تنامي الدين اللبناني
رغم الموقف المتعاطف مع لبنان والمتفهم لظروفه خلال عام ضاغط سياسيا واقتصاديا، فان صندوق النقد الدولي لا يخفي قلقه من استمرار أخطار التنامي المتعاظم للمديونية على المدى المتوسط حتى مع اقرار برنامج التصحيح المالي الذي تعتزم الحكومة اللبنانية القيام به بسبب أخطار تعثر تطبيق هذا البرنامج بفعل غياب الاستقرار السياسي.
ورغم ان الكلام عن برنامج مع صندوق النقد لم يتعد الاقتراحات الواردة عن بعض ممثلي الدول المانحة، مع استعداد أبداه الصندوق اذا طلبت الحكومة اللبنانية ذلك، فان المقارنة بين تقويم بعثة الصندوق في تقرير المادة الرابعة، وبرنامج الحكومة تبين التقارب الواضح والتعاون الوثيق بين الحكومة والصندوق على برنامج الاصلاحات المقترح ان من حيث الاهداف او من حيث الاجراءات المقترحة لتحقيق تلك الاهداف. ولعل ما يميز البرنامج عن تقرير الصندوق يتجلى في المواقف المتحفظة التي أبدتها البعثة على أكثر من صعيد:
- التخوف من عدم قدرة الحكومة على تطبيق البرنامج دون استمرار تنامي الدين ما يجعل استراتيجيا الخفض التدريجي للدين محفوفة بالاخطار.
- تسليط الضوء على وضعية المصرف المركزي وحاجته الى تصحيح ميزانيته وهي المرة الاولى التي يستعرض فيها التقرير بهذه الصراحة وضعية المصرف المركزي، حيال الخسائر وحماية ربحية المصارف، وذلك بعدما أصبحت تكاليف الاستقرار النقدي تظهر في ميزانيته وليس في موازنة الدولة.
- الاخطار المحتملة على القطاع المصرفي.
ويلتقي الصندوق في السيناريو الذي وضعه مع أهداف الحكومة وان يكن أكثر تحفظا بالنسبة الى بعض التوقعات المتعلقة بتطبيق الاجراءات، بحيث يتوقع في حال اقرار برنامج التصحيح واجراءات الخصخصة تراجع نسبة الدين الى الناتج الى 133 في المئة في حلول سنة 2011 او ارتفاع هذه النسبة الى 210 في المئة اذا لم يحصل أي تغيير في السياسات.
وتوقع الصندوق ان يساهم كل مليار دولار من المساعدات الدولية بخفض نسبته 5,6 في المئة من الدين الى الناتج.
وتنشر "النهار" ابرز ما أورده تقرير المادة الرابعة الذي كان موضع نقاش بين مسؤولي الصندوق والحكومة اللبنانية والذي سيعرض على مجلس المديرين في الصندوق بعد غد الاربعاء لمناقشته واقراره.
ماذا جاء في التقرير؟
"لقد تمكن لبنان من تحمل صدمة الثقة التي نجمت عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005 رغم التراجع اللافت في نمو الناتج وتقلص الودائع بنسبة 4 في المئة في النصف الاول من السنة وارتفاع نسبة الدولرة. وبغياب اي مبادرات لسياسات جديدة تراجع الفائض الاولي الى 2,5 في المئة فيما ارتفع الدين الى 175 في المئة من الناتج. لكن تدخل السلطة النقدية منتصف العام والخروج الهادىء من الازمة السياسية أعادا الثقة.
وقد أدى التمركز المرتفع للدين لدى المصارف الى زيادة الاخطار في حين سجل توافر في السيولة مرده الى افادة من الظروف الاقليمية. وبغياب اي عملية تصحيح ظلت الحاجات التمويلية تضغط على الاحتياط.
لقد أعدت الحكومة برنامجا للتصحيح المالي متزامنا مع اصلاحات هيكلية ومشاريع خصخصة لكن عدم الاستقرار السياسي حال حتى اليوم دون اقرارها البرنامج. ان سيناريو الصندوق للتصحيح يعتمد على اجراءات مالية توازي 7 في المئة من الناتج ومع تطبيق الخصخصة يمكن ان تساهم هذه الاجراءات في خفض نسبة الدين من الناتج الى 133 في المئة في حلول سنة 2011. كما ان المساعدة المالية الدولية ستكون ضرورية لخفض الدين وجعله قريبا من المستوى القابل للاحتمال. وقد اقصى السيناريو أي خيار لتحرير سعر الصرف او اعادة هيكلة الدين".
ورأى التقرير انه "بعد مؤتمر باريس 2، كثف صندوق النقد الدولي وتيرة متابعته بناء على طلب الدول المانحة. لقد وفر مؤتمر باريس 2 الدعم لاستراتيجيا السلطات اللبنانية لمعالجة مشكلة المديونية مرتكزا على رزمة من الاجراءات المالية والخصخصة والاصلاحات المالية، لكن ارساء هذه الاصلاحات اصطدم بالوضع السياسي ولم تلق نصائح الصندوق في سياق مراقبته اي نجاح فيدفع الاصلاحات نحو التنفيذ بسبب عدم الاستقرار السياسي. ورغم تحمل لبنان لصدمة الثقة الناتجة من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فان الوضع المالي الضعيف أصلا ظل على حاله. وقد رأت السلطات اللبنانية في تغير المشهد السياسي بعد انتخابات 2005 فرصة لاعادة اطلاق برنامج اقتصادي واصلاح مؤسساتي. وقد ركزت البعثة على الاخطار الماكرو اقتصادية القائمة وعلى استراتيجيا للمدى المتوسط لاستعادة العافية المالية للدولة وارساء الاسس لنمو اقتصادي قوي.
ومع تولي الرئيس السنيورة رئاسة الحكومة، واعلانه عزم الحكومة على طلب دعم المجتمع الدولي لبرنامج اصلاحات اقتصادية ومالية طموحة، فان تجدد الضغوط السياسية، ان في ملف العلاقات اللبنانية السورية، او في مسألة شرعية رئيس الجمهورية، او مطلب الامم المتحدة نزع سلاح "حزب الله"، قد ادى الى تأخر متكرر في اعتماد البرنامج.
- لقد تراجع النمو في شكل لافت عام 2005 وتراجع التضخم الى 0,3 في المئة.
- ان التراجع التدريبي لمعدلات الفوائد على خدمة الدين ساهمت في خفض ثابت على مجموع العجز المالي (الى 8 في المئة في 2005) ولكن مع استحقاق اكتتابات المصارف بفائدة صفر في المئة، ستعود الفوائد الى الارتفاع.
- لقد زاد المصرف المركزي دوره منذ عام 2002 على حساب قوته المالية وقد ارتفعت ميزانيته من 13 مليار دولار الى 29 مليارا نهاية 2005 عاكسا بذلك عمليات تمويل الدولة واعادة تكوين الاحتياط. وقد تزامن توسع الميزانية مع زيادة في الخسائر التي تعكس تلك العمليات، فضلا عن تحويلات الى الحكومة لارباح ترسملية غير محققة على احتياط الذهب، اضافة الى الخدمة المرتفعة لاصدارات الدين لآجال طويلة (اجريت مطلع 2005) والشروط المؤاتية للمصارف التجارية لحماية ربحيتها في 2005.
- ان القطاع المصرفي لا يزال مستمرا بتحقيق ارباح لكنه لا يزال ضعيفا مع مطالبات على الدولة والمصرف المركزي تفوق 50 في المئة من موجوداته.
- سجل تقدم بسيط على صعيد الاصلاحات البنيوية منذ عام 2004.
ورغم استعادة الثقة، فان صورة الوضع المالي والماكرو اقتصادي لا تزال على مستوى عال من الهشاشة. فمع الاشارة الى زيادة الاختلالات المالية، مستوى الدين العام لا يزال يرتفع ومع قرب انتهاء مفاعيل اموال باريس 2 فان الفوائد سترتفع مجددا. يضاف الى ذلك ان المستوى الانتمائي السيادي قد تدهور بفعل امتصاص المصرف المركزي في ميزانيته الأكلاف الناتجة من الاستقرار النقدي.
ورغم ان لبنان يتمتع بموقع جيد ليستمر في استقطاب جزء من التدفقات المالية لدول الخليج، فان التأخير في تطبيق التصحيح المالي سيؤدي الى عجوزات في الحاجات التمويلية التي ستزيد مع امكان زيادة الضغوط على الاحتياطات الاجنبية.
لقد تركزت مناقشات البعثة مع المسؤولين اللبنانيين على 4 محاور اساسية في برنامج الحكومة: التصحيح المالي وادارة الدين، السياسة النقدية، دور القطاع المالي والنمو والأجندة الاجتماعية.
سيناريو الصندوق
ووفق سيناريو الاساس الذي وضعته البعثة، فان عدم حصول اي تغيير في السياسات سيؤدي الى ارتفاع الدين الى 210 في المئة من الناتج في حلول سنة 2011، ويتوقع السيناريو دخول الدين في الحلقة المفرغة وارتفاع معدلات الفوائد وضعف النمو الاقتصادي.
اما في سيناريو التصحيح فترى البعثة ان جهودا طموحة على مستوى التصحيح المالي والخصخصة تؤدي الى خفض الدين الى 133 في المئة في حلول 2011. ويرتكز هذا السيناريو على اجراءات مالية تشكل 7 في المئة من الناتج على ان يتم ارساء معظمها في السنوات الثلاث الاولى، كما ان خصخصة جزئية لقطاع الاتصالات في 2006 2007 ستؤدي الى زيادة الايرادات بنسبة 19 في المئة من الناتج. ويقصي السيناريو اي تصحيح لسعر الصرف او اعادة هيكلة الدين او اي دعم مالي. ويعتمد على اجراءات مترافقة في مجالي الانفاق والايرادات. ويرى ان زيادة الايرادات بنسبة 4,3 في المئة من الناتج يأتي من زيادة الضريبة على القيمة المضافة الى 15 في المئة كما ان اصلاحات على صعيد الضريبة الموحدة على الدخل بما فيها زيادة على ضريبة الدخل وزيادة على اسعار البنزين وزيادة الضريبة على الفوائد المصرفية من 5 الى 7 في المئة.
اما في مجال خفض الانفاق فان هذا الامر يجب ان يتم بالتزامن مع الاصلاحات الهيكلية في القطاع العام ولا سيما في مجال نظام التقاعد وسياسة الاجور والخدمة المدنية وقطاعي الكهرباء والصحة (الضمان).
- لدى السلطات اللبنانية نظرة تفاؤلية اكبر حيال توقعات النمو (اكبر من توقعات البعثة البالغة 3 في المئة) وتراجع الفوائد في حين ترى البعثة ان لا تراجع في بنية الفوائد.
- ترى البعثة ان سيناريو التصحيح لا يخلو من الاخطار. حتى ولو نجح، فان الاستراتيجيا ستبقي لبنان مع مستوى مرتفع لنسب الدين للمدى المتوسط.
- المساعدات الداخلية والخارجية ستسرع عملية استقرار الدين، وكل مليار دولار مساعدات سيؤدي مثلا الى خفض بنسبة 5,6 في المئة من الدين الى الناتج في حلول 2011.
- قررت الحكومة تأجيل طرح مشروع موازنة 2006 من اجل ان تدخل عليه بنود البرنامج الاصلاحي لكنها في الوقت ذاته ادخلت عددا من الاجراءات الادارية التي تحسن اداء المالية العامة والموازنة وقد قامت وزارة المال بخطوات عدة وجهود على صعيد تحسين انظمة الدفع وتطوير الاسواق المالية.
- يشكل صندوق الضمان مجال اهدار كبير في الموازنة وقد قررت الحكومة تعيين مدققين لحسابات الصندوق ومؤسسات عامة اخرى. كما ان تصحيح وضع كهرباء لبنان يشكل مفتاحا اساسيا لتعزيز وضع الموازنة.
- وافقت الحكومة على التصحيح لكنها ترى ان التوقيت والتنفيذ يتطلبان دعما سياسيا واقتصاديا داخليا.
- ترى السلطات اللبنانية ان ثبات النقد يشكل المفتاح الاساس لاستقرار النظام المالي. وفي غياب اي حاجة لتصحيح سعر الصرف ومع الاخذ في الاعتبار المستوى المرتفع للدولرة ترى السلطات اللبنانية اخطارا اقل في تقلبات النقد لتحقيق ارباح. وقد تعززت هذه القناعة بعد احداث 2005 دور النقد في المحافظة على الثقة.
- بالارتكاز الى قوة التدفقات المالية وتحسن احتياط العملات الاجنبية، لا ترى السلطات حاجة الى مواكبة الارتفاع بمعدلات الفوائد العالمية.
- على المصرف المركزي الاعتراف بالحاجة الى الحد من خسائره. حتى الان لم يكن للخسائر المسجلة اي تأثير على النقد. وارتكازا على عدد من الالتزامات يتوقع ان تنخفض هذه الخسائر في حلول سنة 2009. ولتحسين وضعه المالي، لجأ المركزي الى عدد من الاجراءات (كتحقيق ارباح من خلال بيعه مصرف تابع له) او بصدد اتخاذ اجراءات لبيع "الميدل ايست" وموجودات اخرى. وفي اي حال فان هذه العمليات ستحد قليلا من خسائر المركزي ولكن لا بد من اتخاذ المزيد من الاجراءات للحد منها.
التقويم
وبعد استعراض الوضع المالي ومكامن الضعف فيه واهمية المحافظة على الثقة بالقطاع المصرفي وتوسيع حصة المصارف في السوق المالية، وبعد استعراض السياسات البنيوية بالنسبة الى النمو والقطاع الخاص، رأت البعثة ان اولى أولويات الحكومة تتمثل في ارساء شبكة امكان اجتماعية.
وخلصت البعثة الى مجموعة من التوصيات التي سبق واشارت الى معظمها في سياق التقرير. فقالت ان احداث 2005 قد عرضت مكامن الضعف في الاقتصاد اللبناني وانما بينت ايضا مناعته في وجه الصدمات.
ان النسبة المرتفعة للدين والدولرة والعجز المالي وعجز الحساب الجاري والاعتماد على تدفقات على المدى القصير لتمويل هذه العجوزات، كلها نقاط لا تزال تشكل مكامن الضعف الاساسية. هذه الاخطار المتزامنة مع هذه الاختلالات قد تغيرت متأثرة بالمناخ الخارجي وسيولة اقليمية واسعة واستقرار نسبي بقاعدة المودعين.
وهي عوامل تفسر هذه القوة الفريدة بما فيها السيولة المحمولة من المصارف وسمعة جيدة للقطاع المصرفي مبنية على مر العقود وقدرة لدى السلطات على ادارة ومعالجة الضغوط المالية الناجمة عن احداث 2005.
- مع استعادة الثقة، التحول السياسي المستمر ادى الى ايجاد فرصة لمعالجة الاختلالات الاقتصادية عبر اصلاحات بنيوية، وهدف هذه الاصلاحات يجب ان يكون حماية لبنان من اخطار ازمة مالية زيادة النمو في البلاد. واي تأخير في اعتماد برنامج الاصلاحات سيعيد لبنان مجددا الى دائرة الضغط المالي.
- لان لبنان سيظل يعمل في ظل مستويات مرتفعة جدا للدين على المدى المتوسط، فان استراتيجيا الخفض التدريجي للدين عبر تصحيح مالي مستمر لا يخلو من الاخطار.
- ان لبنان لديه اخطار مرتفعة بسبب عدم الاستقرار السياسي والصدمات المالية، لذا فان برنامج الحكومة يجب ان يدخل في عملية التصحيح مدعوما ببرامج خصخصة واصلاحات.
- ان الثبات النقدي لا يزال الدعامة النقدية المؤاتية للبنان ويحتاج لان يدعم عبر سياسة مرنة للفوائد وميزانية قوية للمصرف المركزي وسياسة تعاون وطيدة بين السلطتين المالية والنقدية.
- ان الاستقرار المالي يعتمد في شكل اساسي على ثقة المودعين والاشراف المستمر عن قرب على القطاع المصرفي يجب ان يكون عاملا اساسيا في هذه الاستراتيجيا.
- ان ميزانية المصرف المركزي لم تعد في موقع يسمح لها بحمل كل تكاليف تعقيم العمليات او تمويل دين الدولة. ولا بد من سياسة تنسيق بين السلطتين المالية والنقدية مدعومة باجراءات مؤسساتية لتحسين الادارة النقدية وتعزيز ميزانية المصرف المركزي.
- لا بد من ان تتزامن العملية الاصلاحية باجندا واضحة للنمو.
- في الخلاصة، ثمة تقارب في وجهات النظر بين السلطات اللبنانية والبعثة على الحاجة الى هذه الاصلاحات في المرحلة المقبلة، فلبنان العليل لا يمكنه تحمل التأخير في هذه الاصلاحات. وفي نظر البعثة، الهشاشة والاخطار لا تزال مرتفعة جدا واي مقاربة للاصلاح لا تزال معرضة للاخطار السياسية على الطريق. على السلطات اللبنانية اغتنام الفرصة الوحيدة المتاحة جراء التغيير السياسي الذي شهدته البلاد واهتمام المجتمع الدولي بدعم لبنان من اجل تحقيق التقدم في البرنامج الاصلاحي.
ان نجاح برنامج التصحيح يتطلب المحافظة على ثقة المودعين.
سابين عويس
المصدر : النهار
إضافة تعليق جديد