حنا مينه: البضاعة الرديئة هي أنا
قررت أن أهرف بما لا أعرف، لأنني البضاعة الرديئة التي طردت البضاعة الجيدة من السوق، وماذا أفعل غير ذلك؟ هل أبيع الترمس؟ منذ خمسين عاماً وضعت دمي في كفي ونزلت إلى ميدان الكفاح.. الكفاح؟ لا التجارة بالكفاح كما يفعل غيري، كان شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري يناديني «الدكتور حنا» وقد شرحت له، بصبر وأناة، أنني لست دكتوراً ولا من يحزنون، وأن بضاعتي في سوق الشهادات لا تتعدى السرتفيكا كما كان الناس يطلقون على الشهادة الابتدائية هذا الاسم، وكما كانت والدتي عليها الرحمة تظن ان السرتفيكا هي نهاية المطاف في العلم والتعلم، ولما شمرت عن ساعديّ النحيلين، ونزلت إلى بازار السياسة، ضد الاستعمار الفرنسي أولاً، وضد ثعلبية الإقطاع ثانياً، وضد الذين، وهم كثر، يعتبرون أن الكومنستو وباء أصفر ثالثاً، بكت المرحومة لأنها أرسلتني إلى المدرسة، وأين؟! في جامعة جورج تاون مثلاً، ولما حصلت على السرتفيكا نذرت أن أكون كاهناً أو شرطياً، فلم أكن لا هذا ولا ذاك، وهذا ما جعلها تندم لأنها أرسلتني إلى أوكسفورد، وأقسمت ندامة لأنها لم تجعل مني راعياً، فأريح وأستريح، ودقت باكية على صدرها لأنني كنت أنتقل من سجن إلى سجن وفي اللاذقية وحلب ودمشق، وصرت الآن، في شيخوختي أنتقل من مشفى إلى آخر، و«الكلبشات» تبري معصميّ الناحلين!.
باختصار شديد، ناضلت ما وسعت طاقتي، لأجل «الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض» فخاب نضالي إلا قليلاً، وفي الأربعين من عمري، قلت للسياسة «أنت طالق بالثلاثة» وغادرت اللاذقية شبه منفي، أنا الحلاق في حارة القلعة، وعاشق البحر الذي تمنى، وهو غارق في خيبته، أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، وهذا من الجنون والداعي معروف بقوله الثابت «أنا نصف مجنون نصف عاقل، وأحب نصفي المجنون أكثر».
وأثمر دعاء أمي علي إثماراً حنظلياً، فوقعت في بيتي المعلق على طرف جبل، في منطقة «مسبق الصنع» وكانت الفدية هذه المرة باهظة، فقد شلت رجلي اليمنى فقال طبيب إنه تمزق أربطة، وقال آخر إنه ضياع المفصل، وقال ثالث «التهاب أعصاب» وصرت أمشي على آلة حديدية بغيضة اسمها «الوركر» وفي أرذل العمر، أقسمت أن أستغني عن «الوركر» هذا وأمشي مشية السلحفاة وهي تسابق الأرنب.
إنني لا أحب الميلودراما بطبعي لذلك اكتفي بما هرفت به، وما اقترفت من إثم بحق الروائيين الشباب لأنهم يقولون جهاراً نهاراً، إنني سددت الطريق عليهم، وكي أرعوي، أتوب إلى ربي، أستنفر الروائيين الشباب أردد هذا البيت من الشعر، كصلاة يومية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا!
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد