النزوح من الوطن إلى الوطن
حتى نهاية اليوم الخامس من العدوان، لم تكن فكرة الخروج من بنت جبيل قد اخذت مأخذا من اهتماماتي، رغم عنف وقساوة آلة الحرب والقتل الاسرائيلية العاملة على جميع الميادين. لكن في لحظة مفاجأة صباح اليوم التالي ارتفعت اسهم هذه الفكرة، رغم اني حتى الآن، لم اعرف السبب الحقيقي لهذا التغيير المفاجئ مع جملة من التساؤلات لم اعرف اجوبتها بعد. هل لأن عائلتي كانت نجت من الموت بأعجوبة إلهية قبل يوم، عندما لم تنفجر قنبلة اصابت المنزل الذي كانت تلتجئ فيه؟ ام لأني نجوت من قصف ثان اصاب منزلا سقط على قاطنيه في قصف سابق؟ ام لان ابنتي البالغة من العمر عشرة ايام فقط بدأت تعاني من مشاكل تنفسية، بسبب رائحة البارود والنار العابقة في اجواء الوطن؟ ام لان اشخاصا ذوي قربى يربطون خروجهم من تحت النار بخروجي منه؟ او ربما لاجتماع هذه الاسباب جميعا؟
المهم بعد ليلة ليلاء من القصف الاسرائيلي الممتد من التاسعة مساء حتى السابعة صباحا، قررت الخروج من هذا الحصار وقد زادني اقتناعا انقطاع وسائل الاتصال الخلوية وبدء تفاقم ازمة انقطاع الكهرباء وما تجره من مشاكل اخرى، وضرب جميع محطات المحروقات وقطع الطرقات وبدء فقدان المواد الغذائية والادوية.
في لحظة ما اتسعت مقاعد سيارتي لتحتضن عشرة اشخاص. انطلقنا في رحلة النزوح الى بيروت، لكنها لم تطُل، اذ عدنا بعد اقل من نصف ساعة، بعدما وجدنا ان طريقي بنت جبيل جويا وبنت جبيل قانا قد قطعتا، بعد ان دمرت الغارات الاسرائيلية محطتي وقود على كل منهما. وقضينا ليلة اخرى عادانا النوم فيها كما تعادينا الطائرات التي حامت فوقنا.
وكان صباح اليوم السابع الذي كانت تباشيره تشير الى انه سيكون يوما قاسيا كما ليلته، لذلك كان لا بد من استشارات انسانية وإلهية، فكانت الاولى متقلبة بين تشجيع وعدم نصح بينما جاءت الخيرة القرآنية (... وعلى الفُلك تحملون)، وتفسر بشكل جيد كما اخبرني احد العلماء الذين تسنى لي الاتصال بهم في ايران، قبل ان تنقطع الخطوط الارضية ايضا، فكان ان اشرعنا فلكنا وابحرنا في رحلة نارية الى الجبل عبر طريق بنت جبيل الطيري قانا الى صور. كانت اولى العوائق عند الخروج من بنت جبيل، بعد ان حولت احدى الغارات الاسرائيلية الطريق الى خنادق وحفر، يصعب تجاوزها الا بواسطة السيارات ذات الدفع الرباعي، التي كنت قد اشتريت احداها حديثا بعد طول تردد. لكن مع خروجنا من بنت جبيل لم تكن نهاية القصة بل بدايتها، حيث طالعتنا العديد من الحفر المماثلة، فيما لم تغب عن أذاننا اصوات الطائرات الحربية والتجسسية طوال الطريق، كما بعض قذائفها التي ودّعتنا في بنت جبيل وتبعتنا الى حاريص وسبقتنا الى اوتوستراد صور صيدا، بعد ان تجاوزنا القاسمية عبر طريق فرعية. على ان المسافة بين بنت جبيل وصور، البالغة حوالى 35 كيلومترا والتي قطعناها بعد اطلاق العنان لمحرك السيارة، كانت خالية على غير عادتها، باستثناء بعض السيارات التي رفعت رايات بيضاء تحسبا لحقد العدو الاسود. اما السيارات التي كانت تسير صعودا، فإن اغلبها كان فارغا الا من سائقه، حيث كانت تسير جميعها بسرعة كبيرة، ربما هربا من الموت او تلبية لحاجة ما. ومن تقطعت بهم سبل الهروب، حملوا ما خف وغلا من متاعهم ومشوا سيرا على جوانب الطرقات، على امل ان تقلهم اي وسيلة نجاة الى بر الامان. على طول الطريق بانت في الكثير من المناطق آثار العدوان، من قصف للبيوت والسيارات والشاحنات، وكذلك اماكن لا يمكن فهم الغاية العسكرية من وراء قصفها. لكن لم يكن بالامكان رؤية اي مشاهد مسلحة، او آليات عسكرية تابعة للحزب، رغم اني تعمدت استراق النظر على عجالتي بين الاشجار المحاذية للطرقات او الطرقات الفرعية.
في صور عند مخيم البص، نصحنا عدد من سائقي السيارات العمومية بعدم متابعة الطريق لكن اذا اصررتم فاتكلوا على الله. وعليه اتكلنا، فانطلقنا بسرعة زائدة حتى محطة الايتام، حيث قام الجيش اللبناني بقطع الطريق الرئيسية باتجاه نهر القاسمية. هنا قمنا بحركة التفافية على الطريق القديمة الترابية، التي يبلغ طولها عشرة كيلومترات، فيما المسافة الاصلية لا تتجاوز كيلومترا واحدا. بعدها انطلقنا في قطوعنا الثالث الى صيدا على الطريق القديمة وتمكنا عند العاقبية من ايجاد احدى محطات المحروقات، التي تجرأ صاحبها على تشغيلها، فازدحمت على خزانها الوحيد العديد من السيارات وكان لنا نصيبنا من الوقود رغم ذلك. دخلنا صيدا عند الثانية عشرة تقريبا، اي بعد ساعتين من خروجنا من بنت جبيل. هناك في صيدا كانت الحياة شبه طبيعية. وجوه وأناس وسيارات تطلق ابواقها. وكذلك المحلات والتجار. مشهد افتقدناه لاكثر من ستة ايام من الحصار، فعادت بعض الحياة الى نفوسنا. من صيدا اتجهنا شرقا نحو جزين، الى عبرا ومجدليون وما بعدهما حيث كانت الحياة اكثر من طبيعية وصولا حتى كفرفالوس، عندما صادف مرورنا قيام الطائرات الاسرائيلية بشن غارة على مجمع رفيق الحريري الجامعي هناك.
اكملنا طريقنا صعودا حتى جزين التي بدا انها تعيش في غير ايامها الصيفية، حيث الحركة خفيفة وقليل من الناس او السياح المفترض ان يعجوا في طرقاتها.
من جزين اخذنا طريقنا شمالا نحو معبر باتر بطرقاته الضيقة الكثيرة التعرج. ومنه الى المختارة وبيت الدين ودير القمر بحركتها شبه الطبيعية وصولا الى كفرحيم باتجاه سوق الغرب، حيث تجمع العدد الاكبر من نازحي بنت جبيل؛ ومن هناك الى عاليه ومنها اخيرا الى احدى قرى كسروان عبر جسر الباشا واتوستراد الدورة.
من الوطن إلى الوطن
رحلة الخروج من ارض الحصار والنار الى منطقة من الوطن، مرورا بمناطق يبدو انها لا تعرف ان هناك في الجنوب حربا تدور، رحلة من اقصى الجنوب الى اقصى الوطن، استغرقت اكثر من ست ساعات، نزحنا فيها من الوطن الى الوطن، لكن يبدو انه ليس من الاهل الى الاهل. فالروايات التي سمعناها على طول الطريق، من النازحين عن غلاء الاسعار واحتكار السلع وفقدان بعضها، تؤكد انه الوطن نفسه على الهوية فقط، لكن ليس نفس الاهل والشعب المفترضين. فقارورة الغاز في سوق الغرب وصل سعرها كما اكد اكثر من شخص الى 40 دولارا.
والحجة صعوبة المواصلات ووقف الامدادات في حين انها لا تزال تباع بالسعر الرسمي لابناء البلدة، فهل العدو يميز في حصاره بين القارورة المباعة للمهجر وتلك المباعة لابناء البلدة؟. كما ان ربطة الخبز تبدأ صباحا ب2500 ليرة في عاليه وقد تنتهي مساء بعشرة آلاف. ولا تخرج اسعار المحروقات وخاصة البنزين، عن هذا النطاق، حيث لا تباع الصفيحة بأقل من 25 الف ليرة. كما ان لبيع السجائر نصيبه من هذا الاستغلال ودائما باختلاف السعر بين الغريب وابن البلدة، هذا من دون الحديث عن اسعار الشقق والبيوت المفروشة حيث يبدو ان معظم اصحابها يحاولون تعويض خسارة موسم المال الخليجي المجبول بالنفط، بموسم المال الجنوبي المجبول بالدم.
كما يقول احد النازحين من بنت جبيل، الذي يتابع :يبدو انهم يظنون اننا اخرجنا اموالنا المكدسة في البنوك واتينا الى هنا لتمضية اجازاتنا السنوية، فيطلب بعضهم 200300 دولار بدل الليلة الواحدة في الشقة. ويشترط آخرون استئجار الشقة طوال موسم الصيف ودائما الدفع مسبقاك.
لكن هذا لا يمنع من وجود بعض الحالات المميزة، حيث جرى استقبال النازحين في بيوت تقاسموا فيها لقمة العيش مع اصحابها، لكن في الغالب، يحز في نفس الجنوبي، الذي لطالما حمل هم الوطن وقضيته، ان لا يستطيع هذا الوطن حمله ولو لأيام قليلة.
علي الصغير
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد