المسلمون والعنف
ثمة قضايا أساسية كثيرة مطروحة على بساط البحث، نتيجة العنف السياسي المتفلت من أي ضوابط، والمتفشي حالياً بين بغداد ودمشق وأخيراً بيروت. وهو العنف المنسوب تحديداً إلى جهات إسلاموية، تبرره وتعتمده وسيلة نضال في السياسة، تحت اسم الجهاد أو النضال أو التكفير أو تطبيق الشرع أو الحد أو حتى باسم الدفاع عن النفس.
صحيح أن في المشهد العنفي المذكور عناصر كثيرة مثارة. منها مسؤولية العوامل الخارجية، وخصوصاً الغربية منها، التي ولدت ربما إحساساً عاماً بأن هناك عالماً إسلامياً مقهوراً منهوباً وموصوفاً بالعدو الدائم. وهو إحساس كاف لإنتاج كل المكبوتات وردود الفعل الخارجة عن أي منطق أو عقل أو حق أو خلق. ثم هناك مسؤولية قيام الكيان الاسرائيلي، في اغتصابه لرمزية مقدسة في قلب هذا العالم الإسلامي، وفي تغذية هذا الواقع من قبل مستفيدين أو سلطويين أو استبداديين أو حتى مستثمرين ومستغلين. ثم هناك في صورة أكثر آنية، كل المشهد الجيواستراتيجي الراهن. من تراجع محور سعودي في المنطقة، وتقدم محور إيراني، تقدم وتراجع هما في الواقع والماضي والمستقبل، معطوفان على أزمة تاريخية عمرها 14 قرناً، من صراع مذهبي انطلق من عنف مطلق منذ لحظة ولادته المأساوية. وطبعاً هناك عوامل أخرى مساعدة لاستكمال المشهد العنفي، من سيكو ـــ سوسيولوجية مجتمعات البداوة الريفية أو الزراعية، وصولاً إلى اضمحلال ثقافة الدولة وعطب مفهومها بالأساس. وقد تأتي في آخر سلسلة الأسباب كرونولوجياً، منظومة العوامل المصالحية، من مال واقتصاد ومصادر طاقة ونفوذ وكل عناصر القوة المادية في تشكل بشري... وحين تقول قوة تقول عنفاً بالمعنيين المجازي والفعلي، «بالقوة» أو «بالفعل»، لكن ثمة مسألة أخرى ماثلة أيضاً هنا، ولو على المستوى النظري المفهومي البحت، إنها قضية العنف في الإسلام.
في الأصل هي مسألة عرفتها كل المنظومات الدينية. فاليهودية مثلاً حبلى في أصولها وكتاباتها المرجعية بتسويغات العنف وتبرير القوة. بدءاً بمنطلقات «اصطفاء» اليهودي و«استثنائه» و«استعلائه»، مروراً بقوانين الاستباحة، وانتهاء بالتجارب التاريخية المؤيدة والمؤكدة لتلك النصوص. حتى إن المؤسسة الدينية اليهودية في مرجعياتها الأساسية، لم تبذل جهداً كبيراً لإعادة قراءة هذا الجانب من تعليمها الديني أو تكييفه مع مفاهيم الحداثة والمعاصرة والمواطنة والدولة. وهو ما يفسر قيام الأصوليات العنفية في قلب المجتمعات اليهودية الأرثوذكسية.
المسيحية من جهتها، لم تعرف في أصولها الخاصة أي كتابات عنفية. باستثناء ما أخذته ضمن «بيبلها» عن اليهودية. وهو ما بدا جلياً أن يسوع حرمه ونقضه بالكامل. غير أن ذلك لم يمنع المسيحيين من السقوط مجدداً وطويلاً في فخ «العنف الديني المقدس». من غاليلي إلى محاكم التفتيش في قلب أوروبا، ومن حروب الفرنجة شرقاً إلى مآسي الكونكيستادور في الأميركيتين غرباً. حتى إن النصوص الدينية المسيحية اضطرت سريعاً إلى مقاربة إشكالية العنف، طيلة قرون طويلة، من أغوسطينوس إلى الأكويني. وهو ما تبلور في مفهوم «الحرب العادلة»، حيث التركيز المرجعي المسيحي على عناصر مفصلية، مثل شرعية سلطة اتخاذ قرار الحرب، استنفاد الوسائل غير العنفية قبل اللجوء إلى العنف، حصر استخدامه على قاعدة التناسب، وأخيراً الإقبال على الحلول السلمية عند أول فرصة لها... لكن ذلك كله لم ينقذ المسيحية من لوثة «العنف الإلهي»، حتى جاءت الثورة و«الإصلاح» وفصل المؤسستين، فعاد ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
المسلمون اليوم أمام الإشكالية نفسها والفرصة ذاتها. فرغم كل التبريرات والتفسيرات والاجتهادات المعطاة، لا يمكن لأي باحث علمي إلا أن يقر بوجود أصول مرجعية للعنف المقدس في السنة مباشرة. يكفي أن تقرأ كتاباً «أصولياً» واحداً، من نوع «مسائل من فقه الجهاد»، لتدرك عمق هذه الإشكالية. وهي تقتضي واجباً إسلامياً كبيراً وتاريخياً، في التصدي لها ومقاربتها على نحو متصالح مع مفاهيم العصر. واجب لم يعد يكتفي بمراجع من نوع «لا إكراه ...» أو «إن هدم الكعبة حجراً حجراً...» أو «من أهلك نفساً...» قد يكون مبكراً على المسلمين طرح موضوع حرية الضمير وفصل المؤسستين واستعادة تجربة «الإخوان الجمهوريين» أو علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم». وقد يكون طموحاً جداً الآن طرح إمكان احتكار مفهوم الدولة لمفهوم العنف والقوة. مع أن وثائق الأزهر الأخيرة واعدة جداً. لكن الضروري والملح اليوم التصدي لمسألة العنف إزاء كل مدني وكل بريء، بمعزل عن معتقده الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو غيره. بمعنى أن يعلن المسلمون، بكل مرجعياتهم ومدارسهم ومذاهبهم، موقفاً صريحاً قاطعاً مطلقاً، يجعل دم المدني والبريء خارج أي تبرير ديني مقدس، وعلى قاعدة الحق الإنساني الدولي الموضوعي. قد لا تكون الساحات الإسلامية اليوم، وسط تفجراتها واستهدافاتها، جاهزة لإعادة نظرها في مفهوم «الحق في إعلان الحرب»، لكن مع ذلك، لا بل رغم ذلك وبسببه، واجب القوى المسلمة اليوم أن تفرض شرعتها حول «قوانين الحرب»، وأولها حرمة دم المدني والبريء، كإنسان وحسب، اياً كان هذا الإنسان. إنها خطوة أولى ضرورية اليوم، وممكنة الآن.
جان عزيز
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد