تطور كتابة السيرة الذاتية بين الأندلسيين والمشرقيين

17-05-2011

تطور كتابة السيرة الذاتية بين الأندلسيين والمشرقيين

لماذا نخاف أن نكشف طوايا النفس العربية؟ أهو الخجل أم الإفراط في العفة أم أنه صورة غير مباشرة من صور عدم مواجهة النفس بصراحة والاعتراف بنقاط الضعف بدلاً من الفخر والمباهاة بنقاط القوة الزائفة؟

إنها فقرات قل أن نجد لها مثيلاً في تراثنا العربي من حيث جرأة كاتبها على تعرية نفسه أمام قرائه من كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي (384هـ/456هـ-994م/1064م) وهو كتاب لم يقصد به مؤلفه أن يكون اعترافاً أو سيرة ذاتية، إنما أن يكون دراسة لظاهرة الحب بشتى ألوانها. ‏

دعني أخبرك: كنت في صباي أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي شقراء الشعر اسمها (نُعْم) فجعتني بها الأقدار.. وصارت ثالثة التراب والأحجار وسنّي حين وفاتها دون العشرين سنة فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني.. فو الله ما سلوت حتى الآن، ولو قُبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي، مسارعاً طائعاً وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها ولقد عفى حبي لها على كل ما قبله، ولا حرّم ما كان بعده..). ‏

إن دراسة الاعترافات في السير الذاتية عند العرب لها دلالتها، وخاصة في سبر مدى الجرأة وصدق الاعتراف لأن تقاليدنا الاجتماعية الشرقية تضع حدوداً لهذه الجرأة.. وقد عكس ذلك الفن الشرقي منذ القدم هذه النظرة وهو ما اشتهر في (الفن التشكيلي) باسم (مذهب التعفف) على نحو ما نرى في التماثيل الفرعونية والتماثيل البابلية الآشورية في وادي الرافدين وسورية، على عكس ما نجده في تماثيل الفن الاغريقي والروماني من سيادة (مذهب التعرية) بشكل كامل وقد أشار إلى ذلك الدكتور شوقي ضيف في كتابه «الترجمة الشخصية» (1956) حين ذكر في مقدمته أنه كان لكل طائفة في تراثنا العربي منهجها الخاص في سيرها الذاتية فالفلاسفة والعلماء عنوا بالتحدث عن حياتهم الفلسفية أو العلمية وما ألّفوا وخلّفوا من مصنفات وقلما وقف شخص منهم عند طفولته ونشأته والمؤثرات الخارجية المختلفة التي وقعت عليه وأثرت في حياته ومن ثم كانت هذه التراجم فقيرة من حيث المادة النفسية والاجتماعية إذ تصبح في أغلب الأمر ثبتاً لمؤلفات الفيلسوف أو العالم غير معنية بشيء من بيئته أو حياته.. وكما أن سلطة العرف والتقاليد كان لها أثرها القوي في وضع حد (لأدب الاعتراف) في تراثنا العربي كذلك كان لسلطة الحاكم دورها في طبع معظم سيرنا الذاتية بهذا الطابع اللا شخصي وما يحمله من مكنونات تجنباً للصدام مع السلطة حتى إن بعض كتاب هذه السير دفع حياته ثمناً مثل: لسان الدين الخطيب (713هـ/776هـ-1358م-1421م) مؤلف كتاب (الإحاطة في أخبار غرناطة) الذي يتضمن الجزء الرئيسي من سيرته الذاتية فقد قتل وأحرق رفاته. ‏

كذلك حدث الأمر نفسه مع الشاعر عمارة بن الحسن اليمني الذي أعدم بالقاهرة عام 527هـ/1173م الذي ترك لنا سيرته في كتابه «النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية» أما الشيخ الرئيس ابن سينا (370هـ-428هـ-980م-1036) فقد تعرض للسجن الخ.. ‏

لكن هناك استثناءات نادرة لما يمكن أن نسميه (أدب الاعتراف) مثل تلك الفقرات التي أوردها ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة» على أشد المواقف حميمية في حياته حين يقودنا إلى داخل أغواره النفسية وهو ما لم يعرضه لنا غيره ممن قصدوا كتابة سيرهم الذاتية في تراثنا ولعل الخلفية الأندلسية لابن حزم كان لها الدور الأهم في ذلك. ‏

ويقودنا «طوق الحمامة» أيضاً إلى أن السيرة الذاتية قد نستخلصها من فقرات مبثوثة في كتاب لم يقصد به مؤلفه أن يكون سيرة ذاتية خالصة وقد فعل آخرون الشيء نفسه مثل «جلال الدين السيوطي» (849-911هـ-1445م-1505م) الذي دون سيرته الذاتية في أول كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» وكان قد قصد منه أن يكون دائرة معارف لمصر كما قد تتسع السير الذاتية فتشمل رواية الرحلات الجغرافية حيث لا تكون الرواية هنا مجرد معلومات جغرافية بل يعبر راويها عن متاعبه وأفراحه ودهشته ويتعرض لذكر حياته الخاصة كزواجه وطلاقه وذلك على نحو ما روى ابن بطوطة (703هـ/779هـ-1304م/1377م) على سبيل المثال في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». ‏

وقد تكون السيرة الذاتية أشبه بشهادة ميلاد صاحبها فيذكر بيان نسبه ثم ما تلقاه من تعليم وشيوخه الذين تلقى عنهم في زمن لم تكن الشهادات قد عرفت بعد ثم يتتبع ما تقلده من مناصب على نحو ما فعل ابن خلدون (732هـ/808هـ-1332/1406م) في كتابه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً». ‏

كما أن السيرة الذاتية قد تكتب لذاتها مستقلة على نحو ما نجد في «المنقذ من الضلال» للغزالي (450هـ،505هـ-1059م/1111م) الذي عبر فيه عن تجربته الروحية التي مر بها من حالة الشك إلى اليقين وكتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ الذي روى فيه بطولاته على أنه صياد عربي وفارس من فرسان الجيوش العربية التي اشتركت تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي (532هـ/589هـ-1138م/1193م) في صد الغزاة الصليبيين. ‏

واضح مما تقدم أن المفهوم التراثي العربي للسيرة الذاتية هو أبعد ما يكون عن الاعتراف وبذلك يختلف اختلافاً بيناً عن المفهوم الغربي ويرجع ذلك إلى اختلاف البيئة والنظم والمناخ الاجتماعي والسياسي وأن ما يعتبر تفاخراً بالجرأة والصراحة (الغرب) يعتبر لدينا خدشاً للآداب وانتهاكاً للأعراف وتطاولاً على السلطة وربما لهذا السبب اختفى أدب الرسائل الخاصة من حياتنا قديماً وحديثاً وحلت محلها الرسائل العامة والأدبية كرسائل الجاحظ والمعري لكن السيرة الذاتية تطورت في الأدب العربي الحديث شأنها شأن تطور فنون الأدب الأخرى من قصة ورواية ومسرحية الخ فأصبحنا نرى غزارة في كتابة السير بعد أن كانت نادرة قبلاً لكن معظم ما ينشر اليوم من سير ذاتية يبث في الرواية المعاصرة التي تحولت في كثير مما ينسب إليها سيراً ذاتية من بعيد أوقريب لكن الكثير من كتاب الروايات لا يتذكرون إلا بطولاتهم وينسون أو يتناسون تماماً سقطاتهم ولحظات ضعفهم وهزائمهم فهم دائماً بريئون وغير مدانين وكثيراً ما كانوا يحتمون بضمير الغائب –ذلك الستار الشفاف- بدلاً من أن يغامروا بالاعتراف بضمير المتكلم. ‏

د. منى إلياس

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...