"حياة متخيّلة" لديفيد معلوف.. تمجيد الروح الحرة
أدمن الأديب اللبناني ديفيد معلوف مغامرات النهايات القصوى، وشغف الحدود الذهنية المتطرفة، التي أتاحت له اختزال الأبعاد المعروفة، وضفر متعة الترصد مع رهبة التوقع الكشفي، في منظومة جمالية غرائبية مدهشة بحيويتها. ففي روايته "حياة متخيلة"، ترجمة سعدي يوسف (دار التكوين)، قََدّر بجرأة عالية أن ذواتنا اللاحقة متضمنة فينا، ولا تحتاج آلية استخراج الكائنات التي نحن في طور أن نكوّنها منا إلا إلى إيجاد الاسم الملائم وتركه يبسط نوره، تماما كالآلهة القديمة، نمنحها أسماء فتهرع إلينا، صاعدة بمجدها وقوتها وجلالها من الأذهان.
يفترض معلوف وجود إله غامض يحرك أعماق بطله أوفيد، ليستجمع كينونته منه، ويساعده على بلوغ شواطئ نفسه البعيدة، فتتخذ روايته قالب رسالة يلقيها إلى القرون المقبلة، ويتصورها وهي تنفتح على تنوع مشهدي من الأشياء غير المألوفة، وأمام عيون تتباين في تعطشها للنور والاستقراء، مؤكداً على لسان أوفيد أن الكلمات قد كتبت فعلا منذ سنوات، ولم يبق سوى اكتشاف المعنى الذي تستبطنه: "سوف ُتُفصل عن نفسك، لكنك ستكون حيا"، مهدهداً ضجيج النفوس الغافية لتنصت إلى نداء كونها.
يصف معلوف حالة ذهنية، لا مكاناً، لذا يختار المنفى المنعزل، أي العقاب الأقسى على قلب الشاعر العابث المعتز ببلاطه وحشده الجماهيري، وبذلك يضمن انزلاقاً مأموناً إلى الوراء في نظام الأشياء، حيث الحياة ُمعرّاة إلى أبسط الشروط، والصراع يدور بين الحدين الأساسين، قوة الطبيعة وشهوة النفس، مما يطوع النفس اللاهية للدخول في حرم الصمت لإيجاد كلمة السر التي سوف تطلقها من قيود الحياة.
كان أوفيد شاعرا رومانيا من الفرسان، نجح في خلق عصر مرح، فوضوي، سريع، ممتع، فجلب على نفسه منافسة الأمبراطور وكراهيته. فالمخلوق الاجتماعي الذي كانه، اكتشف لجيله أسلوبا وطنيا جديدا. فبعد قرون من الحرب التي دمّرت فيها أسرٌ كاملة، أسراً أخرى باسم الوطنية، دخلت روما في سلام، في عصر من "اللخبطة" المتسامحة، والصفاقة الماهرة، حين بدا أن الجميع قد تحرروا أخيرا من أغلالهم ليدخلوا في تنوير كان من العظمة بحيث لم تعد ثمة أي حاجة إلى الإيمان. لقد تشمم أوفيد طريقه إلى الطرف الأقصى للأشياء، حيث لا شيء يبدأ.
يستحضر المنفى بطبيعته فرضية التأمل ومواجهة الذات، الانفتاح على أفق مختلف يتيح غربلة الشوائب المتراكمة تحت طبقات التحضر، فتتهيأ للشاعر فرص المقارنة مع الآخر الذي يعيش الحالة البدائية، لاستدراك نظرية الاحتواء الكوني: "أجسادنا ليست نهائية. نحن نتحرك جميعا في بشريتنا المشتركة، وعبر الأشكال التي نحبها أكثر في ما بيننا، نحو ما لمسته أيدينا. وعبر القرون، يتقدم كل واحد منا، بقدر متناهٍ من الصغر، نحو إنسان نهائي، كنا أعددنا المنظر لرضاه". في هذا المعنى يطور معلوف مفهوم الألوهية ليغدو الإنسان شريكا في الخلق، عبر قوة الإيمان، المتمثل في معجزة صنع الربيع الحقيقية. فأوفيد الذي افتقد الربيع في منفاه الجليدي، يملأ رأسه بزهور من كل نوع، شاعرا بالجليد يتكسر فيه، فتتحرر نفسه ويتدفق ثانية، عاكسا العالم. لكن الاكتمال لا يتحقق إلا بإدخال شخصية مغايرة في أبعادها لأوفيد، وتتجسد بالطفل المتوحش، الذي لم يلتقط روحه الفردية من الكون حوله. يُدخله معلوف إلى الرواية كحقيقة عارضة، بصفته مخلوقا وقع في الكينونة، ليسرع خروج أوفيد من شرنقته القديمة، فيتقبل القوة الداخلية ويتعرف غاياتها، التي تدفعنا إلى حيث يجب أن نصبح في النهاية. وهذا هو المعنى الحقيقي للتحول، أو المسخ عند معلوف.
إلى الطفل، هناك الشيخ الذي تعلم منه أوفيد العثور على العلاقة الضرورية بين الأشياء، ليستكين في عالم بدائي، قريب من القوة الأولية التي تصنع الأشياء كما هي وتغيرها إلى ما ستكون عليه. أما بداية التغيير فكانت ابتهاجاً بصريا بالأشكال البسيطة، تزامن مع إدراك لمعنى الحرية الوجودية: لسنا ملزمين قوانين طبيعتنا، وإنما الطرائق التي نتصور أننا نتحرر بها من تلك القوانين بدون أن نكون عنيفين إزاء كينونتنا الأساسية. أي أننا أحرار في أن نسمو بأنفسنا، إن كنا نملك الخيال لذلك. أما الاحتكاك مع الطفل وتتبعه ببطء عبر سلالم الكينونة فيه، فقد أعاد أوفيد إلى طفولته المفقودة.
أعطى معلوف أهمية قصوى لمرحلة الطفولة، ووطّد دعائم التصالح مع الماضي عبر سلالمها وأحلامها البعيدة، التي تحدد الذات الحقيقية في الكائن الإنساني. وأعلن أن المسخ الأخير يسير ببطء، ليسهل عودة روح الأشياء المهاجرة إلينا، وتحقق الوحدة الكلية مع الكون. آنذاك فقط يكتمل تصورنا عن جسمنا الحقيقي، باعتبارنا بشراً. وهنا يلح الكاتب على أهمية اللغة الحقيقية في إتيان معجزة التحول، التي هي الكلام الصامت الذي تواصل به اوفيد مع الطفل في الغابة. وهي اللغة التي استعملها في طفولته مع الطفل البدائي في أعماقه.
حين بدأ أوفيد بتعليم الطفل الكلام، محاولاً إدخاله في وعيه المتحضر، عاين فاعلية المحاكاة التي تتيح للطفل دخول الحياة السرية للغة الطيور والحيوانات، فيصبح للحظة، المخلوق نفسه؛ ولهذا حين تعلم الأصوات التي يصدرها البشر، برّأ نفسه بشرا. ولأن مركز معرفته، تمثل في أشكال لاحظها واختزنها في ذاكرته، كلغة خاصة يعرف تفسير رموزها وقراءتها، عالما مرئيا بمقدوره السير فيه، غدا مؤهلا لقيادة أوفيد في منفاه.
يتخذ أوفيد قراره الاستسلام لقدره الحقيقي الذي أمضى وجوده كله في محاولة الإفلات منه، موقنا أن المصير الذي حاول إبعاده باختلاق مئة دور زائف، قد تتبعه القدر من خلال ألف شكل. وكي يتمكن أوفيد من الدخول في أبعاد نفسه ليصبح أخيرا الشخص الذي قصد أن يكون، سلّم نفسه إلى الطفل ليساعده على طرد ثوبه القديم، وإدخال الكون إليه، برغم ذعره من فقد ذاته الفردية، والضياع في تضاعف الأشياء.
ولأن المنطق الدرامي الروائي يحتاج إلى التفعيل، تتأجج مشاعر عدائية محيطة لتعجل في تحرير الطفل من جانبه الوحشي، وقتل الخوف في قلب أوفيد، وإطلاق قواه للمواجهة المباشرة مع الحياة؛ التي يفترض بها أن تكون سلسلة مستمرة من البدايات، من الانطلاقات المؤلمة في المجهول، التي تسير بنا من حدود الوعي إلى سر ما لم نبصره بعد، إلا في الأحلام التي تهب من هناك، مما قد يعني أن الموت هو الامتناع عن النماء ومعاناة التغير!
رغب أوفيد مع اقتراب نهايته في أن يكون منفتحا على كل ما يظل أمينا له، فحرر الطفل من التزامه الإنساني معه، وبارك الامتلاء داخل مسافته الخاصة. ثم استحضر مثال المسيح وهو يمشي على نور الماء، ليرد للطفل/الإنسان البدائي المتحلل من بذرة الشك، حقه في التوحد مع عناصره.
يعرّف معلوف الشاعر الحقيقي بأنه الرجل الذي تكون حياته كلها تمرينا على المغامرة، حتى في سكون حديقته. فأوفيد في الرواية هو رمز لحدود المألوف التي يجب أن يتخطاها المرء إن أراد التعرف الى الحياة الحقيقية، والموت الحقيقي ومعناه النهائي.
تختلط في الرواية تيارات الحنين إلى الطفولة البعيدة بنقائها وانفتاحها الحر على الشراكة الكونية، وحتمية الإصغاء إلى نداء الجوهر في القلب، وبذلك هي رحلة نحو يقظة البدايات النورانية، لإثمار بذرة الإيمان، التي تعني تمجيد الروح الحرة.
جينا سلطان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد