جائحة إنتانات تنفسية أودت بحياة عدد كبير من أطفالنا
شهدت الفترة الاخيرة ازدياداً ملحوظاً لحالات الرشح والكريب المترافقة بأعراض مرضية شديدة وحالات اخرى مستعصية من الانتانات التنفسية، قسم كبير منها استغرق فترة زمنية طويلة للشفاء وحالات كثيرة لم تشف انتهت بالوفاة، غالبيتها من الاطفال..
الامر الذي اثار استغراباً كبيراً عند الكثير من الناس، فكيف لحالات بسيطة من الرشح والكريب ان تنتهي بالوفاة؟ وقد ترافق ذلك مع ازدياد شكاوى الاهالي من الازدحام الحاصل في مشفى الاطفال ومايرافقه من سوء استقبال ومشادات كلامية حادة بينهم وبين الاطباء والممرضين، وعدم تقديم العلاج اللازم لاطفالهم واحالتهم الى مشاف اخرى.
مجمل ذلك دفعنا للاستفسار اكثر عما يجري من ناحيتين:
الاولى معرفة اسباب تزايد الامراض التنفسية وحدتها في هذه الفترة.
والثانية: معرفة ماذا يحدث في مشفى الاطفال؟
ومن دون تردد توجهنا الى هناك، وعلى مدى عدة أيام تجولنا خلالها ضمن أروقة المشفى وشعبها الطبية، وكانت البداية مع شعبة الانتانات التنفسية ،حيث التقينا الدكتور عصام انجق الذي تحدث الينا قائلاً:
من اللافت هذا العام خاصة خلال هذه الفترة، تزايد الاختلاطات والمضاعفات التي طرأت على حالات بسيطة من الرشح نتيجة حدوث طفرة على الفيروسات التي تسبب الانتانات التنفسية اي ظهور فيروس جديد، وذلك بسبب الظروف المناخية التي تمر بها البلاد والتي شكلت بيئة مناسبة لتكاثر الفيروسات وهذا الفيروس يصعب اكتشافه وتشخيصه لان له اشكالاً وانماطاً كثيرة بالاضافة الى ندرة الابحاث العلمية والاكاديمية والعجز في الامكانيات المخبرية ذات التكلفة المادية الباهظة.
ويضيف انجق: ان هناك فيروسات تقاوم المضادات الحيوية بسبب الاستهلاك العشوائي لها من قبل الكثير من الناس الذين يشترونها من الصيدليات بدون وصفات طبية لمعالجة حالات بسيطة كرشح خفيف او التهاب بلعوم عادي ما يؤدي الى صعوبة معالجتها فيما بعد ،حيث تتحول الى حالات قصور تنفسي او مضاعفات اخرى معقدة، كانتان الدم والتهاب السحايا الذي يؤدي الى الوفاة.
ويضيف : انه كلما صغر سن الطفل كانت الاصابة أشد، حيث تتحول الى التهاب في القصبات الشعيرية التي تحدث تشنجاً او وزمة ومفرزات شديدة تعوق التنفس ونتيجة لشدة المرض الموجودة حالياً، زادت حالات ذوات الرئة وانصبابات الجنب بشكل لم نشهده في الاعوام السابقة، فبسبب قوة الجرثومة يتشكل سائل قيحي لزج جداً بين النسيج الرئوي ( الجنب) وبين القفص الصدري وهذه الحالات الخطيرة تتطلب الاقامة في المشفى فترة زمنية طويلة ومتابعة طبية دقيقة عن طريق الصور الشعاعية واثناء وجودنا في شعبة الانتانات التنفسية التقينا العديد من أهالي الاطفال الذين يعانون من هذه الحالات:
السيدة أسماء حلاق والدة الطفلة سارة سري البالغ عمرها خمس سنوات تحدثت الينا قائلة: منذ عشرة أيام ونحن هنا، فقد عانت ابنتي في البداية من ضيق تنفس وسعال قوي وآلام في كل جسمها فعرضناها على عدة اطباء ولكن دون فائدة ثم أخذناها الى مشفى دمشق المجتهد فلم يستطع الطبيب هناك تشخيص الحالة وطلب منا أخذها فوراً الى مشفى الاطفال فتبين انها تعاني من ذات رئة مترافق بانصباب جنب ومنذ ذلك الوقت ومعاناتنا لاتوصف لان التحسن بطيء جداً ودائماً درجة حرارتها(39) ولاتستطيع النوم وضعف جسمها وهي لاتأكل ودائماً تصرخ.
اما السيدة اسماء الناصر( من محافظة درعا) وهي والدة الطفلة رانيا( أربعة أشهر) تقول وقد بدا الحزن والتعب على وجهها:
منذ (17) يوماً ونحن هنا، فقد أصيبت ابنتي برشح خفيف، ولكن مالبث ان تفاقم لدرجة الاختناق، فأدخلناها مشفى درعا لمدة (15) يوماً ولم نستفد شيئاً، فأحالونا الى مشفى الاطفال. فتبين انها تعاني من التهاب رئة.
ـ السيدة امينة عطا الله ( من دير الزور ) وهي والدة الطفلة بشائر (ثلاثة أشهر) عبرت عن معاناتها فقالت: منذ(16) يوماً ونحن هنا وقد استأجرنا منزلاً في دمشق لحل مشكلة الاقامة وأحوالنا المادية والنفسية سيئة.
في حالة اخرى تقول والدة الطفل محمد (ثلاث سنوات) بقينا اكثر من اسبوعين نراجع الاطباء، ولكن دون فائدة وقد أعطوه ادوية ثقيلة ادت الى استياء حالته اكثر وكلما عرضناه على طبيب يقول كريب عادي الى ان طلب احدهم اجراء تحاليل وصور شعاعية، فتبين انه يعاني من ذات الرئة، وطلب اسعافه الى المشفى فوراً ونحن هنا منذ عيد الاضحى
ـ الدكتور وسيم الشكر احد المشرفين على هذه الحالات اكد ان شعبة الانتانات التنفسية تعمل بكل طاقتها، فكلما خرجنا مريضاً اتانا ثلاثة.
بعد ذلك توجهنا الى وحدة العناية المشددة، باعتبارها احد اهم الوحدات واكثرها دقة وحساسية، وفيها يتقرر مصير اي مريض سواء الحياة او الموت، فوجدنا اطفالاً لاتتجاوز اعمارهم الايام والشهور يغرقون بين الاسلاك والاجهزة، واثناء ذلك اقتربت منا السيدة نجاح الدبس( نائبة مديرة التمريض) والعاملةفي المشفى منذ 32 عاماً وقالت:
انه منذ شهرين وحتى الآن معظم القبولات التي تأتينا هي حالات صدرية كالتهاب القصبات الشعرية والتهاب الرئة وهذا يستدعي اوكسجيناً بالدرجة الاولى، اضافة الى الادوية وخلال هذه الفترة لاحظنا استهلاكاً غير طبيعي للاوكسجين مقارنة بعدد مآخذ الاوكسجين الموجودة لدينا والتي تبلغ (16)مأخذاً و14 سريراً فقط، ونتيجة لهذا الضغط فإن قبولات كثيرة تكون بحالة يرثى لها، لانستطيع استقبالها ونعيدها الى الاقامة المؤقتة ريثما يتم تأمين سرير ،حيث يعطى الاوكسجين بواسطة جهاز (الامبو) التنفيخ اليدوي، وهي عملية متعبة ولاتؤمن الاوكسجين المثالي اللازم للطفل حيث يضعون كل ثلاثة اطفال او اربعة على سرير واحد وفي معظم الاحيان يقوم الاهالي بالتنفيخ لابنائهم اي يلعبون دور الممرضين وهذا الوضع قد يستمر يومين او ثلاثة مايزيد الضغط عليهم اكثر.
وتضيف الدبس: ان معظم الاهالي الذين يأتون الى هنا هم من الفقراء العاجزين عن اخذ اطفالهم الى المشافي الخاصة، حيث يصل سعر مأخذ الاوكسجين الى 3000 آلاف ل.س لليوم الواحد في أقل المشافي الخاصة اجراً ،واكثر من 10 آلاف في احد المشافي الشهيرة في دمشق، وهذه الاسعار خيالية وغير معقولة لايحتملها احد ، الامر الذي زاد عدد الوفيات وتقديم خدمة دون المستوى المطلوب، فمعظم الحالات تكون اسعافية وتحتاج مراقبة لمدة 48 ساعة وخلال ذلك يكون الاهل بحالة بكاء وانهيار شديد ولانستطيع ان نفعل لهم شيئاً إلا أن نبكي معهم. - الدكتور أيمن البلخي ( رئيس وحدة العناية المشددة) قال: لدينا الآن جائحة تنفسية بدأت منذ شهرين ومازالت حتى الآن وهذه الملاحظة عند اطباء الاطفال في البلد كلها، فأنا على سبيل المثال في عيادتي يومياً هناك ثلاث أو أربع احالات الى المشافي واسباب هذه الجائحة غير معروفة حتى الآن ولكن يمكننا القول انه كلما اجتمعت عوامل مسببة اكثر زادت الاختلاطات والمضاعفات كتلوث البيئة والبرد والتدخين، حيث يدخل الفيروس الى الدم ويتحول الى انتان دم فايريميا وهي حالة خطيرة لان الفيروس سيدخل الى الدماغ والكبد والكليةوجميع انحاء الجسم وبالتالي تؤدي الى الوفاة المؤكدة وهؤلاء وصلت نسبتهم حتى الآن اكثر من 50% وجميعهم توفوا.
ويضيف الدكتور البلخي: ان هناك فيروساً يسمى الفيروس التنفسي المخلوي( r.s.v) مسؤول عن (50%) من الانتانات الفيروسية وهذا يتم التحري عنه في اغلب دول العالم ولكن في سورية لانتحراه فلماذا لايكون لدينا في المشفى مخبر لتحري هذا الفيروس وبالتالي نكشف 50% من الحالات التي تأتينا.
من ناحية اخرى يشكو البلخي من قلة عدد الممرضات في وحدة العناية فيقول: في البداية كنا نخصص ممرضة لكل طفلين ولكن الآن اصبحنا نخصص لكل أربعة اطفال ممرضة وبالتالي تعمل الممرضة ثلاثة اضعاف عملها ما يؤدي الى حدوث تقصير في العمل وملاسنات غير مقبولة مع الاهل ويضيف : انه في جميع انحاء العالم يخصص لكل طفل ممرضة واذا كان الطفل بحالة خطرة وعلى جهاز التنفس الاصطناعي يكون له ممرضتان وهذا النقص لم يشمل الممرضات فحسب وانما الاطباء ايضاً فقد تم تحويل معظمهم الى الاسعاف خلال هذه الفترة وعلى سبيل المثال: وحدة العناية تحتاج الى ثلاثة مشرفين على الاقل ولكن لايوجد فيها سواي حيث اقوم بالاشراف على الجميع.
ويتابع الدكتور البلخي: انه نتيجة الاقبال الكبير على المشفى، انخفض مستوى الخدمة فمثلاً يأتينا الطفل بحاجة الى ارزاز(أوكسجين + دواء لمدة 24 ساعة) يتم اختصارها الى ست ساعات عندها يعترض الاهل وتبدأ الملاسنات الكلامية مع الاطباء والممرضين، لان جلسة الارزاز في المشافي الخاصة مكلفة جداً. ويضيف: ان ذلك اثر ايضاً على حركة المرضى، فبدل أن ينام المريض 48 ساعة يتم اختصارها إلى ست ساعات او اكثر لدرجة عندما يأتي فوج اطفال جديد الى الاسعاف حالتهم العامة سيئة يخرجونهم حتى لو لم يتحسنوا 100% في سبيل انهم اخذوا نصف حقهم ويجب اتاحة الفرصة لغيرهم.
ولمعرفة اسباب قلة الممرضات التقينا السيدة سهام كفا مديرة التمريض والعاملة في المشفى منذ 32 عاماً فقالت:
بلغ عدد الشواغر لدينا 40 ممرضة وعندما طلبنا من مدرسة التمريض فرز العدد اللازم من الممرضات، خصص لنا 14 ممرضة فقط من اصل هذا العدد.
وتؤكد كفا: انه منذ الشهر التاسع لعام 2006 وحتى الآن لم تلتحق الممرضات الجديدات بعملهن ولاندري ما السبب؟
وتضيف: انه نتيجة قلة الحوافز المادية وصعوبة العمل هنا كون الاطفال يحتاجون لمعاملة خاصة ودقيقة وبالذات حديثي الولادة، تسعى الممرضات للهروب من هنا بشتى الوسائل والانتقال الى المراكز الصحية والمستوصفات لقلة ضغط العمل هناك ما ادى الى تزايدهن في المستوصفات وقلتهن في المستشفيات فمثلاً: هناك مستوصفات لاتحتاج اكثر من عشر ممرضات
ولكننا نجد فيها عشرين ممرضة واغلبهن لايعملن.
وتضيف ايضاً: ان هناك ممرضات يتعاقدن مع المشافي الخاصة على حساب العمل هنا وهناك فترات تأخذ فيها الممرضات اجازات او أمومات، فتكون النتيجة نقصاً كبيراً في الكادر التمريضي وتدني مستوى الخدمات.
وباعتبار ان مشفى الاطفال يتبع لوزارة التعليم العالي فإن جميع الممرضات المخصصات لنا يتم فرزهن من مدرسة التمريض وهذه المدرسة لاتستوعب اكثر من 150 ممرضة يتخرجن سنوياً حيث يوزع هذا العدد على جميع المشافي والمراكز التابعة لوزارة التعليم العالي.
وتتساءل كفا: لماذا لايتم التنسيق بين وزارة الصحة ووزارة التعليم العالي لحل هذه الازمة؟
علماً أننا طرحنا هذه المشكلة مراراً على الجهات المعنية ولكن دون اية استجابة تذكر لدرجة اننا مللنا ويئسنا من هذا الموضوع؟
من جهة اخرى الدكتور مطيع كرم مدير المشفى قال: نعاني خلال هذه الفترة ضغطاً كبيراً على جميع اقسام وشعب المشفى من جميع انحاء القطر، وتحديداً المحافظات الشرقية، حيث يأتينا يومياً مايعادل( 1000) مريض على مدار 24 ساعة فقد بلغت اعداد القبولات على مدى عشرين يوماً في العيادات 8500 مريض والاسعاف 7000 مريض وفي الاقامة المؤقتة(1086) مريضاً والشعب الطبية 674 مريضاً. هذه الارقام الكبيرة جعلتنا نستخدم غرف الاساتذة والاطباء المشرفين والمتعاقدين، وجميع غرف الشعب الطبية، حيث بلغ عدد الاسرة في كل شعبة 54 سريراً وفي اخرى وصل الى 57 سريراً ومع ذلك لاتزال مشكلة ضيق المكان قائمة.
وبالنسبة للحاضنات لدينا 67 حاضنة، وحالياً ننتظر عشر حاضنات اخرى، ونقف عاجزين عن تأمين مكان لها، ويعزو الدكتور كرم اسباب الضغط الواقع على المشفى الى موجة الامراض التنفسية التي تجتاح البلاد حالياً، وتحول بعض المشافي مثل مشفى دمشق المجتهد الى مشاف مأجورة، تأخذ اجور معاينة من المرضى، ما يؤدي الى توجه مرضاهم الى مشفى الاطفال كونها مجانية، باستثناء وجود جناح خاص مأجور يضم 30 سريراً مخصصاً للقادمين من المحافظات البعيدة الراغبين في الاقامة مع اولادهم بالاضافة إلى ان المشفى تضم احدث الاجهزة الطبية وخيرة اعضاء الهيئة التدريسية.
وفي هذا السياق يؤكد الدكتور كرم على ضرورة إقامة مشفى أطفال حديث لأبناء المنطقة الشرقية الذين يقطعون مئات الكيلو مترات لاسعاف مرضاهم الى دمشق، حيث يصل الكثير منهم بحالة ميؤوس منها، إضافة الى ضرورة تفعيل المراكزفي المحافظات ومحاسبة المقصرين ومتابعتهم دورياً، فأعداد كبيرة تأتينا من اجل حالات بسيطة يمكن معالجتها هناك بسهولة وبدورنا نضيف ايضاً: ان غالبية هؤلاء المرضى يعانون من مشكلة الاقامة.
حيث يبيت الكثير منهم في الشارع على مدار الفصول الاربعة، يفترشون الارض بحالة تثير الاسى والحزن في النفوس، ألايكفيهم سوء حالتهم النفسية وقلقهم على أطفالهم..؟!
هيلانة الهندي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد