رحيل مخرج «زوربا» اليوناني مايكل كاكويانيس
من بين أفلامه العديدة التي بدأ إنجازها في العام 1954 بـ«يقظة الأحد»، يكاد «زوربا اليوناني»، الذي حقّقه في العام 1964، يحتلّ صدارة المشهد. وفي سيرته الحياتية، ما يتوافق وعدداً لا بأس به من الحكايات التأسيسية للشهرة: تخصّص أكاديمي مختلف، إن لم يكن مناقضاً تماماً للمسار اللاحق. كأن اللحظة التأسيسية لا تأبه إلاّ بموقعها الزمنيّ الآنيّ: أي إنها تنبثق فجأة من انصياع المرء لرغباته الخاصّة، بل لرغباته العميقة في نفسه وروحه. بهذا المعنى، يُصبح التخصّص الأكاديمي مجرّد حلقة عابرة، ويُصبح الوهج الإبداعي المفتوح على احتمالات شتّى الحالة الأكثر التصاقاً بالسيرة. يُصبح التخصّص الأكاديمي تلبية ما لإرادة جماعية ما، وتُصبح الطريق الأخرى ملاذاً ومنبعاً لترجمة الوعي المعرفي، الممزوج بمخيّلة خصبة، قادرة على صُنع معجزات إبداعية.
قبل يومين، توفيّ المخرج اليوناني مايكل كاكويانيس عن تسعة وثمانين عاماً، إثر تعرّضه لأزمة قلبية جعلته يُعاني مأزقاً خطراً في التنفّس. اليونانيّ المولود في ليماسول (قبرص) في الحادي عشر من حزيران 1922، بات السينمائيّ المرتبط اسمه، غالباً، بالاقتباس السينمائي البديع لإحدى أجمل روايات مواطنه نيكوس كازانتزاكي «زوربا اليوناني» (ثلاث جوائز «أوسكار» في العام 1964، في فئات أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل اقتباس قام به المخرج نفسه). والفيلم هذا، الذي منحه أنتوني كوين واحداً من روائع اشتغالاته التمثيلية، لا يزال حاضراً في وعي كثيرين: عن الحبّ والحياة. عن القدر والتفاصيل الضيّقة التي تحاصر المرء، أحياناً، في لحظة تحوّل ما. عن العشق والذات. عن الرقص ومعنى الأداء التمثيلي. عن الحكايات القديمة واللقطات الطالعة من داخل البؤر المبطّنة للألم والقدر. أميل إلى القول إن الاقتباس السينمائي نافس، بجدارة وسوية لافتتين للانتباه، النصّ الأدبي الأصلي. ذلك أن أفلاماً سينمائية عدّة مقتُبسة من روايات، سقطت في صراعها الإبداعي مع الروايات تلك. أحياناً، ينبهر المُشاهد أمام اقتباس سينمائي لرواية ما. أحياناً أخرى، يحدث العكس. مع «زوربا» هذا، بدا الاختيار صعباً: ألا يُطرح، هنا، سؤال الاشتغال السينمائي؟ ألا يُطرح، هنا، سؤال الإبداع؟ أيهما أتقن صنعتَه أكثر: الروائي المهموم بالكلمات، والساعي إليها من أجل لغة متفرّدة في مقاربة الأشياء والحالات، أم السينمائي المهموم بالصورة المتحرّكة وصناعتها الفنية، والعامل على تحويل الكلمات هذه إلى متتاليات بصرية تُغني المُشاهد عن القراءة، أو تجعله يقرأ النصّ بعينيه وروحه وانفعاله؟ أمام «زوربا اليوناني»، يحار المرء. فالنصّ لا يقلّ إبهاراً عن الفيلم. كأن الكلمات مصنوعة لتُروى بالصُوَر. أو كأن أنتوني كوين نفسه وُلِد ليؤدّي دوراً كهذا، لن يُفقده جمال إتقانه الأداء في أدوار وأفلام ذات أهمية قصوى، لكنه (دوره في «زوربا») شكّل لحظة تأسيسية، هي الأخرى، في مساره التمثيلي.
غير أن المخرج المتوفّى قبل يومين، كاد يذهب إلى عالم آخر. فالبداية موسومة بدراسة الحقوق في لندن. والتحوّل الأول أخذه إلى المسرح، إثر اقتناعه الذاتيّ بأن فيه ميلاً إلى الفنون. التحق بمدرسة خاصّة بالفن الدرامي «أولد فيك» (المسرح اللندني)، وتخرّج منها ممثلاً ومخرجاً مسرحياً. والتحوّل الثاني جعله يختبر العمل الإذاعي: بين العامين 1941 و1950، عمل في قسم «ما وراء البحار» التابع لـ«هيئة الإذاعة البريطانية». عاد إلى أثينا مطلع الخمسينيات، وبدأ رحلته السينمائية المترافقة والعمل المسرحي. بالعودة إلى «يقظة الأحد»، فإن قصّته عادية، على الرغم من ولوجها مسألة العشق والصدمة والخيبات: مؤلّف موسيقيّ مُفلس يُغرم بامرأة ذات شخصية قوية. في حين أن ارتباطه الوثيق بالمسرح، دفعه إلى اقتباس «إلكترا» ليوربيد في العام 1962 (الجائزة الخاصّة بمهرجان «كانّ» في العام نفسه)، وهو أول أفلام «ثلاثية التراجيديا اليونانية»، الذي ألحقه بـ«الطرواديات» (1971) و«إيفيجيني» (1977). هنا، يتجلّى احترافه المسرحي، المنسوج سينمائياً بما يتلاءم والروح البصرية في صناعة الصورة. هنا، يتجلّى إصراره على اعتماد النصّ المسرحي، والأدبي أيضاً، في اختباراته السينمائية المفتوحة على مزج الكلمة بتقنية المسرح بالمتاهات الجمالية للكاميرا.
في معلومة صحافية منشورة إثر إعلان نبأ رحيله، جاء أن مايكل كاكويانيس أسّس، في العام الفائت، قاعة مسرح تتّسع لثلاثمئة وثلاثين مقعداً، بالإضافة إلى صالة سينمائية بمئة وعشرين مقعداً فقط. أهو الهوس بالمسرح، وإذا بالسينما مُلحقة به، أم إشباع الرغبة الفنية الأولى، قبل أشهر على رحيله؟ أهي قناعة بأولوية المسرح على الفن السابع، أم وعي جوهري بالمعنى الأسمى للتمثيل، المنبثق من حرفية الخشبة ومواجهة المُشاهدين؟
نديم جرجوره
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد