"بقاء" نورا مراد: حفيف الجسد السوري المشلول
اعترضت قذيفة صاروخية طريق الجمهور القادم لحضور عرض المسرح الحركي "بقاء" (دار الأوبرا السورية)، فجرحت عدداً من راقصي وراقصات فرقة "بارمايا السريانية" المشاركين في مهرجان "قوس قزح" للفنون الشعبية، في حين أودت بحياة شاب وفتاتين من زوار الدار. مشهد دموي لم يمنع القادمين لحضور آخر تجارب الفنانة نورا مراد من الدخول إلى مسرح الاستعمالات المتعددة، ملتجئين من همجية الظلام بعتمة الخشبة، إذ لم تكن المرة الأولى التي يعترض فيها الإرهاب طريق الرقص باعتباره أحد أهم تجليات الحداثة في مدينة مثل دمشق.
هكذا استأنفت فرقة "ليش" مشروعها الرائد الذي كانت قد بدأته منذ عام 1999، ليتوقف تحت ظلّ الحرب الدائرة بعد عدة تجارب في مجال المسرح الحركي، جاء أبرزها تحت عنوان "هويات" والذي عملت فيه الكوريغراف (مراد) على طقوس العزاء في "إذا ماتوا انتبهوا" (2008) والعرس في "ألف مبروك" (2009). مساحة وسطى بين الرقص والمسرح أدارتها نورا هذه المرة بانسجامٍ عالي المستوى، منجزةً عبر الجسد بنيّة درامية متكاملة قام بأدائها كل من نغم معلّا، نورس عثمان، حور ملص، آنجيلا الدبس.
الراقصون الأربعة اغتنموا في "بقاء" الفضاء السديمي الذي أتاحته سينوغرافيا سعيد الأحمر، ففي مشهدية بيضاء بدأت مراد بإدخال الجمهور إلى عالمها الأخرس والكتيم خطوةً إثر خطوة، دافعةً براقصيها إلى حواف اللعبة عل موسيقى ومؤثرات كل من ديمة أورشو وشادي علي وموسيقى الراديو (Lost song) لمؤلفها (Qlafur Arnalds). من هنا غزلت المخرجة السورية تمائمها الحركية لاستنطاق الجسد، استجوابه بأقصى درجات تمرّده على القتل والعزلة والخوف في مكاشفة تركت أثرها الحسي من الاعتماد على لغو أطلقه الراقصون كلّ على طريقته. غمغمات لفظية وصرخات مخنوقة ومُخرسة نفرت من أضلاع هؤلاء متممةً ذلك الحضور العضلي والنفسي للراقص بوصفه موضوعاً درامياً لا وصيفاً عن الدراما، فالدراما هنا هي حركة الجسد بعد قرون من إقصائه ونفيه وسجنه في عاداته الاستعمالية وواجباته الفيزيولوجية.
مواجهة الحرب
هكذا يدخل الرقص في مواجهة مع الحرب والقمع والتطرف، معلناً في "بقاء" الذي أنتجته "وزارة الثقافة السورية" رهانه على تقديم "شيفرة" جديدة عن الخراب العام، قوامها التواءات وضحكات هستيرية وإيعازات ذات طابع زجري تقصي المرء إلى مرايا متعددة تتشظى أمامها الذات، فاصلةً عالم الجسمانيات عن عالم الروحانيات، ليظهر الجسد كآخر إشارة على بقاء الكائن حياً يرزق بين تلال من جثث الضحايا اليومية.
في الذهاب نحو تشريح أكثر تفصيليةً للعرض، نلاحظ تلك اللطخات الحركية لمسرح أكثر تحرراً من رسم الخطوات وفق نص موسيقي أو سيناريو أدبي، فالراقص ليس أسير الجمل اللحنية ولا هو رهن مزاج مقاماتها، بل إن حفيف أعضائه على خشبة المسرح ستشكل نوتة جديدة لميزان الخطوات ورسمها وفقاً لثراء العالم الداخلي لهذا الراقص- الممثل، والذي تطفو مشاعره بقوة على تعابير وجهه وحركة أطرافه المرتعشة في فضاء اللعب.
لا سكنات زائدة، ولا نشاز بين الحركة والموسيقى، كلّ شيء محسوب في خطة إخراجية لافتة، تركت الحرية مطلقة لارتجال جسد يصرخ بصدره وجذعه وأطرافه برغم تقمصه لشلله الرباعي المزمن قبالة آلة الحرب وهمجيتها. مسرح حركي يقف في منتصف الطريق بين البوح والتلميح، بين الدراما والرقص، بين الشلل والرياضة، لكنه بالمقابل ينعش الذاكرة الجماعية، وينبش بقوة في المسكوت عنه رغماً عنه، فنصف الرقص هنا هو الرقص كله، والأجسام في تحولها المدهش إلى أجساد ذات طاقة تعبيرية قصوى، هاهي تتجرأ على تابوهاتها المقيمة، معلنةً صراحةً عن رفضها الجذري لكل ما يحدث، ولما آلت إليه البلاد في عامها السادسة من حرب صار فيها الجسد قبراً لرغباته وأحلامه المُصادرة عبثاً.
لهذا وذاك لم تتنازل مخرجة العرض عن أقل نأمة يمكن أن يسجلها هذا الجسد على الخشبة، سواء كان عبر التدرج به من جمله الحركية البسيطة نحو المعقدة، أو حتى عبر تركيب الشخصية التي يكتبها الراقص بإيماءات غاضبة وكلمات مجتزأة صوتياً، فالإيقاع يفرضه الأداء الجماعي عبر "جسد مفكّر" تتشابك مساراته لكنها لا تختلط ولا تلتقي إلا ضمن ما يشبه موتيفات خاطفة؛ تعيد تشكيل الكتل الراقصة في كل مرة يخرج فيها العرض عن فكرته الأصلية، فحب البقاء يدفع الجميع في النهاية إلى الإذعان والرضوخ من جديد لعبارة: على قيد الحياة.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد