الوطن السورية: «رواية اسمها سورية» انعاش للذاكرة الوطنية
عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية كانت العفاريت تتقافز أمامه ابتهاجاً بانتصارها عليه وهو يصغي- بما يشبه الإذعان- إلى الحصة الدرسية لأحد المقررات المدرسية ذلك أنه حاول أن يفهم ففشل وبدا له الأمر كما لو أنه نهش في الروح وخضوع لشتى أشكال الجلد دون رحمة..
وعندما أنهى دراسته الثانوية تنفس الصعداء ولسان حاله يقول: ها أنا ذا تحررت من وطأة عدم فهم ذاك المقرر ليفاجأ في أول أيامه الجامعية أن العفاريت ذاتها لاحقته إلى داخل أسوار الجامعة وقاعاتها فالمقرر ذاته ظهر بصورة ربما أكثر فجاجة وشكلت له حالة عدم الفهم مجدداً شعوراً أكثر إيلاماً.. وأخذ يومذاك سؤال يحاصر ذهن الطالب الجامعي نبيل صالح ويُضيق عليه الخناق سؤال واحد يبرز من بين مجموعة من الأسئلة يقول: ما مكونات الثقافة الوطنية في سورية؟!
سؤال يختفي ويضيع في تلافيف ذاكرته مرة ليعود ويرفع عقيرته مرات أخرى من جديد في مناسبات كثيرة إلى حد الأرق. وراح الرجل وقد أصبح اسماً لامعاً في عالم الصحافة- ومعنياً كحامل قلم بقضايا الوطن والمهنة مثله في ذلك مثل الكثير- يفكر بصوت مسموع مستمزجاً آراء عدد من الأساتذة بغية الوصول إلى جواب قاطع وحاسم يطمئن له قلبه للسؤال ذاته: ما مكونات الثقافة الوطنية في سورية؟ ليصلوا إلى أنها حكايات الناس أو الشخصيات التي شغلت وعي السوريين وذاكرتهم خلال مئة السنة الأخيرة.. ومن هنا ولدت فكرة كتاب «رواية اسمها سورية» للكاتب نبيل صالح المتضمن بين دفتيه مئة شخصية أسهمت في تشكيل وعي السوريين في القرن العشرين «كإصدار أول» من طبقة الفحول والقادة والنخب الفكرية والسياسية والأدبية والفنية والعسكرية.
ولكي لا يقع صالح تحت وطأة تساؤلات (ليست مستبعدة) هنا وهناك لماذا أورد الكتاب هذه الشخصية؟! ولماذا أغفل تلك؟!- ولاسيما أن عملية الاختيار والانتقاء على قدر من المسؤولية فالمسألة هنا تتعلق بتاريخ ووعي ووجدان. تدارس الأمر وعلى مهل مع هيئة استشارية من المفكرين والمؤرخين على مستوى عال من الثقة ضمت إلى جانب محمد جمال باروت كلاً من د. محمد محفّل، د. أحمد برقاوي، د. يوسف سلامة.
نبيل صالح وفي سبيل إنجاز العمل الضخم اللافت والجريء أيضاً، اختار أربعين قلماً محترفاً من الباحثين والكتاب والروائيين والإعلاميين المشهود لمعظمهم بالكفاءة وعلو الكعب في بادرة أو لفتة تشاركية تفوق العمل المؤسسي في مراكز الأبحاث والدراسات لكي يساهموا في إنجاز هذا الكتاب الجديد من نوعه فكرة وتجسيداً ودلالة على المستويات كافة ولا سيما أنه جاء في وقت (هلامي) كادت أن تضيع فيه إسهامات الكثير من الشخصيات في تشغيل اللوحة البانورامية لتاريخ سورية الحديث والمعاصر وخصوصية هويته الوطنية في دهاليز النسيان وأنه جاء أيضاً في وقت تجهل فيه الأجيال ليس فقط منمنمات وزخارف هذه اللوحة المتفردة بل خطوطها العريضة البارزة وألوانها الزاهية أو الباهتة في مراحل مفصلية شديدة التأثير والأثر كمحطات فاصلة هذا التاريخ ابتداء من العقود الأخيرة للمرحلة العثمانية، والمرحلة الفرنسية، فالاستقلال، فالحقبة البعثية من خلال مسار أشخاص مشوا خلف أقدارهم على وقع الحروب والمعارك والانقلابات والمؤامرات..».
«رواية اسمها سورية» كتاب امتزجت فيه تداخلاً وتقاطعاً وتشبيكاً الموسوعية والتاريخية والحكائية الأدبية الروائية وتراجمية السيرة في مجلدات ثلاثة وصفحات قاربت الـ1600 صفحة استغرق العمل عليه وقتاً طويلاً، وجهوداً مضنية في البحث والتقصي وطرق المعالجة برؤية معاصرة في البنية والشكل والصيغة «مبيناً إسهامات كل الطوائف والقوميات في بناء عزة هذا البلد والدفاع عن سيادته» على امتداد ساحة الوطن، واعتُمد اختيار الشخصيات المئة في الكتاب- حسب نبيل صالح- وفق مبدأين متعاكسين في الاختيار، ومن ثم الترتيب، فاختيار الشخصيات كان مرهوناً بإدراكها للقرن العشرين فكان أول من توفي فيه هو عبد الرحمن الكواكبي (1902) وآخر من توفي هو عبد السلام العجيلي (2006)، ورتب تسلسل ورود الشخصيات في الكتاب بحسب سنة ولادتها ليضاف بذلك نصف القرن التاسع عشر إذ إن أقدم من ولد فيه من الشخصيات المختارة هو أبو خليل القباني(1833) وآخرهم هو سليم بركات (1951) وذلك بهدف تسلسل الأحداث زمانياً إضافة إلى ربط الشخصيات مع بعضها بعضاً بشكل منطقي.
عندما تقرأ الكتاب لا يمكنك إلا أن «ترفع القبعة» تقديراً للمشتغلين عليه إذ لا يكتفي بتسليط الضوء على صفحات حارة- وبعضها إشكالي وملتبس- من الذاكرة الوطنية فحسب، بل يسهم في إنعاش هذه الذاكرة سبيلاً للاعتزاز بالوطن الذي نعشق وبالرجالات الذين نجل، والذين نكره أيضاً، مع التسليم بأن «إرضاء الناس غاية لا تدرك» وأنه لا عمل دون ثغرات أو هنّات، ذلك أن أسلوب سرد حكايات الشخصيات، أو مقاربتها جاء متبايناً بين كاتب وآخر مع فروقات واضحة في مستواها، ففي حين برع بعض الكتاب (وأغلبهم الصحفيون هنا) في الاشتغال على السرد القصصي حكائي الطابع بأسلوب مشوق وممتع ناثرين فيه اللغة درراً قشيبة في ثوب حكائي مزركش البنيان، فإن البعض الآخر (وبينهم أسماء لامعة) انتهجوا أسلوب الكتابة الذي لم يخرج عن الطابع التقليدي ولم يرق لمستوى سمعتهم الكتابية أو لغتهم الإبداعية في مجالات اهتماماتهم، وإن حمل الكتاب تقاطعات في الأحداث تبعاً للزمان والشخصية أضفى عليه نكهة خاصة وأخرى من الموثوقية فإنه أيضاً وتبعاً لحكاية كل شخصية على حدة حمل في بعض صفحاته تكراراً لبعض التفاصيل وقطعاً (مبرراً ربما) لتفاصيل أخرى، لكنه في حدود المتقبل والعادي ولم ينل مطلقاً من نبل الهدف وسمو الفكرة وضخامة العمل الذي أزعم أنه نجح إلى حد بعيد في التقاط نبض اللحظة التاريخية أياً كان شكلها أو حجمها أو زمانها ليعيد إليها وهجاً وألقاً وطزاجة وربما راهنية أيضاً تاركاً إياها في سياق الحدث وشروطه وبيئته المحيطة الحاضنة (أو النابذة) ظروفاً وتداعيات، وجوباً وأسباباً، غلياناً ودفقاً، ليشكل مجموع اللحظات وانتظامها واجتماعها وتدفق نبضها من جديد (في الزمان والمكان) حراكاً لبنيوية وهيكلية الجسد السوري بأطيافه وجرياناً لدمائه المتجددة والنضرة.
واليوم وقد احتل الكتاب صدر المكتبات السورية وواجهاتها عن جدارة ومشروعية بشكل أو بآخر فإنني ليس فقط لا أجد نفسي مخولاً بإطلاق حكم قيمة عليه فحسب بل إن قلمي المتواضع بالأساس يفتقر إلى كثير من أدوات أو خيوط هذا الحكم فهناك من يبزني معرفة وسعة اطلاع ورؤى نقدية ففي سورية البلد الغالي أقلام عالية بألوان متعددة سيتصدى بعضها باستفاضة إلى بعض ما جاء في الكتاب «إيجاباً أو سلباً» وكل حسب أدواته ورؤاه ومبتغاه، لكني لا أجد غضاضة في أن أضم صوتي إلى صوت د. محمد محفّل المؤرخ المعروف وأحد أعضاء الهيئة الاستشارية المشارك في الكتاب والذي «دققه من حيث التاريخ والمعلومات» عندما قال في حفل إطلاق الكتاب مؤخراً: (إن المطلوب حالياً (أو الرجاء) من كل من يقع الكتاب بين يديه من الكتاب والنقاد ولديه ملاحظات أن يساعد في «النقد الجماعي» من كل الجوانب ليكتمل العمل ويقترب من المعقول لكي «نتدارك» في المستقبل الملاحظات وصولاً إلى ما هو أقرب إلى المنطقة انطلاقاً من مقولة «أكتب اليوم وأعيد النظر غداً»).
أجزم- أخيراً- أن أعداداً كبيرة من القراء سيقبلون على قراءته بمتعة وشغف وحب اطلاع ومعرفة وخاصة أن شخصيات كثيرة في الكتاب تغيب حكاياتها كلياً أو جزئياً عن عدد كبير من القراء.. وخاصة- أيضاً- أن السوريين جميعهم صغاراً وكباراً معنيون بالكتاب لأنه «رواية اسمها سورية».
علي الحسن
المصدر: الوطن السورية
إقرأ أيضاً:
الوطن العمانية: «رواية اسمها سورية» تحلل الشيفرة الثقافية للسوريين
الحياة: «رواية اسمها سورية» تثير عاصفة نقدية في دمشق
المستقبل: «رواية اسمها سورية» استقراء لفلسفة تاريخ سورية الحديث
الشرق الأوسط: «رواية اسمها سورية» كتاب جريء بالمقياس السوري
الوطن السورية: «رواية اسمها سورية» انعاش للذاكرة الوطنية
الراية القطرية: «رواية اسمها سورية» استقراء لتاريخ سورية الحديث
السفير: «رواية اسمها سورية» تجمع الأبطال والأشرار وتثير شهية النقاد
الكفاح:«رواية اسمهاسورية» مدونةعاطفية وثائقية تجمع الجمالي بالسياسي
قناة المنار: «رواية اسمها سورية» تتجاوز حدود سايكس بيكو
الثورة : "رواية اسمها سورية" تقدم ذاكرة السوريين بلغة الأدب
مونتكارلو: «رواية اسمها سورية»ترسم خريطة سورية الثقافية خلال قرن
الدستور: مئة شخصية تروي التاريخ السوري في "رواية اسمها سورية "
مجلة شبابلك: «رواية اسمها سورية» كتاب كل السوريين
النور السورية: حسبك تجنب اللوم حول "رواية اسمها سورية"
سيريا نوبلز: «رواية اسمها سورية» بين التشويق والتأريخ
الأخبار: العسكر والسياسيون يتداولون بطولة «رواية اسمها سورية»
إضافة تعليق جديد