المجتمع المدني أو المجتمع التشاركي
الجمل: ألبرت : لنبدأ , هل يمكنك أن تخبرنا عن بيئة التنظيم في البلقان ؟
غروباتشيك : هناك تعبير اجتاح الصحافة التقدمية في كل البلقان يندس مثل الطيف على مكتب المحرر . إنه حاضر في كل "التحليلات النقدية" و قد أصبح من غير الممكن تجنبه في خطاب ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية . هذا التعبير هو "المجتمع المدني" . إنه يشير فقط إلى تلك العناصر غير الحكومية التي يفترض أن تعمل لحساب الصالح الاجتماعي . يبدو أن هذا المصطلح قد ذهب أبعد من الكياسة المدنية و توج ملكا في الصحافة السياسية في البلقان .
في الغرب أيضا , من المستحيل عمليا الابتعاد عن هذا المصطلح . إنك تجده حتى عندما لا تكاد تتوقعه . "لماذا لا نصاهر بين دافوس و بورتو أليغري ؟" هكذا سأل فيليب واتز , رئيس شركة شل , في نبرة جدية في اجتماع عقد في المنتدى الاقتصادي العالمي في نيويورك . إن حقيقة أن منتدى بورتو أليغري في السنة الماضية قد حضره هذه المرة ثلاثة مرشحين للرئاسة الفرنسية , و ثمانية أعضاء في الحكومة مع رئيس الوزراء جوسبان , و 200 محافظ لكبريات مدن العالم , تذكر بحقيقة أن المقاومة العالمية للنيو ليبرالية قد أصبحت "حقيقة كوكبية" . لكنها أيضا تحذر مما قد يشكل التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المقاومة حتى اليوم مهددا بتدمير الحركة نفسها : و ذلك باسم "المجتمع المدني" .
لكنك سألت عن البلقان . هنا تجد كوميديا "الإصغاء و التحسر" تسيطر على لغة المجتمع المدني المنمقة و على ممارسته التي هي في أقصى مراوحتها . عن ماذا يدور كل ذلك ؟
يغير الخطاب الرأسمالي مقاربته المتنمرة السابقة ( إنه ينكرها بصوت عال ) , في عملية تغيير للمظهر تترك الإنسان غير قادر على التقاط أنفاسه . تشتمل هذه المفرقعات الكلامية على عبارات "الاتفاق المشترك" , "الشفافية" , "الأخلاق" , و – عبارتي المفضلة – "التراص" . و لإعطاء النظام الراهن لباسا ناعما مخمليا فإنه يحتاج إلى شركاء – خاصة أولئك الذين ينكرونه . من هنا تبدأ كوميديا المجتمع المدني , الضجة و الغضب المخفيين بشكل كبير , الأساطير الجديدة عن "القرين أو الشريك المدني" و الذي يهدف , ضمن إستراتيجية السلطات , ببساطة إلى دمج الرافضين .
ألبرت : هل يمكن أن تعطي أمثلة ؟
غروباتشيك : إن "شراكات من أجل السلام الاجتماعي" في البلقان تقف في خدمة الحفاظ على "الأحادية الاجتماعية" . هل تنتقد النموذج النيو ليبرالي للوزراء الصرب ؟ سيطلب منك أن تقول وجهة نظرك . هل تستغرب من واقع أن رومانيا توقع اتفاقا نيو ليبرالي مع الولايات المتحدة ؟ سوف يستقبلك وزير الدفاع و يصغي إليك باهتمام . هل يقلقك الفقر في كرواتيا ؟ تعال إلى مؤتمر "تخفيض الفقر" الذي تنظمه الحكومة . إنها إعادة تجديد النظام بواسطة انتقاده , الاستعداد لإعادة إحيائه عبر إنكاره , الأبوية في هيئة المشاركة – كل هذه الأشكال من السيطرة الاجتماعية هي قديمة بقدر قدم النظام نفسه .
وفقا لكتابات لوك بولتانسكي عالم الاجتماع فإن الرفض الذي واجهته الرأسمالية في السبعينيات أدى إلى خلق "روح جديدة للرأسمالية تهدف إلى تسكين الانتقاد الموجه لها بالإقرار بجدارتها , أو بتجنبها ببساطة بعدم الاستجابة لها" .
إن التحكم الاجتماعي من خلال المجتمع المدني يوفر تفاعل عدة نماذج مختلفة من السيطرة . يمكن للسلطات أن توجه النزاعات الوهمية بحيث أنها تسمح لخصومها المصطنعين الذين تختارهم بتحديد الصعوبات الاجتماعية التي ستتمكن عندها من خلال الحوارات من أن تجعلهم جميعا معا – دون أن تحلها و لو حتى بشكل جزئي – لكن من دون أية خسارة جدية من جانب النظام .
عندما يصبح النظام نفسه موضع تساؤل عندها تقف النخب بالطبع ضد هذه المعارضة و تدافع عن التغيير فقط ضمن حدود ضيقة لا تهدد النظام . ينبع من هذا نزوع أو ميل "المجتمع المدني" إلى أشكال مختلفة من الفكر الإصلاحي الذي يتساهل مع رفض بعض جوانب النظام , لكن دون أن يتساهل أبدا مع رفض مبدأ وجود هذا النظام . بكلمات أخرى , يسعى "المجتمع المدني" إلى تغيير قواعد اللعبة بعض الشيء هنا و هناك , لكن لأنه مندمج في النظام , فإنه يستمر في المشاركة باللعبة بشكل خانع و مستسلم .
ألبرت : إذا أنت تشير إلى أن تجاوز المجتمع المدني و التنظيم الإصلاحي الذي يأخذ على عاتقه المحافظة على النظام , هو شيء لا بد من حدوثه . ما الذي تفكر فيه في هذا الصدد ؟
غروباتشيك : يجب التخلي عن فكرة المجتمع المدني لحساب رؤية عن مجتمع آخر لا يقوم على التمييز الطبقي أو الديني أو الأثني . إننا نحتاج إلى مجتمع تشاركي يلتزم ب"سياسة حقيقية من تحت أو من أسفل ( أي من القاعدة – المترجم ) .
لكي نقترب أكثر من هذا المجتمع من الضروري أن "نخرج من اللعبة" , أن نتخلى عن النظام , أن ننفي " اجتماع شميتز*" التجريدي و أن نختار "الصراع الاجتماعي" , أي القطع مع التواصل و التنظيم الاجتماعي السياسي التقليديين . إن "نزاعا" كهذا سوف يعني تجاوز الاعتماد الذي لا نهاية له على أحزاب سياسية نموذجية تقليدية , نقابات قائمة على التراتبية الهرمية , و منظمات غير حكومية متبقرطة ( أي خاضعة للبيروقراطية – المترجم ) , و أن نختار طريقا جديدة نحو نماذج جديدة من الاجتماع .
إنه الوقت اليوم , هنا في البلقان , للقيام ب"حوار اجتماعي أفقي" . إن كل حوار اجتماعي عمودي كما نراه في التاريخ قد تحول إلى مونولوج ( حديث يحتكر فيه الكلام متحدث واحد – المترجم ) يبقى فيه العمال أولا "دون أن يتمكنوا من الكلام , و من ثم دون أن يحصلوا على أية نتيجة" .
على العكس علينا أن نسعى إلى حوار اجتماعي أفقي يجري بين كل المشاركين في العمليات الاقتصادية الاجتماعية – كل العمال , بما في ذلك أولئك الذين سيخسرون وظائفهم , العاطلين عن العمل الذين خسروا وظائفهم بالفعل , اللاجئين و "الناس المرحلين عن منازلهم" الذين ليس لديهم ما يخسرونه , و الغجر الذين لم يملكوا أي شيء في أي يوم قط , و الطلاب الذين لا يستطيعون الذهاب إلى الجامعة , المزارعون , ناشطو الحركات الاجتماعية , النساء و كثيرون غيرهم .
ألبرت : أين يجري هذا الحوار الأفقي ؟
غروباتشيك : يمكنه أن يناقش فورا "الخطة الجماعية الأدنى" , و هي حق اجتماعي يجب أن يتضمن : مطلب الدخل الأدنى , رفض الخصخصة كنموذج , و تطوير إستراتيجيات تخضع السعي وراء الأرباح لأولوية المحافظة على الموارد غير القابلة للتجدد و على البيئة الحقيقية , لكن يجب أيضا أن تسعى إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى في سبيل اقتصاد جديد تماما . عوضا عن الدفاع عن شكل بناء أو إيجابي من الخصخصة فإن الحوار الاجتماعي الأفقي سوف يقود إلى الدفاع عن علاقات اقتصادية تضامنية و تشاركية , تتضمن انتقالا مختلفا يشدد على المبادرة الجماعية و الديمقراطية الحقيقية , و التي تأخذ بعين الاعتبار , في حساباتها , ثمن المعاناة و الكرامة الإنسانية و كل شيء آخر ذا قيمة أكبر من الأرباح .
ألبرت : أنت تقول أنك تسعى وراء الديمقراطية , الديمقراطية الحقيقية . ماذا تعني بذلك ؟
غروباتشيك : إنني أعتقد أنه بالنسبة للبلقان فإنه الآن هو الوقت المناسب تماما بالنسبة للحركات الاجتماعية لتحاول أن تعيد ابتكار – حتى أبعد من الديمقراطية – الإدارة الذاتية أو التشاركية كما أفضل أن أسميها . يجب ألا تكون "التجربة اليوغسلافية" مصدرا للتردد هنا . لم تكن في يوغسلافيا ملكية خاصة لوسائل الإنتاج , هذا صحيح , لكن كان هناك نظام سوق حد بشكل دراماتيكي من الخيارات الاقتصادية و كان هناك أيضا تقسيم العمل القائم على الشركة الأمر الذي أدى لتعيين طبقة حاكمة تنسيقية ( مسؤولة عن تنسيق الإنتاج , المترجم ) فوق العمال من حيث السلطة و الدخل . كانت هذه هي أصل شرورنا الاقتصادية .
لذلك فإننا لم نملك في الواقع – فيما كان يسمى بيوغسلافيا الاشتراكية – إدارة ذاتية حقيقية بل فقط إشارة بلاغية عنها . كان لدينا ظاهرة سماها دجيلاس "طبقة جديدة" في السياسة , الأمر الصحيح تماما بالنسبة للدولة , و لكن لنذهب أبعد من دجيلاس الذي حدد فقط البيروقراطية السياسية , علينا أن نرى أنه كان لدينا نحن أيضا طبقة حاكمة تقوم بالتنسيق نشأت من بنية اقتصادنا . لا يمكن أن توجد إدارة تشاركية في وضع يستخدم فيه الاقتصاد السوق و تقسيم العمل القائم على الشركات , مهما كان شكل الدولة , بيروقراطية أم لا .
ألبرت : هل تعتقد أن وضع رؤية اقتصادية تدافع عن التخطيط التشاركي عوضا عن الأسواق , و مركبات العمل المتوازنة عوضا عن تقسيم العمل القائم على الشركات , و التي تفضل ما قد تسميه إدارة تشاركية عوضا عن طريقة اتخاذ القرارات السلطوية أو التسلطية , قد يكون مفيدا للبلقان ؟
غروباتشيك : إن احتمالات المستقبل لهذا النوع من النماذج , النوع الذي نسميه اقتصاديات المشاركة , في البلقان اليوم , كبيرة . إن نظاما اقتصاديا تحرريا يساريا لا سلطويا , و الذي يحقق الفعالية الاقتصادية لتلبية الحاجات و تحقيق كل الاحتمالات الكامنة فيما يحفز التضامن , التنوع , العدالة و الإدارة التشاركية , مع نتائج إيجابية أيضا بالنسبة لبقية مناحي الحياة و المجالات الأساسية في المجتمع كالسياسة و العلاقة القائمة على القرابة و الثقافة , يمنحنا وعدا ( أملا ) بمجتمع من دون طبقات حقا و ببديل قوي عن كل من النماذج النيو ليبرالية المفضلة اليوم في البلقان , و الأنظمة التسلطية التي أفضل أن أدعوها الاقتصاديات التنسيقية التي وجدت سابقا في هذا الجزء من أوروبا , بما في ذلك في بلدي يوغسلافيا .
أنت محق في أني لن أستخدم كلمة الإدارة الذاتية في البلقان . هذا لأنني أعتقد أن النزاع على اللافتات هو مضيعة للوقت . علينا أن نكون تكتيكين أكثر من أن نشوش على ما نعنيه باستخدام شعارات مضللة . إذا ما تحدثت عن الاشتراكية و الإدارة الذاتية في يوغسلافيا السابقة سينظر إلي الناس على أني مؤيد لتيتو أو عضو في حزب ميلوسيفيتش "الاشتراكي" . لن يصغوا إلى أي شيء أبعد من هذا الاقتران الخاطئ . لا أعتقد أنه لدينا وقت لمثل هذا التشوش . إن هذا يضر بالتواصل بالناس بذات القدر عندما أحاول التحدث مع بعض الأشخاص في بلغراد باليابانية , بل في الحقيقة , إنه حتى أسوأ .
إن البلقان , أو القسم الأعظم من هذه المنطقة , حسب أية نتيجة , هي البلد الأكثر فقرا بكثير في أوروبا . أكثر كلمة منتشرة هنا هي كلمة الإضراب . و لا أعتقد أننا نملك الحق لنضيع الوقت في نقاشات مشوشة لا تنتهي عن أية طبقة تشكل الأداة الثورية الحقيقية , أو عما تعنيه الاشتراكية بالفعل . أنا سعيد بأن أقول أنني أدعم الإدارة التشاركية , التي تعني تماما ما تعنيه أنت بالإدارة الذاتية , لأوصل رأيي و تعهداتي بطريقة يمكن أن تسمع من دون تحامل . و سأكون سعيدا أن أقول أنني أدعم اقتصاديات المشاركة ( باركون ) عوضا عن الاشتراكية لنفس السبب . أن تدعم الاشتراكية يعني هنا للناس أنك تدعم الطغيان . هذا لن يفتح الباب أمام حوار أفقي . لكن القول أنك تدعم نمطا اقتصاديا جديدا و قيامك بوصف خصائصه قد يساعد بفتح هذا الباب .
ألبرت : لكن هل سيقبل الناس في البلقان بالقول أن اشتراكية السوق كانت هي بالفعل السوق المنسقة و أنها لهذا السبب فإنها لا تعني أن هناك أي مستقبل أفضل أبعد من الرأسمالية ؟
غروباتشيك : لا أعتقد أن هذا الرأي شائع , على الأقل ليس حتى الآن . لكن لا يوجد ما قد يحول دون هذا . و هناك على الأقل بعض الناشطين , و مدارسهم , تحاول أن تنشر هذا الزعم . أريد أن أذكر هنا خاصة شبكة تسمى "د.م.س." موجودة في بلدي و هي عبارة عن ائتلاف من مجموعات لا سلطوية تحاول أن تستخلص طريقة جيدة لتدمج فكرة مركبات العمل المتوازنة داخل الحركات الاجتماعية حديثة العهد هنا , و أن تجد طريقة جيدة للاتصال السياسي – مستخدمة "لغة جديدة" لا تسبب الإرباك عند الناس – و أن تبحث في طرق جديدة لممارسة السياسة . هناك أيضا مبادرة جيدة جدا جاءت من سلوفينيا , حيث يحاول كل النشطاء الاجتماعيين من كل أنحاء البلقان أن يؤسسوا معهدا لدراسة الحركة العالمية . أعتقد أن هذا المشروع مهم جدا بالفعل .
ألبرت : هل تعتقد أن الناس سيجدون فكرة مركبات العمل المتوازنة تصحيحا لما خبروه في مكان العمل – أم أنهم سيرونه إفراطا من جانب اليسار المتطرف و الذي ستكون له نتائج مريعة ؟
غروباتشيك : إنني أصرف الكثير من وقتي و أنا أتحدث إلى العمال , داخل و خارج النقابات التي تسيطر عليها الدولة . إن انطباعي القوي هو أنهم يفضلون كثيرا هذا النموذج التشاركي , و ذلك ما أن يسمعوا به , و غالبا بشكل كامن داخلهم عن حق . يصح نفس الشيء عن ناشطي الحركات القاعدية . و من واقع مناقشاتي عن اقتصاديات المشاركة ( الباركون ) كنموذج جديد للتنظيم الاقتصادي فإن الناس يبدون شديدي الحماسة . بالطبع هناك أيضا من يرى هذا على أنه "إفراط من جانب اليسار المتطرف" أو أنه مجرد نفس الطرق القديمة في التخفي فحسب . مثلا , شاركت مؤخرا في نقاش علني مع أحد صانعي الإصلاحات النيو ليبرالية في بلدي . كان هذا الشخص يصرخ "شيوعية جديدة !" , "شيوعية جديدة !" طوال هذا النقاش . كان هذا ما دفعوا له ليقوم به . لكني لا أعتقد أن هذه الطبقة الجديدة من القوميساريين ( المفوضين – رتبة عسكرية و حزبية و سياسية في دول أوربا الشرقية "الاشتراكية" سابقا , المترجم ) الفكريين في دول البلقان يجب أن تكون جمهورنا , و على العكس فإن العمال يتقبلونها بشكل جيد جدا .
إن مركبات العمل المتوازنة , كما أفهم الفكرة , تعني وضعا يتألف فيه كل عمل من مجموعة من المهام و المسؤوليات , بحيث أن المستوى العام للحياة و خاصة تأثيرات تقوية أو تعزيز الإنسان التي يتركها العمل هي نفسها بالنسبة للجميع . من الصعب جدا , برأيي , الاختلاف مع رؤية للمجتمع تتخلص من التراتيبة الهرمية بين المدراء و العمال , المحامين و عمال خط التجميع . من يستطيع أن يعارض الاحتفاظ بالوظائف , لكن مع توزيعها بشكل عادل ؟
لقد قابلت ردود فعل إيجابية عارمة بين العمال و الناشطين العاملين من أجل العدالة الاجتماعية . إن رؤية مجتمع تشاركي حيث تتناسب مجموعة المهام و المسؤوليات التي يقوم بها فرد ما مع قدراته و التي تحمل تشاركا عادلا للظروف و المسؤوليات الروتينية و المملة و تلك الممتعة و التي تعزز العامل , تبدو بالنسبة للناس في توافق و انسجام بالتحديد مع آمالهم . و كذلك تفعل الإدارة التشاركية – أن يكون للناس آراء متساوية في القرارات التي تؤثر في حياتهم .
ألبرت : و ماذا عن مكافأة الجهد و التضحية فقط ؟ هل تعتقد أن الناس سيخافون أن ينقص ذلك من احتمالات أن يصبحوا أغنياء أو أنه سيعطل الإنتاج , أم تعتقد أنهم سيرون أن مكافأة الجهد و التضحية فقط ستعزز العدالة و تحسن دخولهم في نفس الوقت ؟
غروباتشيك : الاستجابة التي حصلت عليها كانت مثيرة جدا . نعم , بالنسبة لكثير من الاقتصاديين اليساريين – أذكر نقاشي مع رجل أنيق و مسن جدا و هو اقتصادي كبير , برانكو هورفات – فإن مكافأة الجهد و التضحية هي فقط نقطة مثيرة للجدل بشدة . لكني أعجز عن رؤية , كما علي أن أعترف , لماذا هو على هذا القدر من الصعوبة بالنسبة لبعض مناهضي الرأسمالية , حتى لو أنهم قد عانوا من التأميم المؤلم بأن أصبحوا اقتصاديين مشهورين , ليدركوا الظلم الجوهري الملازم للحصول على دخل أكبر بسبب أنك أكثر إنتاجا لأنك تملك مهارات أفضل أو موهبة أفضل بالولادة , أو لأنك تملك أدوات أفضل , ناهيك عن أن تملك سلطة أكبر أو ملكية أكثر .
أن تعطى الحق باستهلاك أكثر فقط بسبب أنك تبذل جهدا أكبر و تتحمل تضحية أكبر هو مناسب من الناحية الأخلاقية و هو أيضا – كما يبدو لي – يوفر حوافز مناسبة بسبب مكافأتنا فقط لذلك الشيء الذي يمكننا أن نؤثر به ( أي العمل القائم على الجهد و التضحية – المترجم ) , و ليس ذلك الذي يقع خارج تأثيرنا . يبدو أن الناس الذين تحدثت إليهم عن هذه القضايا في بلادي – عمال و فلاحين و ناشطي الحركات الاجتماعية – أكثر تقبلا بكثير لهذه الفكرة من زملائي المدرسين أو حتى المثقفين "المناهضين للرأسمالية" عموما . لكنني أظن أن هذا ليس بمفاجأة .
ألبرت : كوننا أمريكان فإننا لا نواجه بعض الاتجاهات الفكرية التي توجد في أوروبا . إنك تدافع عن اقتصاديات المشاركة و المقاربات المتعلقة به عن السياسة و الجنس و غير ذلك في البلقان . لكنني أتساءل فيما إذا كانت المقاربات اليسارية الأخرى تلاقي استجابة أكبر هناك , حتى بين الجمهور الذي تعمل معه – لنقل مثلا الأفكار الآتية من كتاب هاردت و نيغري و الأشخاص الذين يدافعون عن نقاط مركزية كالإمبراطورية و الملتيتود ( الجماهير أو الأكثرية – المترجم ) . هل تحظى أفكارهم بالدعم في البلقان ؟ هل تعتقد أنهم يساهمون بشكل إيجابي ؟ و هل ترى أية علاقة مع الأفكار الباركونية ( أي المتعلقة باقتصاد المشاركة – المترجم ) أم أن الفكرتين متناقضتين ؟
غروباتشيك : نعم , إن كتاب هاردت و نيغري الذي هو ممتع للغاية , كما يخبرني الناس الذين فهموه , مقروء بشكل واسع بين مثقفي اليسار . أنا لست متأكدا فيما إذا كان يلاقي أي دعم حقا . من الصعب جدا نقل ما الذي يحاولون قوله : إنهم يملكون أسلوب تعبير يستبعد الغالبية العظمى من القراء المحتملين , تاركين معظم حتى من أصحاب الثقافة العالية في حالة تشوش . إن قراءة كتاب يصف شيئا يدعى "الإمبراطورية" الشيء الذي أخضع كما يفترض الدول القومية , في بلد تحتله القوات العسكرية الأمريكية هو , كما أفترض , تجربة غريبة لمعظم القراء . لكني لا أريد القول أن هذا الكتاب ليس مفيدا . إنني أعتقد أنه ذا قيمة بالنسبة للمفكرين الماركسيين في بلد تكون فيها "الماركسية" إيديولوجيا الدولة الرسمية . إنني أفترض أنها تطرح عليهم تحد ما . لكنني أشك إذا كان يملك أي نفوذ جدي في هذا الجزء من أوروبا . قد أكون مخطئا بالطبع .
إن التحليلات الماركسية التقليدية للمجتمعات الرأسمالية تتمحور حول الاستقطاب بين طبقتين فقط : الطبقة الرأسمالية و البروليتاريا . بينما كلا من التحليلات الباركونية ( المتعلقة باقتصاديات المشاركة , الباركون – المترجم ) و تحليل هاردت و نيغري فإنها تعرض نموذجا مختلف جدا , نموذج يراد منه وصف الدينامكية الطبقية التي تميز أوقاتنا المعاصرة .
يقر هاردت و نيغري بالديناميكية المركزية في صعود كائن اسمه الملتيتود . لست متأكدا فيما إذا كان أي كان يعرف فعلا ما يعنيه هذا , لكن بشكل أوسع تبدو الفكرة و أن الطبقة العاملة قد فقدت موقعها المتميز كأداة ثورية و عوضا عنها هناك شيء اسمه الملتيتود , الذي يتضمن ربات المنازل , المزارعون , الطلاب , و غير ذلك . لست واثقا ما هو الجديد في ذلك , لكن هناك شيء ما مختلف و هو التقليل من الفوارق بين مكونات هذا الملتيتود . سوف نصبح جميعا في هذا الملتيتود . إن الفروق بين الرجال و النساء , المثليين جنسيا و "المستقيمين" , بين نماذج مختلفة من العمال و أيضا العمال و المدراء , و ما إلى ذلك , كلها تتلاشى في الخلفية و تحظى باهتمام أقل بكثير من قبل على ما يبدو .
تعرض التحليلات الباركونية نموذجا , على الأقل فيما يتعلق بالاقتصاد , ذا استقطاب ثلاثي بين الطبقة الرأسمالية و الطبقة العاملة و الطبقة التي تقوم بالتنسيق . كما أنها تضع تحت التركيز الحاد الفروق التي تتعلق بالجنس و العرق و غيرهما , محددة المؤسسات التي تقود إلى هذه المواقف المختلفة و محاولة تفهم الحاجات و الأجندات المختلفة و غير ذلك . تسعى أيضا الجهود الباركونية , مثلها مثل جهود هاردت و نيغري , إلى أن تجعل الناس ثوريين – و أنا أعتقد أن الناشطين الباركونيين يمكنهم أن يسموا أولئك الذين ينتهون إلى تلك النتائج بالملتيتود ما أن يصبحوا بأعداد كبيرة , لكنهم لن يتجاهلوا كيف يصبح أناس مختلفين ملتزمين اعتمادا على موقعهم في المجتمع كما أنهم لا يقللون من أن بعض الأشخاص العاديين ذا فرصة أقل لينتقلوا إلى اليسار من الآخرين و أنهم قد يمتلكون مصالح متناقضة . قد أصر على أن التحليل الأخير أكثر فائدة .
في الواقع إن التركيز على البعد الطبقي في أي تحليل يساري يعجز عن فهم دور الطبقة المنسقة كلاعب يمكنه أن يتسلم القيادة في تعريف الاقتصاد الجديد فهناك عندها فرصة جيدة أن تقود إلى ديكتاتورية , ليس البروليتاريا , بل ديكتاتورية الطبقة المنسقة ( من التكنوقراط و بيروقراطيي الحكومة و الحزب و المفكرين الرسميين و المدراء ) – تماما كما حدث في يوغسلافيا و الاتحاد السوفييتي .
إن التعارض الذي يوجد بين سعي الطبقة المنسقة لتنفيذ أجندتها الخاصة و سعي الطبقة العاملة لتنفيذ أجندتها الخاصة لا يمكن استبعاده بشكل إرادوي ( أي يتعلق بالإرادة و ليس بالواقع – المترجم ) باسم "الملتيتود" . للتخلص من النزاع يجب أن يكون لدينا حركة تقوم اعتمادا على وعيها الذاتي ببناء البنى الجديدة التي تقضي على الانقسامات الطبقية عوضا عن أن تضع الطبقة الأكثر تعلما و قوة في مجتمعنا في موقع القيادة في الحركة و بعدها في مجتمع الغد . لنكون قادرين على إقامة تحالف بين أولئك الذين في الطبقة المنسقة الذين يريدون عدالة حقيقية و بين الطبقة العاملة – أي أن نكون قادرين على بناء حركة قوية من أجل القضاء على الطبقات – فإننا نحتاج إلى الإقرار بالتناقضات , لا أن نخلق الاعتقاد بأنها ليست هناك . إنني أعتقد أن الموقف الباركوني قد يساعد في هذا المجال , سواء بتحديد المشاكل و من خلال الرؤية و الطرق اللا طبقية التي يقترحها . إن المقاربة التي تؤسس على فكرة الملتيتود يبدو أنها تعود أدراجها إلى الاتجاهات القديمة .
ألبرت : أخيرا ماذا عن الاتجاهات الأناركية في البلقان ؟ هل تتحرك باتجاه الأهداف و الغايات الاقتصادية مثل تلك التي كنا نناقشها , أو أن هناك أهداف أخرى في بالها ؟ هل لديهم رؤية سياسية للمنطقة و ما هو أبعد من ذلك ؟ هل تعتقد أن الاتجاهات الأناركية في البلقان يجب أن تجد المواقف الباركونية إيجابية أو أن عليهم أن يكونوا أكثر انتقادا لها ؟
غروباتشيك : إن الأناركية كفلسفة سياسية تشهد انفجارا حقيقيا هنا في البلقان في السنوات الأخيرة . إن المجموعات الأناركية أو التي تستلهم الأناركية تنمو في كل مكان , و قد أصبحت المبادئ الأناركية – الإدارة الذاتية المستقلة , التعاون الطوعي , التنظيم الذاتي , المساعدة المتبادلة , و الديمقراطية المباشرة – الأساس للتنظيم في عدد كبير من التعاونيات في البلقان .
لكنني سأكون حذرا جدا فيما يتعلق ب"الرؤية السياسية" التي يقترحها الأناركيون في البلقان . إن رأيا جديا فيما يتعلق بالرؤية هي أنها "نقطة عمياء" بالنسبة للأناركية هنا كما في كل مكان آخر , كما أخمن . أرجو أن يتغير هذا .
و هذا هو أحد الأسباب لماذا أعتقد أنا أنه على الاتجاهات الأناركية في البلقان أن تقر باقتصاديات المشاركة كرؤية اقتصادية أناركية تخلق المشاركة و زوال الطبقات و الإدارة التشاركية : أو الأهداف الرئيسية للأناركية . يتوافق الباركون مع معظم الأفكار الرئيسية للأناركية التقليدية ( الحرية , العدالة , التضامن , المشاركة , المساواة ) لكنها تساهم حتى أكثر في ما أفضل أنا أن أسميه ب"الأناركية المعاصرة" , من خلال توفيرها مؤسسات اقتصادية إيجابية خاصة لا يقترحها الأناركيون التقليديون , كما في مركبات العمل المتوازنة و التخطيط التشاركي . ما نحتاج إليه نحن الأناركيون أن نضيف رؤية سياسية تتماشى مع كل ذلك .
* شميتز : جان بول شميتز فيلسوف و اقتصادي بلجيكي صاحب فلسفة تعارض الصراعات الاجتماعية , المترجم .
ترجمة: مازن كم الماز
بقلم أندريه غروباتشيك , 21 أغسطس آب 2003
ز نت
نقلا عن www.zmag.org/parecon
إضافة تعليق جديد