حنا مينه: الرواية في السيادة
يقول الدكتور جمال شحيد، في مقدمة ترجمته للكتاب ميخائيل باختين «الملحمة والرواية»:
«إن باختين يرى في أعمال دستويفسكي أنها «الرواية متعددة الأصوات» أو المتعددة الآفاق، أي التي تعتمد على الحوار. فالشخوص لايمثلون الشخص الغائب، إنما المخاطب الذي يتحاور معه الروائي، ويتحداه ويصغي إليه، وبالتالي لاتكون العلاقة بين الروائي وشخوصه علاقة خضوع ورضوخ له من قبلهم، وإنما علاقة اكتشاف متبادل بينهما. وبالطبع يكون الخطاب الروائي مفتوحاً وغير منجز، كما يكون العالم الروائي غير مكتشف تماماً، ويبقى بحاجة إلى تعمق الاكتشاف»
ويضيف: «الملحمة نشيد أحادي الصوت، بينما الرواية نص متعدد الأصوات، وتعدد الأصوات هذا، عند باختين، مرتبط بالشعب، وبكلام أدق، بالطبقات الدنيا أو بسواد الناس».
في ضوء هذا التعريف، أحسب أن روايتي «حارة الشحادين»، متعددة الأصوات والآفاق، التي تعتمد الحوار، وتتحدى الروائي، تقدم نموذجاً لذلك، بينما روايتي «الشراع والعاصفة» تدخل في باب الملحمة، لأنها نشيد أحادي الصوت، هو صوت بطلها محمد بن زهدي الطروسي، هذا البطل الذي قال عنه الناقد الكبير المرحوم غالي شكري، إنه «قدّ من أندر المعادن» لكن هذه الملحمة، كما قال عنها النقاد، وكما تناولها غالي شكري في كتابه «الرواية في رحلة العذاب» هي «ملحمة البحر» أو «قصيدة البحر» كما عرفت عند صدورها في نهاية الستينيات من هذا القرن، أي القرن العشرين، ولم أكتبها بقصد أن تكون ملحمة، أو شبه ملحمة على الأقل، وإنما كان لها، كما يجب أن يكون لكل رواية، خط كبير، هو عمودها الفقري، وإلى جانبه خطوط ثانوية، تخدم الخط الرئيسي ولاتقوم مقامه، وإلا انفلشت الرواية، وصار تعدد الأصوات فيها، يحل محل صوت الطروسي، بطلها الرئيسي، الذي تدور الرواية كلها حول مغامرته في مطاردة العاصفة، بينما في رواية «حارة الشحادين» تتعدد الأصوات، وفيها، من الآفاق، ماهو متعدد بالمثل.
وقد تعلمت، من تجربتي في كتابة الرواية، أن اكتشف العوالم غير المكتشفة، ولا أدعي أنني بلغت كل ماأريد من هذا الاكتشاف، إلا أنني سعيت في سبيل ذلك، كما سعيت، في بقية رواياتي، أن يكون اكتشاف المناطق المجهولة، في الطبيعة والحياة، هو شغلي الشاغل دائماً، وهكذا اكتشفت البحر والغابة والجبل والثلج وقاع المدينة والإنسان والموت إلخ، واستخدمت الرمز والأسطورة والفانتازيا وغيرها، على أرضية واقعية، تمتزج، وتتماهى، بالرومانتيكية، إلا أنني، في كل هذا حرصت على أن يكون المضمون متساوقاً والشكل، مادام المضمون يتطلب شكله، إذ لا يصح أن يكون هناك مضمون متقدم في شكل متخلف، والعكس صحيح أيضاً.
وإذا كنت قد كتبت وفق هذه الرؤية، فكيف العمل للكتابة برؤية أخرى! ولئن درجت على هذا الشكل، فهل في الوسع الكتابة بشكل آخر؟ كثيراً مايحدث، قبل بدء الكتابة، أو خلالها، أن أفكر بهذا الأمر، ثم أتخلى، خلال السياق، عن بعضه أو كله، وكثيراً مايحدث أن ينعطف خط الحدث الرئيسي إلى خط ثانوي، خط جانبي، فيكون علي، في هذه الحال، أن أعود إلى النقطة التي حدث عندها الانعطاف، للعمل بتأن على تقويم المسار، كيلا يفلت، أو يتعرج السياق بشكل معيب، فينقسم الحدث إلى اثنين، والرواية إلى روايتين، حيث لاتكون، مثلاً، هناك حاجة، ولو استطراداً، إلى قصة في قلب القصة، أو تجربة حديثة، زائد تجربة حديثة، كما هي الحال في المسرح، وأذكر أنني كتبت رواية «نهاية رجل شجاع» كلها، فلما أعدت، بعد شهور، قراءتها وجدت أن الخط الرئيسي انساق في منعطف جانبي، عند منتصف الرواية، فكان علي أن أتغاضى عن هذا العيب، أو أمزق مئتي صفحة، واستأنف الكتابة من جديد، أي من منتصف الرواية إلى نهايتها.
إن اتخاذ قرار، في موقف كهذا، ليس بالأمر بالسهل، ونسيان مدة زمنية طويلة، قضيتها في كتابة نصف الرواية، يجعلني مضطرباً، مقهوراً، مغلوباً على أمري، فائتلاف هذا النصف المصاب بخلل، يدعو إلى الحسرة، إلى الحيرة، إلى مايشبه الفجيعة، وإذا جاز لنا أن نشبه العمل الأدبي بولد، وهو كذلك، فإن التخلي عن نصف عمر هذا الولد مستحيل، والابقاء عليه مشوهاً، دون عملية جراحية، غير جائز، فما كان مني إلا أن تركت اتخاذ القرار، نافضاً يدي من الكتابة، متشرداً خارج مكتبي، أدور في الشوارع وأنا أفكر: أبقي الرواية كما هي، أم ارتضي بذل جهد، يكلفني شهوراً مديدة من التعب، كي أصلح عيبها!؟
قررت، للوهلة الأولى، أن انفض يدي من الرواية كلها، وبعد زمن، تعافيت فيه من الصدمة، اشفقت على شخصيات الرواية أن يطول انتظارها، وأن تحرم من رؤية النور، بسبب خطأ وقعت فيه، فعدت إلى المكتبة، وإلى العمل، وقرأت الرواية من جديد، وكي أحزم أمري، خارجاً من دائرة التردد، لابد من اتلاف نصفها، فتناولت هذا النصف وأنا أرتجف، ولم استرح إلا بعد تمزيقه ورقة ورقة، مستشعراً عذاب الجحيم، لأنني قطعت مولودي الأدبي إلى نصفين، وعلي أن ابني النصف الذي هدمته، كي تستقيم العمارة الروائية.
لقد قلت، في العام 1982، إن الرواية ستكون ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين، وعني أخذ الآخرون، كل الآخرين، هذه النبوءة، دون ذكر لمصدرها، وهذا، في رأيي، طبيعي وجائز، لأن إثبات المراجع لايكون في الرواية، ولا في النقد الذي يتناول الأعمال الروائية، أو الأدبية بشكل عام، والمدهش في الموضوع، أن الرواية صارت ديوان العرب في العقد الأخير من القرن العشرين، أي قبل الموعد الذي حددته لها.
الآن أقرأ لباختين، وهو مرجع في التنظير الروائي هذا الكلام: «الرواية كائن طبيعي، لكنه مسيطر، أي من طبيعة أخرى، يصعب عليه التعايش مع الأنواع الأخرى، ويقاتل لفرض سيادته داخل الأدب.. وعندما تسيطر الرواية تتبنى كل الأنواع الأدبية الأخرى تقريباً».
هذا يضع الرواية، بالنسبة للأجناس الأدبية الأخرى، لا في موقع الصدارة وحده، وإنما في موقع الحضانة لهذه الأجناس أيضاً، وشأنه، هنا، كشأن السينما، فكما أن السينما أمُّ الفنون، فإن الرواية أم الآداب والفنون على السواء، لاتتعايش، ومن الصعب عليها ذلك، إنما تقاتل لفرض سيادتها، وقد قاتلت الرواية طويلاً حتى فرضت سيادتها، هذه التي أصبحت مسلمة من قبل الجميع تقريباً، إلا الذين يكابرون في المحسوس، وهؤلاء خارج الحساب، لأنهم، بمكابرتهم، يضعون أنفسهم خارج المنطق العام!
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد