حنا مينه: الكتابة والحرية أيضاً
إذا كشف الزمان لك القناعا
ومدّ إليك صرف الدهر باعا
فلا تخش المنيّة والتقيها
ودافع مااستطعت لها دفاعا
ترتبط الكتابة بالحرية ارتباطاً عضوياً، فعندما لاتكون حرية لاتكون كتابة، لكن الكتابة، في جميع العصور، وفي أشدها قمعاً،.
تجد حريتها المنشودة بأشكال كثيرة غير مباشرة، وتقول قولها عن طريق الرمز، الأسطورة، الإسقاط، التورية، الإبهام، أو على لسان الحيوان كما عند عبد الله بن المقفع، في تاريخنا الأدبي العربي القديم، أو في شكل ملتبس، كما فعل الحطيئة، عندما منعه الخليفة عمر بن الخطاب عن الهجاء، فقال هذا البيت من الشعر، حسبما تسعف الذاكرة:
دع المكارم لاترحل لبغيتها
واقعدْ فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولم يستطع بعض نقاد زمانه، أو بعض شرّاح شعره، الوصول إلى قناعة يقينية، في ماإذا كان الحطيئة يمدح أو يهجو، وهكذا وجد هذا الشاعر الهجاء، طلباً للرزق أو ردعاً للمفكرة، أن يفتح ثغرة في جدار المنع الخليفي، ويوصل قوله إلى المعنيّ به أولاً، ثم إلى الرواة والرأي العام ثانياً، دون أن يطوله العقاب، وفي وسعنا أن نجد أمثلة كثيرة مشابهة، لهذا الاختراق للمنع، في تاريخ الآداب العالمية، وفي أكثر الحقب دموية وبطشاً في هذا التاريخ العالمي، الذي شهد، في أوروبا نفسها، دموية محاكم التفتيش!
إن سلطة الكتابة في تعارض دائم مع سلطة الحكم: هذه تريد إبقاء ماهو قائم، بكل ظلمه، وبشاعته، والكتابة تسعى إلى إزالة ماهو قائم، وصولاً إلى مايجب أن يقوم، لهذا فإن دور الكتابة هو الاستئناف دائماً، وعدم الاستكانة، عدم الرضى، عدم الخضوع، والسلطة الحاكمة تتأذى من هذا التمرد عليها، وهذا التحريك لسكونية استقرارها، فتلجأ إلى تقييد الحريات، وأولها حرية الكتابة، مصدر التحريض ضد الكائن الفاسد، نشداناً للتغيير وتسريعاً به، كي يحل ماينبغي أن يكون محله، وهو الأفضل، الذي ثمة ماهو أفضل منه دائماً في صراع الأنظمة وتعاقبها منذ المشاعية البدائية، وبفعل التناقضات في قلب وحدة الأشياء، التي يؤدي تراكمها إلى تحول نوعي، فيكون الانفجار الثوري الذي يذهب بالقديم ويأتي بالجديد، وبعد ذلك يصبح الجديد قديماً، فيكون النضال في سبيل جديد آخر، وهكذا تصبح متوالية التجديد متواصلة، إلى أن تنتفي التناقضات التناحرية، ويتم الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر، انتقالاً متوافقاً والسيرورة التاريخية، حين تكون السلطة في المجتمع الاشتراكي مثلاً، على اتساق، نظري وعملي، مع هذه السيرورة، وهذا مايجري النقاش حوله في وقتنا الحاضر، بعد أن تقوض بناء نمط واحد من الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، وفتح باب الحوار للتعرف إلى الأخطاء التي أدت إلى تقوضه، ومدى مطابقتها أو مفارقتها للنظرية الماركسية اللينينية، بعيداً عن غوغائية الشامتين، وتنظيرات الحاقدين، من مؤدلجي الرأسمالية، الذين يتنبؤون بانتهاء التاريخ الاشتراكي، وديمومة التاريخ الرأسمالي، كي يزرعوا، ويستنبتوا، اليأس في نفوس المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية، حلم البشرية الأكثر ثورية، أو يتوصلوا، عن طريق المغالطات الفلسفية والعلمية، إلى إقناعنا بأبدية الرأسمالية، هذه التي تتفجر، وستتفجر أكثر، الأزمات في حضن نظامها الاقتصادي والسياسي، وهي إلى زوال، مهما تطاولت مرحلة مكر التاريخ، لأنه لو كان في وسع الرأسمالية أن تحل مشكلات العالم، لما كان الفكر الاشتراكي، ولما كانت الثورة الاشتراكية العظمى: ثورة أوكتوبر، التي تجاهلت قانون «نفي النفي» فذهبت أرياحها بدداً!
تأسيساً على هذا كله، فإن الأدب المستأنف، الواعي لدوره الاستئنافي، لابد له أن يكون على تعارض مع السلطة الحاكمة التي يستأنف ضدها، ولابد لهذه السلطة أن تقف، بكل وسائلها القمعية، ضد هذا الأدب، وتالياً ضد هذه الكتابة، فتحجب عنها الحرية، وفي حال كهذه، وهي حال شبه مستمرة في المجتمع الطبقي، ينبغي على الكتابة أن تنتزع حريتها، وتحققها بوسائل شتى، مع ملاحظة أن حالة منع الحرية، وقمع الكتابة، قد كانت موجودة في المجتمع الإشتراكي على النمط السوفييتي وقد كافح هذا الأدب ضد المنع والقمع كليهما، وبكل مظاهرهما، ووسائلهما، وكان كفاحه أحد العوامل التي أدت إلى الانهيار الكبير، وفي هذا عبرة لأيما سلطة قامعة، في أي بلد مقموع، لو أن مثل هذه السلطة تفيد من العبر ودروس التاريخ، وهذا محال، غالباً، والشاهد على ذلك، ماجرى في الشقيقة مصر، من انتصار غير متوقع، لذوي العقلية السلفية، المتحجرة، وهذه العقلية موجودة، بدرجات متفاوتة، في بعض البلدان العربية، التي عليها أن تنتبه جيداً، لئلا تواجه ماواجهته مصر من امتحان عسير.
قال بدوي الجبل، في قصيدته الشماتة:
سمعت باريس تشكو زهو فاتحها
هلاّ تذكرت ياباريس شكوانا؟
إن تجارب حياتي ككاتب لاتخلو من أذى السلطة، في عهد الانتداب الفرنسي، والعهد الوطني بعد الاستقلال، وفترة الوحدة المصرية السورية أيضاً، ففي العهد الفرنسي، وبسبب مقال نشرته في «صوت الشعب» اللبنانية، ضد مظالم المنتدبين الفرنسيين، ومطاردتهم للوطنيين السوريين العرب، ضربت من قبل رقيب في الدرك الفرنسي يدعى «أبو حمدو» حتى قاربت الموت، ودخلت السجن عدة مرات، وفي العهد الوطني، أعوام 47-48-49، لوحقت وسجنت، عقاباً على كتاباتي الصحفية ضد الإقطاع، عدة مرات أيضاً، مع التعذيب المعروف في مثل هذه الأحوال، وفي فترة الوحدة المصرية – السورية اُعتبرتْ «رابطة الكتاب العرب» التي كنت من مؤسسيها، خارجة على القانون، فسُجن أعضاؤها أو تشتتوا في المنافي، وبقيت في المنفى قرابة العشر سنوات، قضيتها مشرداً بين أوروبا والصين، والمفارقة أنني بكيت بعد هزيمة حزيران عام 1967، وكنت في المجر، إثر سماعي خطاب عبد الناصر حول هذه الهزيمة وإعلان استقالته من السلطة، وعدت بعد ذلك مباشرة إلى وطني سورية، ليلم بي الحزن والألم الشديدان، عند إعلان موت عبد الناصر عام 1970، مدركاً قبل ذلك، في سنوات الغربة المريرة، أنه كان هناك خطأ في الموقف من الوحدة، وإنني وسائر الكتاب السوريين والمصريين الذين سجنوا وعذبوا وماتوا وتشردوا دفعوا ثمن هذا الخطأ، وإن لم يشاركوا كتابةً ضد هذه الوحدة، بل أخذوا بجريرة سواهم.
بعد ذلك لم ألاحق ولم أسجن، ولم يمنع أي من كتبي أو رواياتي من النشر والتداول، أو من الدخول إلى سورية حين انتقلت إلى التعاون مع «دار الآداب» اللبنانية قبل حوالي عشرين عاماً، فأعادت طبع جميع كتبي ورواياتي، القديمة والجديدة، والتي بلغ عددها حتى الآن، سبعة كتب في النقد والدراسة، و(40) رواية. غير أن وزارة التربية السورية آنذاك، تكرّمت علي فسحبت اثنتين من رواياتي من مكتبات المدارس الإعدادية والثانوية، هما «الثلج يأتي من النافذة» و«الياطر» وتلطفت فحذفت مقتبساً من إحدى رواياتي «الشراع والعاصفة» وقصة قصيرة عن حرب تشرين، عنوانها «الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة» من كتاب «الأدب العربي» للشهادة الثانوية (البكالوريا) دون إبداء الأسباب، أو لسبب مزاجي احتفالي لاأعرفه، وكل ذلك حرصاً من هذه الوزارة على ألا يطلع طلابها على كتبي، لكن النتيجة كانت عكس ماأرادت، فقد أثبت هؤلاء الطلاب أنهم في مادة المطالعة أكثر تقدماً من وزارتهم الموقرة التي لاتطالع أصلاً! كما أن الرقابة على الكتب، في هذا القطر العربي أو ذاك، تمنع – ودون أسباب دائماً! – بعض كتبي ورواياتي من الدخول والتداول في أراضيها.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد