المصارف الخاصة: رؤية بالعين المجردة
مصارف تجارية صغيرة لا يتجاوز رأسمالها الـ 30 مليون دولار
لم تقم بالدور المتوقع والمطلوب منها في تمويل التجارة الخارجية نتيجة القصور في التشريعات والأنظمة الناظمة لعملها
إن إحداث المصارف الخاصة على شكل شركات مساهمة خاصة أو مشتركة بين القطاعين العام والخاص خطوة ممتازة في إطار الإصلاح الاقتصادي للمساهمة في دعم القطاع المصرفي وتطويره. ويعبر عن انفتاح حقيقي على الواقع الاقتصادي العربي والعالمي، كما أن هذه الخطوة تعتبر تحولاً هاماً لطبيعة الجهاز المصرفي السوري وبداية لتوسع آفاق تطوره المستقبلية وتنويع عملياته وإعادة هيكلته لتلبي الحاجات المستجدة للاقتصاد السوري، ولاستقطاب المزيد من الادخارات المحلية والخارجية وتوجيهها إلى الأقنية الاستثمارية المنتجة المحفزة للنمو الاقتصادي والتي تؤدي إلى زيادة فرص العمل والاستخدام المتاح وزيادة الدخل القومي.
وقد تناقلت الأوساط الاقتصادية والمالية خبر إحداث المصارف الخاصة والمشتركة واعتبرته أمراً بالغ الأهمية للأسباب التالية:
1- إعطاء الفرصة للقطاع الخاص بالمساهمة في دعم النظام المصرفي في ظل التعددية الاقتصادية.
2- تحديث القطاع المصرفي الحالي في ضوء مبدأ المنافسة بين المصارف المختلفة والعائدة للقطاعات من أشكالها المختلفة مما سينعكس إيجاباً على الاقتصاد القومي ككل وعلى المتعاملين مع هذه المصارف.
3- الاستفادة من الخبرات المصرفية الخارجية والخدمات المصرفية المتطورة وأدوات و أساليب التمويل الحديثة والتي تجاوزت نوعياتها ومستواها الخبرات المصرفية المحلية بمراحل كبيرة.
4- جذب رؤوس الأموال إلى سورية وتشجيع الاستثمار وزيادة الادخار، فهذه المصارف سوف تلعب دوراً كبيراً في تمويل عمليات التجارة والاستثمار والخدمات وتأمين السيولة، كما أن وجود هذه المصارف سيشجع على تنويع قاعدة الاستثمار وتكبير قاعدة الإنتاج ودخول استثمارات خارجية مباشرة تجلب معها التكنولوجيا ورأس المال.
5- المساعدة في إعادة الأموال السورية من الخارج إلى الدورة الاقتصادية وتوجيهها نحو فرص استثمارية منتجة تدعم مسيرتنا الاقتصادية ومن باب التذكير فقط فإن السوريين في الخارج يدفعون مبالغ تزيد عن 500 مليون دولار سنوياً كعمولات للاعتمادات المستندية التي تفتح لتمويل عمليات التجارة الخارجية.
وبالمقابل فان هذه الأوساط المشار إليها آنفاً رأت أن تلك المصارف تشكل تحدياً لا يمكن تجاهله لنظامنا المصرفي ولاقتصادنا السوري عن طريق:
أ. إمكانية سحب المدخرات المحلية إلى الخارج.
ب. القدرة على السيطرة على جزء كبير من السوق المصرفية السورية.
ج. تمكنها من جذب المتعاملين الرئيسيين في القطر والشركات الأكثر إنتاجية وربحية.
د. القدرة على التحمل في أوقات الأزمات نتيجة قدرتها على إدارة المخاطر.
وبالتالي نتبين أن المرجو من دخول المصارف الخاصة هو تحسين الأداء المصرفي في الاقتصاد الوطني بشكل عام، وازدياد الوعي المصرفي لدى الأفراد بسبب التحسن في الخدمات والتسويق والتسهيلات المقدمة إلى الزبائن فضلاً عن لعبها دوراً هاماً في تصحيح الأوضاع المصرفية في سورية، وذلك لما تتمتع به من ميزات في إدارة عملها بعقلية اقتصادية واعية من خلال التوسع في عمليات الإقراض الطويل الأجل الموجه للعمليات الاستثمارية تحديداً والتسهيلات الائتمانية، الأمر الذي سيحرك نشاط الإقراض في السوق ويدفعه لتحقيق معدلات نمو عالية.
و قد أصدر مجلس النقد والتسليف العديد من القرارات والتعليمات التي أثرت إيجاباً على عمل المصارف الخاصة كتحديد طبيعة عملياتها وخدماتها بشكل يماثل العمليات والخدمات التي يمنحها المصرف التجاري السوري، فتح سقوف الفوائد المدينة (الفوائد على عمليات الإقراض و التسهيلات المصرفية)، إصدار التعليمات الخاصة بالحد الأقصى للتسليفات المسموح بها، والسماح لها بالاقتراض فيما بينها وبين المصارف العامة على أساس تسهيلات جاري مدين بسقف/ 500/ مليون ل.س وبفائدة تحدد بالاتفاق بين المصارف المعنية، وبيع و شراء العملات الأجنبية وفق التعليمات النافذة وغير ذلك من الأمور الهامة الأخرى. كما أصدر المجلس التعليمات اللازمة ووضع القواعد والأسس التي تضمن سلامة الأوضاع المالية والتشغيلية للمؤسسات المصرفية وبصفة خاصة ما يتصل بما يلي:
- نسبة كفاية رأس المال.
- نسب السيولة.
- حدود الانكشاف لمختلف أنواع المخاطر وخاصة المتعلقة باستثمار معين أو عميل معين أو أطر أساليب التمويل.
- سلامة دراسة الجدوى وصحة تقييمها.
- سلامة العقود من حيث حمايتها لحقوق المصرف واحتوائها على كافة الضوابط والضمانات اللازمة.
- ضبط العمليات التي ترتبط بعناصر خارج حسابات الميزانية.
- القضاء على ظاهرة النزوع السيئ الناجمة عن قيام المتمول بإنفاق الموارد المالية التي يحصل عليها من البنك في غير أغراضها المخصصة لها من خلال عمليات الرصد علماً أن هناك ثلاث وسائل للرصد:
أ. الرصد المسبق الذي يتضمن تقييم الائتمان والفرز.
ب. الرصد اللاحق الذي يتم عند السداد ويتضمن التحقق من النتائج المالية للمتمول.
ج. الرصد البيني الذي يتضمن متابعة و مراقبة المتمول بعد حصوله على التمويل وحتى يقوم بالسداد.
والآن وبعد مرور عام ونصف عام على مباشرة المصارف الخاصة لأعمالها في سورية فما الذي تحقق؟
إن المصارف الخاصة التي باشرت أعمالها في سورية هي مصارف تجارية صغيرة لا يتجاوز رأسمالها الـ 30 مليون دولار تقوم بمنح تسهيلات قصيرة الأجل لتمويل التجارة الخارجية طبقاً للتعليمات والشروط المطبقة لدى المصرف التجاري السوري بحد ذاته علماً أن السوق المصرفية السورية لا تحتاج إلى مصارف تجارية تقدم تسهيلات قصيرة الأجل للتجارة الخارجية فحسب وإنما إلى مصارف شاملة بمعنى الكلمة- مصارف تنمية – تقوم بتمويل الاستثمارات المتوسطة والطويلة الأجل التي تحتاجها التنمية المستدامة في سورية وقد استطاعت تلك المصارف استقطاب ما يربو عن 19 مليار ل.س ودائع بالليرات السورية و90 مليار ودائع بالعملات الأجنبية معظم أصحابها من رجال الأعمال. وتمكنت من توظيف ما يزيد عن 7 مليار ل.س كتسهيلات لتمويل التجارة الخارجية، أي أن نسبة التسليفات إلى الودائع بلغـت حوالي 7% فقط الأمر الذي يدل على أن هذه المصارف لم تقم بالدور المتوقع والمطلوب منها في تمويل التجارة الخارجية نتيجة القصور في التشريعات والأنظمة الناظمة لعملها. ولم تستطع هذه المصارف أن تحل بديلاً عن المصارف الخارجية التي تستأثر بنسبة لا تقل عن 90% من الاعتمادات المستندية المفتوحة للاستيراد والتصدير وتحصل على ما يزيد عن 500 مليون دولار سنوياً كعمولات على فتح تلك الاعتمادات. وتجدر الإشارة إلى أن زيادة الودائع بالقطع الأجنبي في أقبية المصارف الخاصة نجم عن الأحداث السياسية المؤسفة والمؤلمة التي حدثت في لبنان والتي ساهمت في إعادة جزء كبير من الأموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية بالقطع الأجنبي لاستخدامها في تمويل عمليات التجارة الخارجية لاسيما بعد صدور القرار رقم /865 / عن السيد وزير الاقتصاد والتجارة والذي حمل في طياته تسهيلات جمة للمصدرين والمستوردين السوريين من القطاع الخاص في مجال التجارة الخارجية استيراداً وتصديراً، فاستطاعت تلك المصارف استقطاب معظم إيداعات القطاع الخاص بالقطع الأجنبي التي توجهت إلى سورية والتي زادت عن 1800 مليون دولار، بينما لم تتجاوز إيداعات القطاع الخاص بالقطع الأجنبي لدى المصرف التجاري السوري عتبة الـ 90 مليون دولار وذلك نظراً لتمتع المصارف الخاصة من وجهة نظر المودعين بالميزات التالية:
* تنوع أكبر في الحسابات والخدمات المصرفية والمالية وتطويرها بشكل مستمر من خلال تكريس مبدأ المنافسة
* مرونة في التعامل والابتعاد عن الروتين السائد لدى مصارف القطاع العام.
* سرعة في إنجاز المعاملات وتعامل أكثر كفاءة مع العملاء.
* إمكان توفر تسهيلات تقنية حديثة كالصراف الآلي والصيرفة عبر وسائل الاتصال كالهاتف والفاكس والإنترنت.
* إن دخول مصارف خارجية مرموقة ذات سمعة محترمة وانتشار خارجي كبير يمنح الثقة للعملاء.
* توفر معلومات دورية وشفافة آنية عن أوضاع المصرف وتعاملاتها من خلال التقارير الشهرية للمصارف.
* سهولة ومرونة في التعامل بالقطع الأجنبي بيعاً وشراء وتحويلاً حسب القوانين المرعية.
* الحصول على خدمات أفضل فيما يتعلق بتمويل التجارة الخارجية من خلال اعتمادات الاستيراد والتصدير.
* القدرة على اجتذاب واستخدام كفاءات مصرفية ذات خبرات كبيرة وشباب طموح للعمل لديها سواء من السوق الداخلي أو من الأسواق المجاورة واختيار مديرين من ذوي الكفاءات المهنية العالية، وذلك بسبب ارتفاع مستوى الرواتب والأجور لديها.
* تحاول المصارف الخاصة بشكل مستمر بناء سمعة جيدة بين العملاء مما يجعلها أكثر حرصاً على خدمة عملائها وتطبيق مبادئ السرية المصرفية بشكل كامل.
* مطالبتها المستمرة للسلطات النقدية بتمويل رجال الأعمال بمزيد من المساهمة والدين، حيث يؤدي التمويل بالدين إلى تقليل حافز المتمول لإخفاء أرباح مشروعه، وتؤدي المساهمة إلى تقليل حافزه لاستبدال أصول عالية المخاطرة بأصول قليلة المخاطرة.
كما تطالب المصارف الخاصة بمنحها مزيداً من الحرية والمرونة في عمليات التمويل، والسماح لها بالإقراض المتوسط والطويل الأجل للمشاريع الاستثمارية، وتحرير عمليات الصرف الأجنبي لاسيما لجهة السماح بتحويل الأموال إلى الخارج واستخدامها في تلبية احتياجات المتعاملين وفق التعليمات المرعية، فضلاً عن تحرير سعر الفائدة وجعله مرناً حسب السوق حيث يقوم مجلس النقد والتسليف بتحديد سعر الفائدة النقدي ويترك للمصارف حرية تحديد سعر الفائدة الحقيقي مما يدفع هذه المصارف لتحديد سياستها في أسعار الفائدة على ضوء وضعها في السوق ورؤيتها لإمكانية جذب الزبائن ومجاراة المنافسين.
وتواجه المصارف الخاصة مجموعة من التحديات التي تستلزم منها العمل على بلورة وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات المناسبة لتحويل هذه التحديات إلى فرص للازدهار وبقاء عمل المصارف على سكة النمو السليمة، وأهم هذه التحديات واستراتيجيات التحرك المطلوبة تتمثل في:
1- تنامي وتنوع المخاطر التي تواجه عمل المصارف لتضم العديد من أنواع المخاطر التي لم تكن محل اهتمام كبير فيما قبل، حيث زاد الاهتمام بالمخاطر القانونيـة والمخاطـر التشغيلية (Operational Risk) ومخاطر السـوق (Market Risk)، ومخاطر سعر الفائدة (Interest-Rate Risk)، ومخاطر سعر الصرف (Exchange- Rate Risk) وغيرها.
2- اشتداد الضغوط على المصارف عموماً من أجل تطبيق تقنيات العمل المصرفي والمالي الحديث بما يتناغم والمعايير والقواعد الدولية، لاسيما على صعيد الخدمات والمنتجات الجديدة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتطورة.
3- تنامي درجة المنافسة داخل السوق المصرفية السورية لاسيما بعد قرب مباشرة مصارف أخرى لعملها في السوق، بالإضافة إلى قرب دخول مصارف أجنبية إلى السوق المصرفية السورية في ظل تنامي حركة العولمة والتحرير المالي على نطاق العالم وتزايد اندماج الاقتصاد السوري في الاقتصاد الدولي.
4- الحاجة إلى زيادة حصة الإيرادات من غير الفوائد كالعمولات والرسوم والإيرادات الناجمة عن أنشطة أسواق رأس المال Non-Interest Based Income)).
و أخيراً نقول: لا شك أن هذه المصارف لن تكون الحل السحري لقيام قطاع مصرفي سوري قوي ومنافس قادر على مواكبة التطورات الجارية في الصناعة المصرفية ويتماشى مع متطلبات التنمية المستدامة بين ليلة وضحاها! ولكن من المؤكد أنها ستلعب دوراً هاماً في تطوير وخلق صناعة مصرفية سورية حديثة مواكبة لمثيلاتها في الدول العربية المجاورة، وتساعد في القيام بنهضة حقيقية وجهد دؤوب لزيادة الخدمات المصرفية والانتشار الواسع واستخدام التقنيات الحديثة.
الدكتور محمد جمعة
باحث في الأمور المالية و النقدية
بالتعاون مع مجلة المال
إضافة تعليق جديد