النزعات المادية في الإسلام والتأسيس للعقل العربي المعاصر
لقد كان حسين مروة واضحاً في انتمائه ومنطلقاته التي اعتمدها لإنجاز هذا العمل الفكري الضخم. فهذا العمل الذي يرتقي إلى مستوى التأسيس لثورة علمية كاملة في أبحاث التراث والتاريخ العربي والإسلامي استند على المادية التاريخية بشكل رئيسي.
وقد حقق هذا الكتاب فعلاً انتقالاً إلى مستوى أرقى على صعيد المنظور ومنطق البحث وآلية التعاطي المعرفي (Epistemology). أما بالنسبة إلى موضوع أية «مادية» استخدمها مروة في بحثه المذهل هذا (المذهل كماً ونوعاً ولقد تفوق مروة على نفسه فعلاً في هذا العمل الذي لا يضاهى مع أي من كتاباته الأخرى، وهذا ما أكد عليه مهدي عامل في تعليقه على العمل الاستثنائي)، فإنها المادية الأغنى والأكثر عمقاً، وبالتالي الأكثر قدرة على استنباط المعرفة وإنتاج القفزة العلمية التي حققت ــ معرفياً ــ نقله على مستوى المنظورات.
يقول مروة «لقد ربط ماركس بين العمال والفلاسفة روحياً حيث أن الروح التي أنبتت المفاهيم والأفكار في عقول الفلاسفة هي ذاتها التي بنت السكك الحديدية بأيدي العمال...». فالفلسفة ليست خارجة عن العالم، إنها من هذا العالم كمقام الدماغ من الإنسان. استناداً إلى هذه المادية، انطلق مروة في رحلة شاقة من أجل التأسيس لمنظور مادي ــ تاريخي (أي علمي) عن التراث العربي والإسلامي واضعاً إياه في أطره الصحيحة العامة والتي تستند إليها الدراسة: 1- طابع الأسلوب الإنتاجي العام الذي يسود تاريخ هذا التراث ألا وهو الإنتاج الإقطاعي. علماً بأنه متداخل مع بقايا العبودية المندحرة، ومتزامن مع نمط تجاري ــ حرفي شهد أوجه في العهد العباسي. 2ـ دور العلوم المادية والطبيعية وطبيعة ازدهارها (مع الأخذ بعين الاعتبار دور العامل الأول في هذا الازدهار) ومدى تأثيرها بالتالي على الفلسفات الإسلامية خصوصاً، وعلى الوعي المعرفي لذلك العهد التاريخي بشكل عام.
هذه هي منطلقات بحث مروة وقواعده العامة التي ترتقي إلى ما هو أكثر من مجرد طرح نظرة دنيوية للتراث الإسلامي. نحن نشهد هنا تطويراً فلسفياً للمادية التاريخية نفسها ــ بوصفها أداة معرفية ــ عن طريق تطبيقها واستخدامها بشكل خلاق وجدلي على واقع تاريخي شديد الأهمية والحساسية والالتباس، هو واقع التاريخ العربي الإسلامي والفلسفات التي أنتجها. إننا هنا أمام عمل فلسفي أكثر من كوننا أمام مجرد عمل تأريخي. ومروة عملياً قد أعاد إنتاج التراث معرفياً وقدم تناولاً علمياً له يعتبر رائداً على المستويات كافة.
الأساس المادي والاجتماعي الذي يقدمه مروة كممر إجباري لتناول وفهم التيارات الفلسفية في التراث الإسلامي، يمنحه أفضلية معرفية لا تتوفر للطروحات الليبرالية. فهذه الطروحات تسعى فقط لإيجاد تحليل دنيوي (قدر الإمكان) تنجح فيه إلى هذا الحد أو ذاك... الحقيقة هي أن منظورات مروة الجديدة ثورية تماماً وتقدم الأسس لتفهم جذري جديد للتراث.
فالإسلام قد حقق ثورة، وهي ثورة متعددة الأبعاد: اجتماعية وثقافية وسياسية، ومهد لثورات فلسفية عديدة في العقل العربي. أما عن تعدد الآلهة الجاهلي فهو ليس سوى تعبير فلسفي عن النظام القبلي والعشائري الذي آن زواله، فكان طرح التوحيد الإسلامي ثورياً تماماً. لقد جاء يحقق متطلبات العصر في تحقيق المركزية (الدينية ــ الفلسفية أولاً، ثم السياسية والاجتماعية ثانياً) التي يتطلبها المجتمع الإقطاعي لإكمال تطوره (الذي كانت بذوره التجارية والاجتماعية قد بدأت بالظهور في مكة والمراكز الحضرية في شبه الجزيرة العربية) وإتمام إنجاز تقدمه وحضوره. بذلك نكون أمام واحدة من أهم الأطروحات حول ثورية العقيدة الجديدة المحمدية، ودورها التاريخي بكل أبعاده الذي يغفل حتى الفكر اللاهوتي (برغم تقديسه الشكلي والسطحي لها) عن إدراكها. هذه العقيدة التي لم تكن بأقل من أداة تفجير للإطار القبلي والعبودي للمجتمع، لبدء مرحلة جديدة من التطور التاريخي تستند على علاقات إنتاج جديدة وأطر فكرية ومعتقدية تدعم هذا الطور الجديد من التطور.
الأساس المادي والاجتماعي الذي ينطلق منه مروة يتيح له قدرة على التعاطي ــ بكل جرأة فكرية ــ مع أكثر القضايا حساسية، وأكثرها إثارة للتساؤل، مدركاً إياها بكل أبعادها وكاشفاً فيها عن ملامح جديدة لم تكن مدركة من قبل. مثلاً الوزن التاريخي والدور التاريخي لشخصيات كبرى مثل الإمام علي بن أبي طالب وما تمثله. «المرتدون» وحركة الارتداد وتحديدها كثورة مضادة. دور الارستقراطية الأموية في بناء الدولة العربية الأولى التي تحقق فيها اكتمال أكبر للمجتمع الإقطاعي بإمكانياته وديناميكيته وثوريته مقارنة بالمجتمع القبلي والرعوي الذي كان سائداً في بلاد العرب... ثم هناك ذلك الفهم العميق للتيارات الفلسفية الكبرى وربطها بجذورها الاجتماعية وتطلعاتها السياسية والمصالح الطبقية التي تمثلها وتعبر عن مصالحها.
فلدينا المعتزلة (أهل العدل) والذين انتقدوا احتكار الثروات وحياة البذخ التي يحياها أهل الحكم والطبقات الحاكمة. وطالبوا بإعادة توزيع هذه الثروات متابعين نهج أسلافهم مثل غيلان الدمشقي والحسن البصري الذي مجد التقشف والتواضع. وهناك التيار الأشعري (الذي تابعه الغزالي) الذي كان بمثابة رد فلسفي على مقولات المعتزلة معبراً عن مصالح الطبقات الميسورة في المجتمع الأموي، مؤكداً على مقولات الجبرية ووجوب الطاعة. وأخيراً، هناك التيار السلفي والحنبلي الذي عبر عن وجهة نظر الطبقات الحاكمة ورأس الهرم الاجتماعي ممثلاً بالخليفة (إذ كانوا علماء السلطة) الذي لم يقل فقط بالجبرية ووجوب طاعة ولي الأمر، بل حرم أصلاً التعاطي بالفلسفة والمنطق التي اعتبرت مدخل الشر وحيث وسم ابن صلاح في فتواه الشهيرة كل من يتعاطى فيها بالزندقة.
إن طرح مروة في المسائل السابقة موسوعي وعلى درجة من الغنى والكثافة العلمية كافية لتجعله مرجعاً في أغلب القضايا المطروحة. إنه أبعد ما يكون عن «الطبقاوية» أو المادية المبتذلة أو السطحية غير القادرة أساساً على تقديم طرح معرفي أو علمي خاصة في مسألة على هذا القدر من التعقيد كمسائل التيارات الفلسفية والأيديولوجية في التاريخ العربي والإسلامي.
التاريخ يعبر عن نفسه بشكل عام في حركته عبر المفاهيم الفلسفية. فالفلسفة بحد ذاتها ليست تجريد، ولا هي اعتباط «ولا تنمو كالفطر في عقول الفلاسفة». المسألة هي أن الواقع يعبر عن نفسه فلسفياً عبر هذه التيارات والمذاهب الأيديولوجية، وأمامنا تاريخ الفلسفات العربية الإسلامية كإثبات.
يزن زريق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد