرى البلد، كما أنهم ليسوا ببراءة جيلهم أو بسذاجة من في مثل سنهم، أولاد علمتهم الشوارع لغتها الناضجة المشوهة.
هروب دائم
ممنوع الاقتراب والحديث.. تبدو هذه الجملة التي تختصر أشياء كثيرة وعميقة هي وصية الراعي لهؤلاء المتسولين: إياكم والحديث مع أحد، خصوصاً الإجابة على الأسئلة التي تحمل تساؤلات عن الأهل، مع من تعمل؟ كم، وماذا تجني في يوم التسول؟ كونها أسئلة قد تفضي إلى معرفة من وراء هذه الأجساد الملقاة على أرصفة دمشق.
إحدى الفتيات الصغيرات بدأت تستجيب لأسئلتي، قالت إن اسمها ريما وهي من ريف حلب، أبوها متوفى وأمها متزوجة من رجل لا يعمل، وهو يقوم بضربها إذا ما جاءت في المساء دون نقود، تنام مع أخ يصغرها في غرفة فقيرة، قالت: أنام أنا وأخي على حصيرة في بيتنا.
يبدو الرجل الذي لا يعمل وهو زوج الأم، هو من دفع تلك الفتاة إلى الشارع، في اليوم التالي ركضت الصغيرة فقد فعلت الـ25 ليرة فعلها السحري، ما جعل إحدى الصغيرات التي في سنها تقترب بخجل مني، سألتها مباغتاً: هل أنت صديقة ريما؟ قالت دون ارتباك: من ريما؟
الذي بدأ يتضح، لقد خدعتني الصغيرة وقد كذبت عليّ بسهولة، أين تسكنين؟ قالت: في الدحاديل.. فجأة تدخلت من تدعى ريما، وسحبت الصغيرة هاربة بسرعة.
الصغيرتان من الفتيات اللواتي يترددن على المعاقات الأكبر سناً، وقد بدأتا بمراقبتي عن بعد، كأنهما توجستا أمراً خطيراً، أو أن أحداً ما كان وراء موقفهما المريب.
تحت عمود الكهرباء
الساعة تقترب من السادسة مساء، البرد يلف المكان، وحركة المشاة تقل، وانفرج المكان عن صبي يبلغ حوالي العاشرة من عمره، يمد الولد قدماً واحدة أمامه، أما الأخرى فانحسرت داخل فردة البنطال، ربما مقطوعة، أو ملفوفة لاستدرار الشفقة، في حضن الولد خرقة كانت بيضاء ملقاة كصحن، رميت القطعة النقدية، انطلق دعاء خفيض من فم الصغير.
ما اسمك؟ يجيب دون تلكؤ: خالد، من المنطقة الشرقية، رحلنا منذ سنة إلى الشام، أسكن في غوطة دمشق، أمي تعمل في الزراعة، ووالدي مريض، نحن سبعة أولاد وابنتان..
من أين نعيش؟ سرد الولد قصة واضحة ومقتضبة كأنما حفظها بملل عن ظهر قلب.. لكن يا خالد هل تعرف بقية الأولاد في الشارع؟ قال الولد: لا والله، هؤلاء يعملون مع رجل كبير... مهنتهم، لهم نسبة، مشردون، أنا وصلت إلى الصف الخامس، هؤلاء مشردون.
تحت عمود الكهرباء بقي خالد أكثر من ساعتين قضيتهما في الدوران.. أما هو فممدد تحت العمود.
أمام باب الجامعة
في الظاهر ليس تسولاً ما يمكن أن نطلقه على بعض الأعمال التي يمارسها مجموعة من الصبية الصغار المتناثرين على زوايا العميقة للأرصفة.
أمام باب جامعة دمشق- مشفى الجلدية، يقعد ولد وراء ميزان الكتروني، في أغلب الأوقات لا تستطيع أن ترى لون عينيه، يدان صغيرتان تحملان القطع النقدية، من فئة الليرتين إلى فئة الخمسة والعشرين ليرة، ترمي العشر ليرات بعد أن يدور عقرب الميزان تخرج اليد الصغيرة من الجيب بارتعاش، يمد لك قطعة الخمس ليرات، دعها لك.. صوت خفيض ينبعث من الجسد الواهن البردان أو المحرور.. شكراً.
في شارع الثورة طفل آخر يتحرش بالمارة.. (وزّن حالك).. خمس ليرات يا معلم، عينان تراقبان المارة.. لا تستعطفان أحداً، عينان تريدان الحياة بقوة.
في الحالتين ثمة مشكلة في صنع رجل سيكون ذات يوم في الطريق، ربما سيكون الخجول متسولاً يردد دعوات الاستجداء، أو نشالاً.. لكن عينَي ذلك الطفل ستولد سارقاً فظاً، أو قاتلاً صنعته القسوة التي تنمو في الشوارع دون خجل أو خوف.
إعاقات جديدة
ألا يشكل اقتصاد الظل الذي يشكك وزير المالية في نسبته، أو بالأحرى في الأرقام التي توردها الصحافة والتقارير الاقتصادية، لكنه يؤكد في تصريح أخير أنها لا تتجاوز الـ30% من اقتصادنا الذي يقوده الفريق الاقتصادي الذي يأمل بأن يصل بالسوريين إلى اقتصاد مفتوح فيه الخلاص بنهاية الخطة الخمسية العاشرة المنتهية مدتها قريباً.
في المساء والظهيرة والصباح، في كل الفصول، الشوارع الدمشقية على اختلاف مستواها الاجتماعي والاقتصادي تكتظ بالباعة المتجولين، البسطات، طالبي العمل، فتيات يبعن الكتب غير الرائجة، مساحيق التجميل، عبوات الشامبو.. في البيوت، المحلات، وحتى الحدائق.
عند الفجر.. باعة الكعك والحليب، الشاي والميلو، على الدراجات والسيارات الصغيرة في الكراجات، في زوايا الطرق الرئيسة، وفي الأزقة... قبل أن يبدأ الصباح يلملم بعضهم وظيفته الليلية.. بانتظار وظيفة النهار، وظيفة الدخل المحدود.
طلاب جامعيون.. في المطاعم يقترب منك النادل، ثمة علامات الأدب لا الدماثة التي تقتضيها المهنة، في أكثر من حوار عابر.. إنها سنة التخرج، أما الذين يبحثون عن عمل عابر في سوق الهال يمكن أن تجد بعض القادمين من مدينة درعا، ثمة إيجار آخر الشهر لغرفة يسكنها ثلاثة شبان.. مصاريف الجامعة، وفنجان قهوة في كافتريا الجامعة.
في بعض المحلات التي تحمل أسماء لامعة وأجنبية، في بعض المراكز الثقافية.. فتيات حملن الحلم، ورضين بمهنة احتكرها الرجال، ربما في فيلم أمريكي يمكن أن تجدها... نادلة.
الصحافة الخاصة والحكومية، المواقع الالكترونية أو ما تسمى الصحف الالكترونية، مؤسسات الإنتاج، الفضائيات الخاصة، الفضائيات طور الإنشاء، دور النشر... ثمة مثقفون، صحفيون، كتاب دراما، شعراء، مذيعون، موهوبون، بشر يتدافعون للحصول على وظيفة.. دخل (شو ما كان)، أعمال لا تتناسب مع مواقفهم ومخزونهم المعرفي والأخلاقي، أعمال رفضوها ذات يوم، فرصة عمل من أجل الحياة.
عيادات الأطباء، شركات الطيران، الشركات الخاصة التي لا تحمل لافتات، دوام على دفعتين، تحرش المدير، معنى لفظة سكرتيرة في عالم ثالث يضج بعفن الرذيلة المُنتَجة في أماكن مشابهة.
أسماء كبيرة في الوسط الصحفي، مدراء وأمناء، محررون، متدربون، موهوبون من خارج الوسط، آلاف قليلة آخر الشهر، وفي أغلب الأحيان لا تدخل هذه القلة الجيب لشهور طويلة.
كومبارس يجلس في مقهى يتبع لفندق، يتحدث بصوت مرتفع عن أدواره، مجموعها على مدار سنوات العمل لا يتجاوز ساعة دراما.. ربما يكون أحد الحاضرين يحضّر لعمل جديد.
تصريحات.. خارجنا.. خارجهم
لم تزل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تتحدث عن مكاتب التشغيل التي تحقق الفرص الكبيرة لجموع الشباب الذي يحلمون، ولو بدون أمل، ببيت صغير وزوجة، وتتحدث عن دور الإعاقة والعجزة والمسنين، وتحاول جاهدة كجزء من عقلية الفريق الاقتصادي القول بأن لا فقراء في سورية.. هناك محدودو دخل وحسب، وأن قانون العمل يجب أن يحقق العدل من خلال العقد شريعة المتعاقدين، وأن صاحب العمل مسكين مثل العامل، وأن فندق الفورسيزن مثل أي عامل يطرده ويرميه وأولاده في الشوارع الرحبة.
لم تشهد شوارعنا الحميمة هذا الكم من المتسولين والمعاقين، ولم يتجرأ (زيطة) السوري على ممارسة صناعة الإعاقة لولا أن رأى جموع المعاقين الذين تم صنعهم أمام مرأى الفريق الاقتصادي في زمن قياسي.
لهذه الأسباب
في الطابق الرابع تستأجر امرأة مع رتل من الأولاد شقة متواضعة، الصغار جميعهم خارج المدرسة، وزارة التربية التي لم تعد ملزمة بمنع التسرب، الوضع الاقتصادي المهلهل، سيدفع بالرتل الذي ينام على حصير فقير بالنزول إلى الشارع أسوة بكل القطط التي تبحث عن طعامها، فالإنسان بالمحصلة كائن يدفعه الجوع للبحث عما يملأ المعدة.
نحن الذين نمتهن الكلام، في أول الشهر نذهب إلى المحاسب لنأخذ ثمن ما كتبناه عن هؤلاء.... لكننا هم.
عبد الرزاق دياب
قاسيون
إضافة تعليق جديد