بولغاكـوف.. وحـوش الثقافـة
ما إن ننسى أنفسنا ونستسلم لغواية دور ما من الأدوار التي ليس فقط نرى أنفسنا فيها، بل تلك التي نرى أنفسنا في تضاد معها، حتى يلعبنا الدور بدلا من أن نلعبه، وإذ ذاك نكف عن لعب حتى أنفسنا. فكثيرا ما نتوهم أننا ندير اللعبة غافلين عن أنّها هي التي تديرنا، وكثيرا ما نتوهم أننا ننتج قيما مضادة لتلك التي نشأنا أو أنشأنا أنفسنا على معارضتها، فإذا بنا نعيد إنتاج ما غفلنا عن أنّ آليات إنتاجه مزروعة فينا وإن بحكم التضاد. وقد يكون ذلك حال بولغاكوف في الدور الذي اختاره لنفسه في قصته (مغامرة تشيتشيكوف) المبنية على رواية غوغول (الأنفس الميتة)، فما إن شغل كرسي المحقق، المنوطة به مهمّة كشف المحتالين الذين علا شأنهم في موسكو السوفياتية مقارنة بالمدينة (ن) القيصرية، حتى راح يستخدم أدوات أمنية وأساليب عنفية وينتج القيم المتولّدة عن هذه وتلك، مضفيا عليها حماسة هاوٍ، غالباً ما يكون الروتين قد نزعها عن مكاتب تراكم عليها الملل والغبار وربما عن وجوه أصحابها المحترفين.
في غفلة من قلمه، وربما من إرادته أو وعيه أو قل ما شئت، أوقع حبر بولغاكوف به، فعبّر عمّا بيّنت أعماله الأخرى الضد منه، في قصته التي أجد نفسي مضطرا لعرض المقطع الختامي منها على طوله، نظرا لدلالاته ولغياب ترجمة عربية للنص يمكن للقارئ العودة إليها إذا أراد ذلك. كتب بولغاكوف:
«وهنا، وما الذي لا تراه في الحلم، تجلّيتُ كمثل إله في سيارة وقلت: كلِّفوني أنا. فاندهشوا: وهل تتقن ذلك؟ فكان جوابي: لا تقلقوا. ترددوا بادئ الأمر ثم خطّوا بالحبر الأحمر: يُكلّف. وفي الحال باشرت عملي (لم أر في حياتي أطيب من هذا الحلم!). طار إليّ من كل صوبٍ ونحوٍ، خمسٌ وثلاثون ألف درّاجة نارية: أوامركم يا سيّدي؟ فأجبتهم: لا لزوم لشيء. لا تسهوا عن مهماتكم. لا حاجة بي إلى مساعدة أحد في هذه المهمة. ثم أخذت نفساً عميقا وصرخت بصوت عالٍ اهتزّ له الزجاج: هاتوا لي ليابكين ـ تيابكين، صِلوني به بالهاتف!: لا يمكننا فعل ذلك، فالهاتف مقطوع: هـ..كـ..ذا ! الخط مقطوع. فإذاً كي لا يبقى شريط الهاتف مُعلّقاً دون عمل، اشنقوا به من أخبر عن العطل!! يا إلهي، لو أنّكم ترون ما حدث عند سماعهم ذلك!: ارحمونا يا سيّدي.. لا تشغلوا بالكم.. الآن، في اللحظة، الفنيون والكابل، الآن يصلحونه.. وسرعان ما أصلحوه، وما كدت أقول: واحد.. اثنان.. حتى وصلوا الخط. فأكملت هديري: تيابكين، النذل ليابكبن، هل هو هنا؟ جرّوه إليّ من ذيله! وهاتوا قوائم الأنفس الميتة! ماذا؟ هي ليست جاهزة؟ إمّا أن تجهّزوها بخمس دقائق أو تضافون أنتم أنفسكم إلى قوائم الأموات؟! مَنْ هـ..ذه؟ زوجة مانيلوف، موظفة التسجيل؟ جرّوها من عنقها؟ أولينكا بيتروشيفا، ضاربة الآلة الكاتبة؟ جرّوها إلى هنا من رقبتها. سوباكيفيتش؟ هاتوه لي! ويخدم عندكم واحد سافل اسمه مورزوفيكين؟ والمحتال أوتشيتيلني؟ هاتوهما!! وهاتوا معهما من وضعهما هنا! اقبضوا على هذا! وهذا! وذاك! وليذهب الشاعر تريابيتشكين إلى الجحيم، وسيليفان وبيتروشكا (سائق النصّاب تشيتشيكوف وخادمه في رواية الأنفس الميتة) إلى قسم المعلومات! ونوزدريف إلى القبو.. بدقيقة واحدة.. بثانية!! أحضروا السافل الذي وقّع الترخيص، هاتوه ولو كان في عمق البحر! فتراكض الجميع وعلا الهدير... ها هو الشيطان يحط عندنا: من أين جئتم به؟! وأضفتُ: هاتوا لي تشيتشيكوف: لا.. لا يمكن العثور عليه... إنّه متخفٍّ: هكذا إذاً، لا يمكنكم القبض عليه! رائع، تُعاقبون بدلا منه، إذاً!: رحمتكم سيّدي...: اخرسوا!!! في الحال، في اللحظة.. معكم ثانية واحدة. فيبحثون عنه ويجدونه في ظرف لحظتين! وعبثاً راح تشيتشيكوف يتمرّغ عند قدميَّ وراح ينتف شعر رأسه ويمزّق ثيابه ويسترحمني متوسلا الرأفة بأمّه العجوز العاجزة: أمّك؟! رعدت أنا.. أمّك! أين المليارات؟ أين مال الشعب؟! لص!! مزِّقوه، قطّعوا هذا النذل، لديه ألماسات في بطنه. فقاموا بتشريحه: ها هي: أهذا كل شيء؟: كل شيء. علّقوا حجرا بعنقه وأرسلوه إلى القاع. وعمّ الهدوء والنظافة، فأمسكت بسمّاعة الهاتف: نظافة! فجاءني الرد: شكراً، اطلب ما تريد. وهنا درت حول الهاتف، مغالباً نفسي، على وشك أن أسكب في السمّاعة كل تلك الأشياء التي تزعجني الحاجة إليها منذ فترة طويلة: بنطلون، ورطل سكّر.. ولمبة قوتها 25 واط... ولكنني استدركت فجأة أنّ على الأديب السّوي أن يعمل هكذا لوجه الله، فذبلتُ، وغمغمتُ في سماعة الهاتف: لا شيء سوى نسخة من أعمال غوغول الكاملة بتجليد فني، كمثل تلك النسخة التي اضطررت إلى بيعها من وقت قريب. وفي اللحظة! تجلّت أمامي على الطاولة نسخة مذهّبة من غوغول...».
صحيح أنّه حلم، أو أنّها مجرّد قصّة عن حلم، لكنّها القصة التي يعلن فيها لاوعي المؤلف عن نفسه صراحة دون التخفي خلف شخصية قصصية أو روائية يقال إنّه كثيراً ما تكتب نفسها، فإذا بها محمية باتفاق تواطئي يجعل قولها يقول نفسه فحسب ويقولها فقط، وإذا بالسؤال سؤال حبر لا سؤال دم. هو كذلك حين تكون الشخصية ابنة سياقها النصي أو وليدة حاضنة روائية، لا يمكن تقويلها ما لا يناسب تطوّرها النفسي والاجتماعي، وليس دخيلة عليها كما هو حال شخصية بولغاكوف المحقق في مغامرة تشيتشيكوف. والقصة هنا قصة النهايات، فهي تأتي إكمالا لرواية كان سبق لغوغول أن أحرق مجلّدها... وبالتالي فهي تبيّت العقاب.
أم إننا أمام عنف ثقافي مضمر تشحن به الثقافة أتباعها المثقفين، فإذا بهم ينتصرون للثقافة بالعنف، منتصرين، ربما من حيث لا يريدون ولا يدرون، لثقافة العنف؟ وإذا كان الحال كذلك فبماذا يختلف بولغاكوف عن أولئك الذين مارسوا عليه العنف الستاليني الثوري، بوصفه شكلا من أشكال العنف الثقافي؟
احتكار العنف
للأسف، احتكار الدولة بشكل عام، والسلطة الثورية بشكل خاص للعنف، هو احتكار للشكل (المعلن) منه فقط، وبالتالي فهذا الاحتكار لا يشكّل ضمانة مانعة لأشكال العنف المضمرة أو الكامنة، أو لتطوّرها في أقبية الشخصية كما في سراديب المجتمع، بصورة مماثلة ومواكبة لتطوّرها في أقبية المخابرات، إلى حين أزوف لحظة خروجها المقنّن أو العشوائي إلى العلن. أم إنّ القصة وما فيها خارج ثقافية، والعنف الذي وقع بولغاكوف في شرك ممارسته ذهنياً عنف غرائزي، لا ثقافي، صادر عن وحش حوصر في الزاوية فما وجد مخرجا من الحصار إلاّ في أن ينشب مخالبه ويكشّر عن أنيابه وينتقم من أولئك الذين لم يتركوا له نافذة إلى الضوء ومخرجا إلى الحياة؟
وبعد، فما يبدو أقرب إلى الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان، وربما بسبب من وجود آلاف البراهين عليها في حياة البشر أفرادا وشعوبا، هو أنّ العنف يدفع إلى عنف مضاد، والضغط الوحشي على الإنسان يعيده إلى وحشيته، وينزع عنه كياسته الثقافية وتجمّله الحضاري. وليس في ذلك ما يثير الدهشة، فأن تنزع شخصا من سياقه الإنساني وتطلب منه أن يبقى (إنسانيا)، يعني إخراج النزعة الإنسانية من سياقاتها التاريخية والاجتماعية وتحويلها إلى قيمة مجرّدة، أو إلى أيقونة تصلح للّطم والبكاء أكثر مما تصلح للحياة، أو تصلح دعوة من نمط (من صفعك على خدك الأيمن أدر له الأيسر!) أو من نمط دعوة ليف تولستوي (مقاومة الشر بمزيد من فعل الخير)، فإذا بالطاغية يزداد طغيانا وبالمستسلم يزداد خنوعا واستسلاما! أم إنّ على الثقافة أن تصبح دينيا تولستوفيا مسيحيا، بصرف النظر عن معاناة الكائن البشري المعني بهذه الثقافة وبصرف النظر عن السياسات التعسّفية التي تطبّق عليه فتخرجه من شرطه البشري إلى آخر لا يصلح ليس فقط لاعتناق الثقافة بل للصيرورة الثقافية نحو إنسان يتجاوز الوحش وإن قليلا.كثر مما تصلح للحياة وأمّا الشرط الذي أُخضع له بولغاكوف ويخضع له آلاف المثقفين وغيرهم من البشر هنا وهناك فيجعلنا أحوج إلى وحشنا منّا إلى الشعر والمسرح والرواية والرقص والغناء. ولعل في ما انتهيت إليه انتصارا للضحية في نفس بولغاكوف وفي أنفسنا (التي لها علينا حق) فإمّا ننتصر لها أو ينتصر الوحش عليها، في حلبة يتحّلق حولها، مصفّقينَ، متفرّجون اعتادوا، بالسموكنغ وربطات العنق والمناديل المعطرة وباقات الورد، ارتياد دور الثقافة والمسرح والسينما وصالات العرض المبهرجة بالألوان وانحناءات الأجساد المشكّلة ثقافيا. أم إنّ الثقافة تتسع لوحش أكبر من ذلك الذي تضيق به البيولوجيا، فيا لبؤسنا أمام الشِعر والبارود!!
منذر بدر حلوم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد