تلميذ في حلب.. وندوب قلب في شوارع دمشق
ما إن تطأ قدماك الحديقة العامة بجانب شارع الحمراء في العاصمة السورية دمشق، حتى يتلقّفك أطفال الحديقة بمصاحفهم الصغيرة وعبارات الإلحاح والاستجداء للشراء منهم.
وجوههم المتسخة، نظراتهم المستعطفة، ثيابهم الممزقة، نعالهم المهترئة، تشدك إلى وجعهم، من هم؟ من أين جاؤوا؟ لم ليسوا في المدرسة؟ كيف يعيشون الحرب؟
داخل الحديقة والحكايات أجد نفسي مع محمد، «مهجرّين هنا... صرلنا سنة» قالها محمد بلغة طفل لا يعي تماماً ماهيّة الوقت وكيفيّة قياسه على حساب الخسارات، فالسنة بمفهومه تعني مدة طويلة ربما كانت أكثر من عام في الحقيقة.
خرج محمد مع عائلته من الحيدرية، في حي الصاخور في حلب إبان اقتحام الحي من قبل «الإرهابيين» كما يقول.
محمد، أخٌ لأربعة أطفال هو أكبرهم، جميعهم خارج المدرسة. والده يعمل على صندوق لمسح الأحذية، وأمه تعمل في حياكة الملابس.
هو طفل من بين أكثر من خمسة ملايين طفلٍ سوريّ يقاسون مرارة ما يحدث في بلادهم. أجبرته الحرب وعائلته على الخروج من حيّهم لا لشيء سوى لهويتهم التركمانية، بحسب ما زرع أهل ذاك الطفل في رأسه.
يروي ابن السنوات العشر بعفويّة ولغة عربية مفهومة بعض الشيء، قصة نزوحه من بيته ومدينته، قائلاً: «خرج الكثير من أقربائي والجيران من الحي، لأن الإرهابيين كانوا بدن يفوتوا علينا ويدبحونا». أسأله من قال لك ذلك، فيجيب: «كل الناس بتعرف... وبابا أخدنا عل الكراج وجابنا لهون ع الشام، وهلأ صرت بعرف كتير شوارع هون».
يخرج محمد صباحاً من الفندق الذي يقيم فيه مع عائلته والمهجّرين والكائن في حي المرجة في دمشق إلى المكتبة مع أبناء عمومته وأخواله، يشترون كمّا من مصاحف الجيب ثم ينطلقون في شوارع العاصمة وحدائقها. يعود إلى النزل عند الظهيرة، يتناول غداءه مع إخوته ووالده العائد من طرقات أخرى، يستريح بعض الوقت ليتابع العمل على «صندوق البويا» الخاص بوالده مساءً.
آثار الندبات والجراح في يديه، لم تكن أقسى من تلك التي حملها في داخله. يشتاق إلى مدينته ومدرسته وبيته التي يجزم بأنه لن يراها من جديد. وجلُّ ما يشغل بال محمد الآن هو ادّخار المال ليشتري به «موبايل سامسوم» - يقصد «السامسونغ»- حتى يتمكن من الاتصال بعمّه العسكري الذي يقاتل في صفوف الجيش في حلب، ولم يره منذ خرج من هناك.
على مقعد الحديقة، يغيب الصبي في صمت قصير كأنه يتذكّر شيئاً ما، وينطق فجأة: «نحن أبطال». أستغرب العبارة واستفسر مستوضحةً عن قصده، فيجيب: «كنت ألمّع حذاء رجل يوم أمس، فقال لي: أنتم أبطال».
أؤكد له أنهم كذلك ثم يمضي مع رفاقه ليتابع يومه وسط ضجيج تلك المدينة التي تحتضن ما يفوق طاقتها على الاستيعاب من الأبناء.
محمد كان في الصف الرابع عندما خرج من حلب وترك المدرسة، لا يعرف أنه يجب أن يكون في الصف الخامس لأن المدرسة بالنسبة له انتهت مع خروجه منها هناك، في (الحيدرية)، شأنه شأن مئات الآلاف من تلاميذ سوريا. ففي آخر تقرير له حول هذا الموضوع حذّر صندوق الأمم المتحدة للطفولة من أن نحو مليوني طفل سوري محرومون من التعليم؛ إما بسبب تضرر المدارس جراء أحداث العنف، أو بسبب اللجوء والنزوح.
وتفيد التقارير بأنه إلى حدود السنة الدراسية المنقضية حُرم من التعليم نحو 40% من تلاميذ سوريا المسجلين في الصفوف من الأول إلى التاسع، كما أصبح أكثر من مليون طفل سوري لاجئين، ما يجعل العودة إلى المدرسة أمراً صعباً للغاية.
ومسألة التحاق جميع الأطفال النازحين في البلاد الأخرى بالمدارس أمر أكثر من صعب، لأن ذلك يشكل عبئاً أكبر من طاقة تلك البلاد بحسب التقارير الواردة من بعضها؛ ففي مخيم الزعتري للاجئين في الأردن، لم يُسجّل سوى 15 ألف طفل من مجموع ثلاثين ألف طفل في سن الدراسة. أما في مخيمات اللجوء في العراق فيُحرم تسعة من كل عشرة أطفال لاجئين، من الدراسة.
وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) مع بداية العام الدراسي الحالي، إن عدد الأولاد السوريين النازحين في سن الدراسة في لبنان بلغ نحو 350 ألف ولد وطفل، في حين أن عدد تلامذة المدارس الرسمية في لبنان يبلغ نحو 320 ألف تلميذ، ما يعني أن عدد الأولاد السوريين في سن الدراسة يتجاوز عدد اللبنانيين.
أما داخل القطر، فمع انطلاق العام الدراسي 2013، قالت الأمم المتحدة إن أكثر من 3600 مدرسة تعرضت للتدمير أو لحقت بها أضرار منذ اندلاع الأحداث في سوريا، وإن حوالي 900 مدرسة أخرى تشغلها عائلات لنازحين أو مهجرين، ما يجعل العملية التعليمية بطيئة الوتيرة إن لم تكن مستحيلة في ظل تضاعف عدد التلاميذ في المدارس ونقص الكوادر التدريسية، أو عدم دخول أطفال النزوح ضمن إحصاءات التربية بشكل فعلي لتأمين تسجيلهم في المدارس والمراكز التعليمية المخصصة لهم.
إنها لعنة الحرب إذاً، رحى الظلم، فماذا سيحصّل تلاميذ سوريا من تقارير المفوضيات وإحصاءات الأمم في نهاية عامهم الدراسي؟
سناء علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد