حنا مينه: ترتيب البيت أولاً وراهناً
إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيّضن من عبراتهن وقلن لي:
ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
وأقول، في نفسي لنفسي: ماذا لقيت من السياسة وبلواها؟
ولماذا أيها المسافر على جنح غمامة، أضعت شبابك في السياسة وهولتها؟ وأي نفع لك، ماضياً وحاضراً في أن تقول مالا يقال، وأغلال الحديد قد أكلت من معصميك لحماً نيئاً؟ وهل تحترق أنت، بالكتابة في الشأن الداخلي، بينما سواك يهرب من هذا الأتون إلى جبل الثلج؟ وكيف نسيت أن سيدة مسؤولة قالت لك، وأنت تسألها: ولماذا لاتكتبين عن القضايا الداخلية؟ «هل تريدني ان احترق!؟»
نعم! يكتبون، أكثرهم، عن الأبراج، موضة العصر، وعن الجوى الذي لم يلامس قلوبهم، وعن عطارد والشعرى والمريخ، وهم يستريحون في مقاعدهم الوثيرة، نكاية بالقائل: «صديقك من صدقك، لا من صدقك» لان قيلة الصدق، عندهم، حارقة، وهم لا يريدون الاحتراق، حتى ولو كان في احتراقهم النور الذي يخرج العرب، أو بلدانهم، من ظلمة الغابة، إلى وضاءة السهوب! حسناً! إنني سأكتب في الشأن الداخلي، ولن يكون هناك حرق أو احتراق، فترتيب البيت، من الداخل، قد بدأ، وفي الوقت المناسب والراهن تماماً، وهذا انجاز تجلى فيإنني اكتب هذه المقالة، في الشأن الداخلي، لأشهد أن كل مقالاتي المماثلة قد نشرت، من دون أن احترق، ومن دون اعتراض من أي مسؤول، حتى على القسوة التي في بعضها، مادامت الغاية، في المآل هي تقويم الاعوجاج، والتنبيه إلى الخطأ، حيثما وقع، وحيثما يمكن تداركه، في السياسة والاقتصاد، وفي تحويل السلب إلى إيجاب، مع جزء من الدهاء، الذي دونه تصبح هذه السياسة مسطحة، لا نفع فيها لبلد مستهدف من كل الجهات، ولا خير فيها، إذا ما كانت الميكيافيلية، وحدها، هي السبيل لتحقيق ما نصبو إليه، ومن دون حرق للمراحل، في القفز من العصر الزراعي إلى العصر الاشتراكي، مغيبين، دفعة واحدة، العصر الصناعي، الذي لا يزال، بالنسبة إلينا، أمنية مسحوبة على المستقبل البعيد جداً.
لقد كان لينين على دراية، بأن ثمة خطراً على النظام السوفييتي، في الانتقال من عصر الإقطاع إلى عصر الاشتراكية، وكان يوصي بالإفادة من انجازات العصر الرأسمالي، واحتفى جيداً بوصول بعض الخبراء الرأسماليين لمعاونة النظام السوفييتي على النهوض والاستمرار، وكتب المفكر اللبناني كريم مروّة، في جريدة النور، وتحت عنوان الحرية طريق السعادة، مثنياً على بعض الجوانب الايجابية في النظام الرأسمالي الشرس، لافتاً الأنظار إلى أهمية الاستفادة منها، في طموحنا إلى تحقيق الاشتراكية التي أمامنا، لكن من دون أن يعير الانتباه الكافي لمقولة نفي النفي التي هي أساس في الفلسفة المادية، وهو يعرفها طبعاً، مكتفياً بالقول إن «في أدبيات ماركس تأكيد قاطع على أن الإنسان الحر هو الإنسان الذي يمتلك الوعي الحقيقي بذاته، ويمتلك التفكير الحر بمستقبله» وهنا، كان عليه أن يفترق عن فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، أي تأبيد الرأسمالية، بأن يؤكد أن النظام الرأسمالي زائل، وان الاشتراكية عائدة، لأن الرأسمالية نفت الإقطاع، فجاءت التجربة الاشتراكية ونفت الرأسمالية، ثم عادت الرأسمالية ونفت التجربة الاشتراكية، وستعود الاشتراكية وتنفي الرأسمالية مرة أخرى، وبهذا يكون المستقبل الاشتراكي هو الأفضل، لأنه، في النفي، يُجِبُّ ما قبله.
ما أريد قوله إن تأليف الوزارة الجديدة، خطوة إلى الأمام، في اتجاه ترتيب البيت الداخلي، وان الكتابة عن الشؤون الداخلية لاتحرق أحداً، كما يتوهم البعض، لان أفق الكتابة إلى اندياح، وما تبقى هو طريقة هذه الكتابة، واجتناب كل استفزاز فيها، واعتماد النقد البناء، دون خوف أو وجل، مع مراعاة الآية الكريمة: «إن الله لا يغفر لمن أشرك به، ويغفر ما دون سواه» أي ان ثمة غفراناً سابغاً، لانتقاد عمل هذا الوزير أو ذاك، من غير تطاول لا فائدة منه على الرئاسات بالنسبة للناقد والمنقود معاً، ولنتذكر، أخيرا، هذه المقولة الرائعة لماياكوفسكي: الشاعر الكبير
«إنني أمجد الوطن الموجود، ولكنني أمجد ثلاثاً الوطن الذي سيكون» والوطن الذي سيكون، حسب مايا كوفسكي، هو الوطن الذي فيه «الكلمة الحرة قائدة للقوى البشرية» ولامندوحة عن الكلمة الحرة، أو حرية الكلمة، ودون هذه الحرية نفقد كل مقومات الديمقراطية المنشودة بإلحاح.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد