اللعنة والحنين الى الجذور

16-12-2007

اللعنة والحنين الى الجذور

ـ1ـ بعد أن تفجرت نوافير الدم في شوارع الجزائر، وتطايرت جثث الضحايا بالقرب من المؤسسات العامة، كان لا بد من طرح السؤال التراجيدي المزمن الذي يطرحه الجزائريون دوماً: «ما هويتنا؟» المنفيون في ضواحي باريس يرطنون بالفرنسية، ويستمعون الى موسيقا الراي، والمتشبثون بالتراب يحملون الخناجر والأحزمة الناسفة، والثوار القدامى اكتشفوا فوائد الفساد، و«الوطن ـ الأم» حريص على الكل، ويدعو الى الوحدة الوطنية، ولكن الخنادق محفورة، والقطيعة مرسومة على الوجوه، والحقد مخزن في قبضات اليد.

كنت على موعد في مقهى في ضاحية سان دونيس، المكتظة بالمهاجرين العرب المغاربة، مع الروائي الجزائري «رشيد ميمون»، هذا المتسكع المزمن في شوارع باريس، حاملاً «وطنه» على كتفيه، ومحنة انتمائه داخل صدره. كان قد أهداني روايتيه «محنة تعاش، واللعنة» بالفرنسية، بعد أن أعادت دار نشر كبيرة طبعهما، وهو متلهف للاستماع الى «تقريعي وتوبيخي» من جديد، إذ كنت ألومه دوماً على تقشير جلده الوطني، وتفرنسه، وإصراره على أن لا مخرج لنا إلاّ بتنصيب «روبسبيير»، واستظهار «فولتير»، والاستحمام في براكين «رامبو» وكان ينهي كل مناقرة معه بقوله: «لابد من الحرائق لنتطهر من كوابيسنا وخرافاتنا». ‏

وقد بادر، قبل أن نبدأ السجال، باهدائي رواية للكاتبة الجزائرية الشابة «مليكة مقدم»، واسمها «الممنوعة»، تروي فيها تجربتها في «مجتمع الجراد» ولتعلن تمردها على «وطن الممنوعات» قال لي بحرارة: «الرواية أجرأ فضح للمجتمع الجزائري، بل المجتمع العربي المعاصر كله، حيث الغلبة لامتداح التخلف والعطالة والبلادة، ولهجاء الحداثة والعقلانية والتفتح» وصمت فترة ثم تابع: «لا أريد أن ألخص لك الرواية، ستقرؤها وستبدي فيها رأيك، ولكنني سأروي لك ثلاث قصص صغيرة من الرواية تثير شعوري بالمهانة والغضب». ‏

ـ2ـ ‏

أرادت بطلة الرواية، في القصة الأولى ـ وهي طبيبة من منشأ فلاحي متواضع ـ أن تشارك في جنازة زوجها الذي توفي فجأة إثر حادث مؤسف، وحينما نزلت الى الشارع، واتخذت مكانها وراء النعش مع المعزين المحتشدين، أتى من نهرها وجذبها من يدها بقسوة، وقال لها: «لا مكان للنساء في الجنازة» وقد بكت وشدت شعرها، ولم تفهم لماذا تحرم من حق المشي في جنازة زوجها، التفتت الى الحشود وصرخت بهم في حقد: «الى الجحيم يا أولاد الزنا! لماذا يحق لكم أن تمشوا في جنازته، وأنتم لا تعرفونه، في حين أطرد أنا، وأنا زوجته وأقرب الناس إليه؟!». ‏

وقامت فتاة شابة بزيارة الطبيبة ـ في القصة الثانية ـ وأعلمتها انها تشكو من اصفرار لون وجهها، وهي تعرف السبب، وتريد أن تعالج، وبعد فحصها تبين للطبيبة أن الفتاة في صحة جيدة وأن لا وجود للاصفرار على وجهها، وكم كانت دهشتها كبيرة حينما أعلمتها الفتاة أن جدتها تقول لها دوماً إن لونها أصفر لأنها فقدت بكارتها، ولن يتزوجها أحد، هذا ما كشفته داعية مشعوذة نجحت في إقناع الجدة به ثم حاولت الجدة أن تقنع حفيدتها به. ‏

وحينما أكدت الطبيبة للفتاة أنها ما تزال عذراء وان مزاعم الداعية لا أساس لها من الصحة، أخذت الفتاة تبكي وتكرر: «سأبقى صفراء الوجه حتى الموت، ولن يتزوجني أحد!» ولم تفلح كل وسائل الطبيبة في الاقناع، وغادرت الفتاة وهي ما تزال تبكي وتندب حظها العاثر. ‏

وتروي «مليكة مقدم» أخيراً ـ في حكايتها الثالثة ـ قصة رجل في مقتبل العمر، زار عيادة الطبيبة، بطلة الرواية، وطلب منها أن تصف له بعض الأدوية المسكنة، وحينما اقتربت منه لفحصه، ابتعد عنها وهو يبسمل!» ورفض أن تلامسه قائلاً: «أنت امرأة لا يحق لك أن تلامسيني!» وقد تبين بعد إجراء الفحوص المخبرية أن الرجل مصاب بالسيدا «الايدز»، وهنا سألته الطبيبة: «هل تمارس الجنسية المثلية؟» فصرخ بها غاضباً: «ماذا تقولين، أنا مسلم!» وأفهمته الطبيبة انه إذا لم يدخل المستشفى حالاً، فقد ينتشر داؤه الخبيث في كل مكان، وإذ ذلك ركع وصلى وقال: «الله وحده قادر على شفائي، الى الجحيم يانساء آخر الزمان!». ‏

وقال لي «رشيد ميموني»، بعد رواية قصص «مليكة» الثلاث وهو لايخفي اغتباطه: «ألم أقل لك إنه لا بد من الحرائق لنتطهر من كوابيسنا وخرافاتنا...». ‏

ـ3ـ ‏

أحسن ترجمة لرواية «رشيد الميموني» الأولى هي «محنة تعاش» وقد تترجم «هذا الوجع الذي نعيشه» والمقصود بالمحنة أو الوجع النظام الديكتاتوري مهما كان شكله. يكتب «الميموني»: «ليس المهم أن يكون للديكتاتوريات اسم أو موقع أو وطن، فملامحها متشابهة، وأساليبها متطابقة، شرقية كانت أم غربية، في الشمال كانت أم في الجنوب، متدينة كانت أم ملحدة، المهم الكشف عن آليات سيطرتها على المجتمع، وأساليب تحكمها في قمة الهرم، وطرز غسلها للدماغ. ولا يوجد إلاّ موقف مشرف واحد منها هو مقاومتها بالكلمة، بالصورة، بالأغنية، بالقصيدة، بالرواية. ‏

تجري حوادث الرواية في ظلام «التقية» الرهيب، فليس هناك اسم لشخص معين، أو بلد معروف، أو مكان محدد، أو زمن بالذات، الرواية مرجعية ذهنية، حالة مرضية سريرية. وانها «أحداث سرية» مرهقة، إما بدافع الخوف من السلطان، أو مبالغة في الحيطة الأمنية، في وقت يقف فيه الكتاب أمام خيارين، إما سراديب السلطة أو خناجر السلفيين. انها قصة يتيم لقيط، ينطلق من الصفر الى القمة، مستخدماً كل أساليب الخداع والغش والاحتيال والتزوير، لتحقيق أغراضه في السيطرة والتملك، إنه لا يتورع عن ارتكاب الجرائم للتستر على تسلقه في سلالم التراتبية، ولا عن الخيانة لحماية مكاسبه. ‏

ولا يجد «رشيد ميموني» منفذاً للخروج من هذا المستنقع اللزج إلاّ الفرار، والالتجاء الى فضاء مشبع بالأوكسجين حيث «لا يمنع الإنسان من التنفس، والضحك والصراخ»، وكما هرب بطل «عبد الرحمن منيف» من شرق البحر الأبيض المتوسط فكذلك يهرب بطل «رشيد ميموني» بلا أمتعة، ولا ذكريات، ولا أحلام . انه لا يريد أن يكون بطلاً، ولا متمرداً، وانما مجرد إنسان طبيعي له الحق في أن يستحم عارياً في المياه المالحة، أو أن يتأبط ذراع من يحبها دون أن تطارده عيون البصاصين. ‏

وأقول لـ «رشيد ميموني»: «ومتى تعود الى الوطن اليباب؟». ‏

قال، وهو يتفرس في وجوه الملتصقين بمقاعدهم الخشبية: «أين المفر؟ هؤلاء حملوا الوطن اليباب معهم، وغرسوه في هذه الضاحية. لقد اقتلعوا «القصبة» واسكنوها سان دونيس، وقد يزحفون على باريس، ذات يوم». ‏

ـ4ـ ‏

في رواية «اللعنة» ينتقل «رشيد ميموني» من «أدب التقية» الى «أدب الشهادة» ويقدم لنا تحقيقاً صحفياً رومانسياً عن بلاده الجزائر، دون مكياج ولا مساحيق، منتقلاً من التلميح والتلويح الى التنهيد والتحريض. تجري حوادث الرواية في مستشفى، والاختيار مقصود، فالمستشفى هي الجزائر، والمرضى مصابون بمرض واحد، بعصاب جماعي، هو «الوباء الوطني». ‏

وأبطال الرواية ثلاثة: «موريس» الارستقراطي الذي يلتحق بثورة التحرير بدافع المغامرة، لا الولاء الوطني، و«المسيلي» الانتهازي الذي ينتمي الى حزب جبهة التحرير وينقلب الى مسؤول يتاجر بكل شيء، والطبيب «عبد القادر» الذي ينخرط في صفوف السلفيين المتشددين بدافع «الاخلاص للأصول، والجذور». ‏

يقول «رشيد ميموني»: «اتهموني بالجبن بعد صدور روايتي الأولى «محنة تعاش» لأنني اكتفيت بهجاء الديكتاتوريات دون تحديد المكان والزمان، وكان عليَّ أن أبرهن على شجاعتي، فأصدرت الرواية الجديدة «اللعنة» وأنا أسمي الأشياء بأسمائها: المكان هو بلدي الجزائر، والزمن هو عام 1992 وما بعده. ‏

شخوص الرواية الثلاثة هم رموز لزمر اجتماعية، واضحة المعالم: هناك النخبة الارستقراطية المتفرنسة التي ترى أن طريق الخلاص الوحيد هو تغريب الجزائر، أي قلبها من دولة شرقية الى دولة أوروبية، كما فعل «أتاتورك» بتركيا، وهناك المجاهدون الذين خاضوا حرب التحرير واستلموا مقدرات البلاد، ثم فسدوا وأثروا وأصبحوا عبئاً على التطور، وهناك أخيراً السلفيون الاسلاميون الذين يعتصمون وراء الأصالة الحضارية والتراث الديني الخالد، وهؤلاء يخوضون معركة حياة أو موت، بهدف تمسك الجزائر بأصالتها الحضارية الإسلامية، إذ فضلوا «الإرهاب» لتحقيق أغراضهم. وبما انني أرفض الحلول الثلاثة المعروضة، وأنا غير قادر على أن أحرر بلادي منها، فضلت أن أرحل وأن أكون منفياً عن طواعية، حفاظاً على نزاهتي وحريتي». ‏

قلت، وأنا أقاطعه: «ومتى كان الفرار نزاهة وشجاعة؟». ‏

ـ5ـ ‏

كان المقهى راكداً وزبائنه متعبون، مرهقون، وفجأة يرتفع صوت مذيع في إذاعة مهاجرة محلية: «لا تكتئبوا سننقلكم الى الوطن في توابيت فاخرة، وبأسعار زهيدة!» ويتوقف الجميع عن الثرثرة والتثاؤب، وينظر البعض الى البعض الآخر، وتترقرق الدموع في مآقيهم، وأخيراً يتنهد شيخ ويقول: ‏

ـ جزاهم الله خيراً! سننقل الى وطننا في توابيت فاخرة! ‏

وأنظر الى السيد «ميموني» وأقول: ‏

ـ وهل ستقبل العرض، بعد عمر طويل في المنفى؟. ‏

ويقول لي، وكأن صوته آت من بئر سحيق: ‏

ـ سأعود قبل موعد رحيلي، وسأغني مع هذه المغنية الفرنسية الحزينة، «أديث بياف»: «لشد ما كرهتك ياوطني، ولكنني لن أتغطى إلاّ بلحافك!». ‏

وأطرق برأسي، ولا أقول شيئاً. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...