الهبّة ترسم حدود فلسطين
أظهرت الهبّة الشعبية الدائرة في الأرض المقدسة، أكثر من أي شيء آخر، أن حدود فلسطين لا ترسمها اتفاقيات هدنة أو صلح أو سلام، ولا تقف عند خطوط خضراء أو بنفسجية، بل ترسمها دماء الشهداء والجرحى وهتافات المؤمنين بها.
وليس صدفة أن الهبة التي انطلقت من القدس وحرمها الشريف، سرعان ما امتدت إلى كل مكان يقيم فيه الفلسطيني في وطنه من الناقورة حتى غزة. واتسعت دائرة المواجهات ضد الاحتلال الاسرائيلي من شمال الجليل إلى المثلث وصولا إلى النقب مرورا بالضفة الغربية وقطاع غزة. وكانت الليالي الفائتة ليالي الأرض المغتصبة من حيفا والناصرة إلى كفر قاسم وسخنين مرورا باللد والرملة وشفا عمرو.
وأمام شلال الدم المتدفق، تجد إسرائيل نفسها في حيرة تجاه ما يمكن أن تفعل، ففيها حكومة يمين متطرف اعتاد الرقص على الدماء والتصعيد، ولكنه يجد أن الفلسطيني يفاجئه مرة تلو مرة، ليس فقط بقدرته على الصمود، بل أيضا في ابتداعه لوسائل النضال.
وإذا كانت التظاهرات في القدس والضفة والاراضي المحتلة في العام 1948 تثبت للإسرائيلي فشل سياساته في التمييز بينها، وفي اختراع تقسيمات جديدة مثل مناطق (أ، ب وج)، فإن تنوع أشكال النضال الفلسطيني يشكل أشد إرباك له.
وفي أراضي 48، جاء إعلان لجنة المتابعة العربية عن الإضراب العام والشامل يوم الثلاثاء ليؤكد أن الهبة الشعبية تنتقل بأسرع ما يكون إلى الداخل.
وقد تقرر إضراب عام يشمل المدارس في الوسط العربي غدا، على أن يتضمن ذلك تظاهرة قطرية واسعة تجري في سخنين. وأكد القرار أن الإضراب يأتي احتجاجا على الجرائم الإسرائيلية واستمرار الانتهاكات في القدس والأقصى.
وفي غزة، احتشد المئات من الشبان في مواضع مختلفة بمحاذاة السياج الحدودي، وخصوصا في المناطق التي سقط فيها شهداء في الأيام الأخيرة. وبدا أن الشبان يتحدون الموت في المواضع ذاتها المطلة على مواقع عسكرية حصينة حيث باتوا يهاجمونها ويقتحمون الأسيجة المحيطة بها. وأمام هذا الواقع، نشأت مشكلة للإسرائيلي الذي يعرف أن الدماء تغذي الانتفاضة وتلهبها، فصار يميل إلى اعتقال الشبان رغم نشره وحدات قناصة على طول الحدود.
ويرى المعلق العسكري لصحيفة «هآرتس» عاموس هارئيل أن عمليات الطعن المستمرة خلقت ذعراً كبيراً في أوساط الجمهور. كما أن التظاهرات في القرى العربية داخل الخط الأخضر وشرقي القدس والضفة تزيد القلق في صفوف الجيش الإسرائيلي لكن ما جرى على الحدود مع القطاع وعدد الشهداء الفلسطينيين هناك يشعل مصباحاً أحمر. وأشار إلى أنه كان ثمة توافق في هيئة الأركان بأن ما جرى يشكل نقطة تحول إشكالية أساسها نشوء خطر فتح جبهة جديدة. فقد شارك في التظاهرة شرقي الشجاعية قبالة كيبوتس ناحال عوز ثلاثة آلاف متظاهر وكثيرون منهم اقتربوا من السياج محاولين اقتحامه.
ويرى معلقون إسرائيليون أن واحدة من المعضلات الكبيرة التي تواجهها إسرائيل هي طريقة التصرف مع قطاع غزة إذا قرر عشرات الألوف اقتحام السياج الحدودي. وكانت إسرائيل تراهن على الردع من خلال إسقاط أكبر عدد من الشهداء، لكن بعدما رأت بأم العين أن أسلوبها هذا لا يردع صارت تفكر بأساليب أخرى.
وتزايدت الاشتباكات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال في العديد من مناطق الضفة الغربية، خصوصا في محيط نابلس حيث وقعت عشرات الإصابات. وفي القدس تواصلت الاشتباكات في محيط شعفاط والعيسوية وأبو ديس، ما أوقع أيضا الكثير من الإصابات في صفوف المتظاهرين.
وفي ظل تصاعد التوتر مع قطاع غزة والغارات الإسرائيلية التي أوقعت شهيدين، فقد زادت احتمالات انزلاق الوضع إلى مواجهة حربية شاملة. وعلى هذه الخلفية أمر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال غادي آيزنكوت بتأجيل مراسم تبديل قائد الجبهة الجنوبية الذي كان مقررا يوم أمس. وسيواصل القائد السابق الجنرال سامي ترجمان تولي مهام منصبه في الأيام المقبلة حتى اتضاح الصورة قبل أن يحل مكانه بديله الجنرال إيال زامير. ويبين هذا القرار وجود تقديرات باحتمال توسع المواجهة العسكرية مع القطاع.
وعلى صعيد الحكومة الإسرائيلية، تتواصل مساعي التهدئة مع السلطة الفلسطينية، ليس فقط تحسباً من التصعيد. فمن المعروف أن وفداً من الرباعية الدولية سيصل المنطقة يوم الأربعاء، وهو ما كان قد تقرر في اجتماع الرباعية في نيويورك بعد إنذار الرئيس محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العمومية بأن الفلسطينيين لن يكونوا الطرف الوحيد الذي يلتزم الاتفاقيات. ولاحظ مراقبون أن الرباعية أتت لتضغط على إسرائيل لمنع تنفيذ التهديد بحل السلطة الفلسطينية والتنصل من اتفاقيات أوسلو. ولهذا تريد إسرائيل ألا تبدو في موضع من يصعّد ضد السلطة في هذا الوقت.
وقد أبلغ مسؤول كبير في «الشاباك»، أمس، اجتماع الحكومة الإسرائيلية الأسبوعي، أثناء عرضه الأمني للوضع، أن الرئيس الفلسطيني «لا يدفع للإرهاب بل إنه يوجه أجهزته الأمنية للامتناع عن تنفيذ عمليات قدر الإمكان».
ومع ذلك، قال هذا المسؤول إن قادة في السلطة الفلسطينية وخصوصا من حركة فتح «يشاركون في حملة التحريض التي تلهب العنف». وقد أعقب اجتماع الحكومة اجتماع للمجلس الوزاري المصغر جرى فيه التشديد على معاقبة راشقي الحجارة والزجاجات الحارقة بشدة، لكن لم تتخذ قرارات بفرض الحصار على الضفة أو تعميقه على غزة.
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد