ســؤال الشــر فــي روايــة «اللــص والكــلاب»
في روايته «أولاد حارتنا»، وضع نجيب محفوظ الشر في أصل الوجود، يلازم الإنسان منذ البدء ولا يفارقه إلا صدفة. جعل هذا الشر، الذي يلتبس بـ «الفطرة»، جهد الرسل والأنبياء خائباً، يثمر زمناً ويرحل بعد رحيل الدعوات الصالحة. أغلق الروائي عمله بتشاؤم صريح، معلناً، ان «الشر الفطري»، لا سبيل إلى زواله.
أعاد محفوظ قوله: بشكل مختلف، في «اللص والكلاب»، إذ للبشر اللصوص أخطاؤهم الصغيرة، وإذ للكلاب «المتسلّطة» أظافر من حديد. عاد، في الحالين، إلى الشر الوجودي، الذي تعطيه «السلطة» أبعاده المطابقة. فهوامش الخير العزلاء لا تستطيع الوقوف، فإن حاولته سقط عليها عقاب شديد. ومع أن هذه الرواية يمكن ان تقرأ بمقولة: «الاغتراب السياسي»، الذي يلحق بإنسان يريد أن يكون حراً، كما لو كان رحيل السلطة المستبدة تحريراً للإنسان المغترب، فإن التشاؤم الشديد، الذي يربض فوق سطورها، يجعل من الاغتراب الساسي اغتراباً وجودياً بامتياز. لذا تقرأ في مستويين: يحيل أحدهما على زمن سياسي محدد ـ النظام الناصري ـ ويحيل ثانيهما على وحشة إنسانية متأبدة.
تنطوي «اللص والكلاب»، كما روايات محفوظية لاحقة، على ثلاثة أزمنة متلاحقة تأتلف مع دلالة الاغتراب السياسي وأفقه: زمن السقوط الذي يرد إلى زمن رحيم مضى، وزمن المعاناة المتجسّدة في اختبار مؤجل الأفق، وزمن التحقق الذي يستعيد رحمة قديمة. يسقط الإنسان من مهد الرضا إلى أرض الشوك بسبب خطأ ارتكبه، ويعيش اختباراً قاسيا لم يختره، وينتهي إلى ما شاء له الاختبار أن ينتهي إليه. والنهاية، في التصورين الديني والماركسي، سعيدة، خلافاً لتصور محفوظ، الذي رأى في الموت حقيقة وحيدة.
فما هو الزمن الرحيم الذي سقط منه «سعيد مهران» ودخل إلى مجتمع يسوسه «الجهاز الناصري»؟ الزمن المفترض زمنان: «زمن السجن»، الذي يتشوق السجين إلى الخروج منه، منتظراً عناق الحرية، وزمن ما قبل ـ السجن، الذي هو زمن «ما قبل ـ الثورة» المليء باحتمالات كثيرة. يساوي محفوظ، منذ البداية، بين الزمنين، فداخل السجن أرحم من خارجه، وما سبق «الثورة» أفضل مما تلاها. ولذلك تعلن الرواية من البداية عن نتيجة الاختبار قبل الوصول إليه، اعتماداً على ملامح الزمان والمكان: «الجو غبار خانق وحر لا يطاق، ولا شفة تفترّ عن ابتسامة، الجدران المتجهمة، وهذه الدكاكين التي تشرئب منها الرؤوس كالفيران المتوجسة.. «. لا شيء في الطريق الواصل بين السجن والحرية ينبئ بالخير. ترك الروائي بطله يمشي إلى اختباره، وترك قلمه طليقاً، يصف ما لا يعرفه «السجين» إلا بعد حين.
تعيد قسوة ما خارج السجن الاعتبار إلى داخله: «آمن سعيد بأن جلد السجن ليس بالقسوة التي كان يظنها..»، وتعيّن السجن الصغير، الذي لا مفاجأة فيه، مكاناً مقبولاً قياساً بخارج واسع يسوسه المخبرون». يفاضل السجين السابق بين مكانين شبه مختلفين ويؤثر السجن على خارجه، ملتفتاً إلى زمن سبق السجن والثورة، عرفه فيه القراءة والحب والأحلام وعلّمه فيه المثقف الذي لم يصبح تسلطياً بعد، أن الفعل الناجح وليد «التنظيم»، لا الضربة الطائشة. إن زمن النعمة، الذي سقط منه الإنسان المغترب، هو ذاك الذي كان قادراً فيه على الحلم.
بعد السقوط
بعد السقوط، الذي تداخله مفارقة صاخبة ـ فلا أحد يحنّ إلى السجن إلا إذا وقع في اللهب ـ تأتي مرحلة الاختبار التي ترهق جسد المغترب وروحه وتعده بالنجاة، بعد أن كفّر عن ذنوبه وعاد طاهراً. فقد افتداه شقاؤه وأنقذه تحمّل التجربة من بقية الطريق. لا يكمل سعيد مهران طريقه، لا لأنه نجا أو لاذ بالفرار، بل بسبب سلطة كاسحة، لا تترك المتمرد الحر على قيد الحياة، فلا موقع له في مجتمع يرعاه «المخبرون»، وتنطق باسمه صحافة كاذبة، ويمارس مثقفه التزوير والفساد ويطلق اجتهاداً دينياً، يسوغ اغتيال الأرواح الصالحة. يتمسك المتمرد، الذي خرج من السجن إلى حرية خانقة، بالحق والحقيقة، ويسرق الأغنياء الذين يسرقون غيرهم، ويطبق أفكار استاذ قديم لم يقع بعد في الوباء السلطوي، يستبدل بالأرواح الصالحة أرواحاً من تراب. يخرج السجين إلى «مجتمع» سرق ماله وابنته وزوجته وذكرياته وأحلامه، ويطلب منه أن يكون مواطناً صالحاً، أي أن يكون ما لا يستطيع أن يكونه. لذا يأتي زمن التحقق، وهو الزمن الثالث في تجربة الاغتراب، من صورة مجتمع يمنع التحقق، يقرّر الموت مجالاً وحيداً للخلاص، سواء جاء الموت من قلق الروح وسطوة الفساد، أو من طلقات أردت المتمرد قتيلاً على تخوم المقبرة. ساوى محفوظ، المشبع بالشتاؤم و.... الاستبداد، بين الموت والحرية وبين القبر وانتصار الروح العادلة.
تسمح مقولة الاغتراب، وهي لاهوتية الأصل، بقراءة مسار سعيد مهران، في طورين من أطواره، وترمي بالطور الثالث جانباً. فهي تقول بزمن استهلالي فردوسي الملامح، يعقبه زمن المشقة والضياع، في انتظار الوصول الأكيد للاجر والمكافأة. يقصي محفوظ التصور الديني ويحتفظ بالدنيوي الثقيل، إذ السلطة قاتلة، تتقن القتل قبل غيره، وإذ عدو السلطة مقتول، ولو كان له أجنحة. يوسّّع محفوظ مساحة الاغتراب السياسي ويحوّله إلى اغتراب وجودي يعطف الحياة على الكابوس، ويجعل من «الخلاء» الذي لا سلطة فيه فردوساً مرغوباً. يصبح الخروج من السجن إلى المجتمع المقموع معادلاً للخروج من النعمة إلى الهلاك الأخير. فالمجتمع، الذي أعادت تطبيعه أدوات سلطوية كاسحة، يقبل بين جدرانه من تطبّع بطباعه، التي تحتفي بالخوف والتنكّر للحقيقة، ويلحق بمن لا يعرف طبائعه الهزيمة الكاملة. وبسبب ذلك يعيش «الإنسان المغترب»، الذي قضى في السجن أربع سنوات، وهماً مزدوجاً: يتوهّم أن المجتمع لا يزال كما كان، شفافاً عفوي الكلام، ويتوهم أن ما كان يفعله في «المجتمع القديم» ـ الذي سبق الثورة ـ قادر على فعله في: المجتمع الجديد». يدفعه هذا إلى حديث طويل عن «صفاته السابقة»: «جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة ويطير في الهواء كالصقر ويتسلق الجدان كالفأر وينفذ من الأبواب كالرصاص...». هذه صفات اختبرها في ذاته واطمأن إليها في «زمن النعمة» قبل أن يدخل، دون أن يدري، إلى زمن دمّر العفوية والقيم عنوانه «زمن الهلاك». لا غرابة أن ينتهي المتمرد إلى «وحدة مظلمة بلا نصير»، وأن يخاطر بنفسه كي لا يفقد الأحياء « آخر أمل»، كما لو كان شاهد الحق الوحيد في مجتمع فقد البصر والبصيرة. سيعيد محفوظ فكرة «رحيل الأمل الأخير»، في مجتمع مقوّض القيم، في روايته «ثرثرة فوق النيل»، حيث السلطة مسؤولة عن موت البشر لا عن حياتهم.
ربط محفوظ بين السلطة ومجتمع تطبّعه كما تريد، منتهياً إلى يأس صريح، ذلك أن تسلّط المجتمع أشد استبداداً من السلطة المستبدة. يأتي الموت بعد الاغتراب، ويظل المغتربون مع انكسار مستديم. لم يصل عبد الرحمن منيف في «شرق المتوسط»، التي رصدت القمع في وجوهه المختلفة، إلى ما وصل إليه محفوظ، لأنّه وصف قمعاً قابلاً للزوال، بينما تحدث الثاني عن شر جوهري منتصر يعثر في السلطة على تجسيد مطابق. فبعد الجدران المتجهمة و«المخبر» اللاهي بسبحته تأتي «الصدفة» المتواترة، التي تعبث بالمغترب ومقاصده، وترده من خيبة إلى أخرى أكثر اتساعاً، تعبيراً عن شر في الوجود لا يستطيع الأخيار حياله شيئاً، كما لو كان للأشرار قدر يمنع عنهم الأذى. ولهذا يخطئ «سعيد مهران» هدفيه الأساسيين: يطلق الرصاص في المرة الأولى على إنسان بريء، بعد أن لاذ هدفه بالفرار، وتخطئ رصاصته في المرة الثانية المثقف الفاسد الذي يجسّد السلطة. يخيب في سعيه وهو الذي اشتهر برصاصة لا تخيب. ولعل قوة الشر المنتصر هي التي تعطي لـ«المقبرة» حضورها الواسع، إعلاناً عن وجود مريض قوامه عنصران متأبدان: الشر والمقبرة.
أعلن الروائي عن مآل الاختبار قبل الوصول إليه، ناشراً حزناً يتطاير طليقاً في الفضاء: «يا له من مسكين بسيط كالمساكين في عهد آدم، لا أجد مكاناً في الأرض وابنتي أنكرتني، وضج الخلاء في الخارج بنهيق حمار ختم بحشرجة كالبكاء، وحدي مع الحرية، او مع الشيخ الغائب في السماء، المردّد لكلمات لا يمكن أن يعيها مقبل على النار، الموت في نشاطه الدائب، والمشيعون أحق بالرثاء..». يصيّر اليأس الشديد مغترب نجيب محفوظ إلى «إنسان مقبل عى النار»، راحته في موته ونجاته رحيله الأخير. إنه المخذول الذي أنكرته طفلته، وتنكّر له معلمه، وتآمرت عليه الصدف، ولا يستيطع غيره من المقموعين أن يفعل له شيئاً، بعد أن نصّبه «بطلاً وحيداً» ولاذ بالفرار، أو أنه «الغريب»، الذي عرف مجتمعاً سابقاً، وسقط على مجتمع له قيم مغايرة.
رسمت رواية محفوظ الرحلة السريعة من عهد النعمة إلى زمن الهلاك، فمن يُقبل على النار يصر إلى رماد، ومن زمن البراءة إلى زمن الاثم الكامل المنتصر. وضع الروائي، من الصفحة الأولى، اسم «سناء»، الطفلة البريئة ـ النقاء في غب المطر ـ التي أنكرت أباها و«استولت» عليها ام تتقاسم مع زوجها الخيانة والجُبن والكذب والخديعة. وإذ كان سعيد مهران»، كما رسمته الرواية، نموذجاً للفضيلة المقاتلة التي لا تساوم الرذيلة، فإن طفلته، التي انتهت إلى أيد شريرة، نموذج لنقاء اغتيل قبل الأوان، ولبراءة خالطها المرض منذ البداية. ليست البراءة المصادرة، بهذا المعنى، إلا صورة أخرى عن «الأمل الأخير»، الذي التحق بالمقبرة، ذلك أن البريء في وسط اجتماعي مخادع ينحني رأسه دون أن يدري. تطلق وحدة المصير بين الأمل القتيل والبراءة المضيّعة على لسان محفوظ، كما بطله، شجناً واسعاً ورثاء حارقاً لا اقتصاد فيه: «لكي تصفو الحياة للأحياء يجب اقتلاع الخبائث.. من يبقى لسناء؟ الشوكة المنفرزة في قلبي. «لا يبقى أحد لأن الخبائث، التي ينصرها شر الوجود، أو الوجود الشرير، تقتات بالأحياء كما تريد».
الشر المنتصر
يجسّد بطل محفوظ، في لحظة أولى، مقولة الاغتراب السياسي، ويصيره التشاؤم المحكم الأطراف، في لحظة ثانية، إلى «إنسان مخذول»، بالمعنى الديني، خذله الله وانفضّت عنه الخليقة ويشخص، في لحظة ثالثة، عبث الوجود. ذلك أن العبث صدام بين رغبات الإنسان وصمت الوجود الذي لا يرحم. ينشر المغترب ما شاء من الرغبات، ويحرق الوجود الشرير الرغبات جميعها، فالمثقف السلطوي المخادع بقي في مكانه وزاد سعاراً، والمرأة وزوجها الخائنان ظفرا بالأمان، والأب لم يستعد ابنته، ثم ألقاه الزمن الآثم في النار وأغلق الحكاية. كل شيء «مكتوب» يسير في خط مستقيم، منذ أن خرج المتمرد من سجن ما هو بالسجن، واصطدم بحرية ما هي بالحرية. ولهذا لا ينصاع «مهران» لنصائح الشيخ المتصوف، الذي يطلب منه الوضوء والصلاة، ولا لأشواق «المومس الفاضلة» لأنه، وهو البطل التراجيدي، يسير تحت لواء النار والمجازفة، ولواء الخير، الذي كان واضحاً قبل أن يدفنه الغبار.
تعامل محفوظ الشكوك مع انتصار الشر بمنظور إيماني، فما يرغب به الإنسان يفسده الوجود. يضع هذا في لغته سخرية سوداء، فبين العقل وعبث الوجود مسافة لا تجسّر، تطرد. المعنى الحقيقي للحياة. كأن في عبث الوجود، الذي ينصر سلطة فاسدة، ما يبطل معنى الحياة ومعنى الموت معاً: «فكي يكون للحياة معنى وللموت معنى يجب أن أقتلك»، كي يتم تحرير الأحياء من خبائث المتسلطين. لكن عبث الوجود يأمر بشيء آخر: يموت المدافع عن الحقيقة وينتصر المدافع عن الخديعة، وذلك في دورة صاخبة هازلة تبطل معنى العقل وتردم أحكامه. لا يتبقى إلا المقبرة، مكان الرحمة الوحيد، ولا يظل إلا الهلاك كمستقرأ خير، أو ذلك النفي الذاتي السلبي، الذي يلقّن الشيخ المتصوف لغة لا تفارقها الأحجية.
ما هي رموز الشر المنتصر في رواية محفوظ؟ السلطة التي تعيد تصنيع الطبائع البشرية، والمصنّعون الممتثلون الذين يجسدّون الخوف والانصياع والخيانة، والشوارع المتجهمة التي تفصح عن وجود لا يحتمل، والأمكنة الضيقة المتحوّلة إلى سجون متلاحقة... بيد أن ما يسبق هذا كله هو: الصدفة الماهرة الخائنة، التي تضع فوق الطريق الأليف طريقاً يمكر بالسائر فوقه، وتزيح الرصاصة عن هدفها، وتقسم الأرزاق قسمة فاسدة، محوّلة اللصوص إلى سادة. والواضح في هذا موروث الظلام السلطوي المنتصر، ما دام ان المسكين «مسكين منذ عهد آدم»، وأن يد القدر تهزم العادلين. ولهذا تبدو البراءة قتيلة قبل أن تقتل، ويقترب بيت المتصوف من حدود الخلاء، وينفتح بيت «المومس الفاضلة «، الذي يجير هارباً عادلاً، على المقبرة. إن رمز الشر الأكبر هو الوجود في ذاته، الذي ينتج فائض ظلمه هوامش بشرية، لا ترضى عن البشر ولا تستطيع حياله شيئاً.
ما هي رموز الخير المهزوم؟ تتراصف أربعة ولا تشكّل جسماً واحداً موّحداً: المتمرد الذي يقتات بقلقه ويقتات قلقه به، والطفلة البريئة المفتوحة على خيارات مقيّدة مريضة، ورجل الدين الذي استغنى عن العالم ووضع نفسه خارجه، و«المومس الفاضلة» الفقيرة التي تنتهك كرامتها كل يو م. الأول قتيل من اللحظة التي قابل فيها بشراً أقرب إلى «الفئران المتوجسة»، والبريئة تعرف من لا تجب معرفته ولا تعرف البطل المدافع عن البراءة، والشيخ غائب عن هذا العالم، حضوره وغيابه سيّان، باستثناء إشارة إلى «الكتب» المحمّلة بفتنة قاتلة، و«المومس الفاضلة» تفتقد الحب والرغيف والأمنية القابلة للتحقق. والكل جوهره خارجه، يحمل نقصاً يعتقد أنه سائر إلى شفاء: ينتظر الأب انتقاماً عادلاً من آخرين، وتنتظر المومس توبة المعشوق الذي لا يتوب، ولا تنتظر البريئة «أباً» لا تعرفه، ولا ينتظر الشيخ الفاني شيئأً.
يختلط النقص بالزهد والتعب وعدم المعرفة، سائراً من نقص إلى آخر أعنف أثراً، في انتظار التلاشي والعدم. ومثلما أن الشر الجوهري يتشخصن ويتجلّى واضحاً أكثر في مرجع لا شخصية له هو: الصدفة العاثرة، يتشخصن الخير الجوهري بدوره ويتكشّف واضحاً في إشارتين تفيضان على الأشخاص: وحدة بلا نصير، تترك الإنسان الخير وحيداً «في خضم الأمواج اللامبالية أو المعادية»، «عليه أن يحذر حتى صورته في المرآة»، تقول الرواية. يوزع السارد صفة الوحدة على ثلاثة أشخاص، ويترك الشيخ ينظر وحيداً إلى السماء. تقوم الإشارة الثانية في تعبير دال متواتر: الرصاصة الطائشة، التي تمثّل وجوداً إنسانياً يتساقط في منتصف الطريق، له رغبة طائشة وأمل طائس وبحث طائش... تنعقد الإشارات جميعاً تحت راية خيبة لا بد منها، تفسّر بمآل الخير في الدنيا لا بإرادة الخيّرين. وطّد محفوظ هشاشة الخير بشخصيات متراصفة، تقترب من بعضها ولا تلتحم، وتتجاور موقتة وتمضي: الأب الذي انتظر رؤية ابنته أربع سنوات يراها دقائق ولا يعود، والمتمرد يبادل الشيخ كلاماً قليلاً ولا يأخذ بنصائحه، و«المعذبة الفاضلة» تعشق «غريباً» له رغبات مغايرة، ويتركها وراءه وحيدة غريبة. كلُّ مفتّت يدور حول «بطل طائش» ينتظره الانهيار، أو حول «خير غريب» يحمل متاعه ويرحل.
تأمل محفوظ في «اللص والكلاب» عبث الوجود: «هل تصورت يوماً أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك». تأتي الأشياء إلى إنسان لم ينتظرها ويخرج خائباً، ونظر الروائي بحزن شديد إلى أمل لا ينتصر: «نجا بخيانته ليزيد الخونة الآمنين واحداً... والأمل الباقي في ألا تضيع حياتي عبثاً...». بعد يوم أو بعض يوم زاد الخونة أمناً والتحق عدوهم بالتراب.
رســمت روايــة محفوظ عالماً لا رحمة فيه ولا عدل ولا أمل.
فيصل دراج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد