كيف تحولت الخلافة الإسلامية إلى وراثة قرشية؟
د. زهير جمعة المالكي
كانت المرحلة التي تلت موت الرسول محمد من الحلقات المفصلية في تاريخ الإسلام والعالم؛ فقد واجه المسلمون -لأول مرة- مرحلة بناء دولة بغياب الوحي الذي كانوا يخضعون له دون نقاش . كان القرار الأساس الذي ساد الساحة هو: من الذي له حق الحكم بعد الرسول؟
في تلك الفترة كان يتحكم في المدينة ثلاث قوى أساسية:
أولها وأكبرها كتلة الأنصار، يتزعّمها سيد الخزرج سعد بن عبادة، ويشكّلها الأوس والخزرج -سكان المدينة الأصليون-.
وثانيها كتلة الأرستقراطية القرشية، بزعامة أبي بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وقد كانت باسطةً سيطرتَها على مكة وقبائل العرب المحيطة بالمدنية.
وثالثها الحزب الذي يضم الجيل الأول من المسلمين (لا سيّما بني هاشم)، والأغراب (وهم الذين كانوا يعيشون في مكة قبل الإسلام)، وكان هذا الحزب بزعامة علي بن أبي طالب.
رغم أنّ النص القرآني واضح تمام الوضوح في تحديد معيار الأفضلية في قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾(الحجرات:13)، إلّا أنّ هذا الميزان الربّاني لم يكن ليتوافق مع المصالح السياسية للأطراف المتصارعة؛ لذلك فقد حُسمت الخلافة من خلال القوة، تلك القوّة التي كان الحزب القرشي التقليدي قد أعدّها؛ وذلك بتجهيز جيش من مرتزقة قبيلة (أسلم)، يبلغ حوالي ثلاثة آلاف رجل.
دخل الجيش المدينة بقيادة أبي الأعور السلمي (وهو رجل كان النبي محمّد يدعو عليه باسمه(الطبقات، ابن سعد))، وفي ذلك روى الطبري بسنده: "إن أسلم أقبلت بجماعة، حتى تضايقت بهم السكك، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم؛ فأيقنت بالنصر". ويشبه هذا ما أورده ابن الأثير في هذا الشأن: "فجاءت أسلم فبايعت؛ وقوي أبو بكر بهم، وبايع الناس بعدها".
كانت نتيجة تلك الحركة العسكرية استقرار الحكم لأبي بكر على الأساس الذي أعلنه عمر بن الخطاب في سقيفة بني ساعدة: "لا والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه"(ذكره ابن حجر)، ولم يبقَ سوى تمهيد انتقال الحكم للشريكِ الثاني في السقيفة- عمرِ بن الخطاب.
كانت أولى العملياتِ التخلصَ من زعيمِ الأنصار ابنِ عبادة؛ حيث أرسل عمر رجلًا إلى الشام ليدعو سعدًا إلى البيعة (وكان قد اعتزل القوم وذهب إلى الشام)، فإن أبى البيعة فالقتل، وهكذا كان. وبقتل سعدٍ تمّ استبعاد الأنصار من سباق الحكم(البلاذري، أنساب الأشراف).
أمّا العمليّة الثانية، فكانت إخضاعَ القبائل العربية خارج مكة والمدينة؛ وهنا، اختار أبو بكر أحد عشر رجُلًا قادةً لمجموعاتٍ شُكّلت لهذه الغاية؛ وكان جميع القادة قرشيين من حلف (لعقة الدم). كانت توجيهات أبي بكر لقادته استخدام القوة المفرطة (القتل والحرق) ضد القبائل الرّافضةِ طاعةَ قريش؛ فقد ذكر الطبري "أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه: أنْ إذا غشيتم دارًا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة، فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم، ما الذي نقموا؟ وإن لم تسمعوا أذانًا فشنّوا الغارة، فاقتلوا وحرّقوا".
وعند هذه المرحلة، أصبح المجال متاحًا للتخلص من ابن أبي قحافة الذي وصفه زعيم الأرستقراطية القرشية بأنه "من أذلّ بيوتات قريش"؛ وهو ما حصل بالموت المفاجئ لأبي بكر، ليخرج إثرَ ذلك عثمان بن عفان على الناس حاملا ورقة كتبها بنفسه، فيها تولية عمر بن الخطاب الحكمَ خلفًا لابي بكر.
لم يكن عمر من المسلمين الأوائل (أسلم في السنة التاسعة للبعثة)؛ فكان بحاجة إلى دعم الأرستقراطية القرشية في مواجهة اعتراض كبار الصحابة على توليته الحكم، ومنهم بلال بن رباح مؤذن الرسول، وقد كانت العلاقة بين الرجلين: عمر وبلال-غير ودية منذ زمن الرسول؛ فقد سبق لبلال أنْ وصفَ عمر قائلا له: "أضل من حمار أهلك"(رواية الأوزاعي)، فلما تولى عمر الحكم ذهب بلال الى الشام، وأصبح له أتباع في بلاد الشام؛ فصار يهدد عمر في المدينة بالسيف، وهنا، كان لا بدّ من التخلص منه، وبالفعل، "فما حال الحول ومنهم عين تطرف"(ابن حنبل، المسند).
غير أنّ هذه التحركّات لم تكن كافية للقضاء كليًّا على الحركات المعارضة؛ فما زال هناك بنو هاشم، بقيادة علي بن أبي طالب، وتيمٌ، بقيادة طلحة بن عبيد الله؛ لذلك، وبغرض ضمان وصول السلطة الى مرشح الأرستقراطية القرشية عثمان بن عفان، اختير ستة اشخاص، هم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب.
إنّ أول ما يلاحَظ على هذه اللجنة أنها خلَت من أي ممثل عن الأنصار؛ فلم تُجعل لأصواتهم أيّة قيمة. أمّا ثاني المحرومين، فقد كانوا أهل المناطق التي دخلت الإسلام آملةً أنّه يساوي بين العبد والسيد؛ فلم يُسمح لهم بالمشاركة في اختيار الحاكم. كما أنّ قائمة الشورى خلَت من أسماء الصحابة الذين عُذبوا وتحملوا عناء الدعوة، أمثال عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن عمر، وصهيب الرومي، وخباب بن الارت، وغيرهم. فهل مات الرسول وهو عنهم غير راضٍ؟ فإن قيل: إنّ هذا الاختيار كان بهذه الصورة لأن الحاكم يجب أن يكون من قريش، فيقال: لماذا إذًا استُبعِد أمثال الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهو من أوائل الصحابة؟
ولعلّه من المهمّ هنا استعراض العلاقات الأسَرية بين مجموعة الشورى؛ فقد كان عبد الرحمن بن عوف- ابن عمّ سعد بن أبي وقاص، فكلاهما ينتسبان لزهرة. وعبد الرحمن بن عوف نفسه صهرٌ لعثمان بن عفان (كان متزوجًا من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان لأمه). والزبير بن العوام- ابن عمة علي بن ابي طالب.
ولقد أشار علي بن أبي طالب إلى فحوى هذه الصلات في قوله لعمّه العباس: "سعدٌ لا يخالف ابنَ عمه عبدَ الرحمن، وعبدُ الرحمن صهرٌ لعثمان، لا يختلفون؛ فيوليها عبدُ الرحمن عثمانَ، أو يوليها عثمانُ عبدَ الرحمن ". وكان عبد الله بن عباس قد تنبه لهذا، فالتفت إلى علي فقال: "أقال عمر: إن رضي ثلاثة منكم رجلاً منهم، ورضي ثلاثة رجلاً منهم، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؟" فقيل له: "نعم"، فقال: "قد ذهب الأمر منا".
ويجدر بنا أن نورد هنا حوارًا ذكره ابن عبد ربّه الأندلسي، قال: "ذكروا أنَّ زيادًا أوفد ابن حصين على معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثمّ إنَّ معاوية بعث إليه، فخلا به، فقال له: يا بن حصين، قد بلغني أنَّ عندك ذهنًا وعقلًا! فأخبرني عن شيء أسألك عنه، قال: سلني عمّا بدا لك، قال: أخبرني، ما الذي شتّت أمر المسلمين وأبلاهم وخالف بينهم؟ قال: قتْلُ الناسِ عثمانَ، قال: ما صنعتَ شيئًا، قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة، وقتال عليٍّ إيّاهم، قال: ما صنعتَ شيئًا، قال: ما عندي غير هذا. قال [معاوية]: فأنا أخبرك به؛ إنَّه لم يشتّت بين المسلمين، ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة نفر؛ وذلك أنَّ الله بعث محمّدًا بالهدى ودين الحقّ؛ ليظهره على الدين كلّه، ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به، ثمّ قبضه الله إليه، وقدّم أبا بكر للصلاة؛ فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله لأمر دينهم، فعمل أبو بكر بسنّة رسول الله، وسار بسيره حتّى قبضه الله، واستخلفَ عمرَ، فعمل بمثل سيرته، ثمّ جعلها [عمر] شورى بين ستّة نفر، فلم يكن رجلٌ منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه. ولو أنَّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف".
يظهر من كلّ ما تقدم أنّ هذه الحادثة التي صنعتها العقول القرشية كانت هي أول خطوة لفتح الباب أمام تحويل الحكم إلى وراثة قرشية، تمهيدا لتحويلها إلى حكم وراثي مطلق، وجرى اختيار الأشخاص بدقة وعناية؛ بما لا يتيح لأيٍّ منهم القدرة على التصرف إلا وفق ما هو مرسوم له؛ نتيجة لدراسةٍ نفسيةٍ معمقةٍ للخلفية النَّسَبِيّةِ والعشائرية لكل منهم؛ تلك الخلفية التي أجبرت المسلمين على قَبول الأمر الواقع، والرضوخِ لإرادة الحاكم المطلق وعشيرته.
منصة مجتمع
إضافة تعليق جديد