سميح القاسم: السرطان أربكني فحاولت إرباكه
من بيته الرابض على سفح «جبل حيدر» في أعالي قرية الرامة في الجليل التقيت الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الذي قال لي إن مرض سرطان الكبد الذي دهمه أخيراً فاجأه وأربكه بعض الشيء، لا لأنه قد يقرّب نهاية الحياة في الدنيا، وإنما لأن مكتبه ما زال عامراً بمشاريع غير مكتملة ويرغب بملء جوارحه في أن ينجزها.
وأضاف القاسم في هذا الحوار الخاطف مع صحيفة «الحياة» أن رد فعله على هذا الإرباك تمثل في محاولة إرباك هذا المرض الفتّاك، وعدم تمكينه من أن ينال منه بسهولة، قبل أن يكمل ما يُتاح إنجازه من تلك المشاريع.
وانعكس هذا الإرباك ومحاولة الإرباك المضاد في بعض النصوص الشعرية الجديدة التي كتبها بعد أن وقع في قبضة المرض، ومنها هذا المقطع: «أنا لا أحبّك يا موت/ لكني لا أخافك/ وأعلم أني تضيق عليّ ضفافك/ وأعلم أن سريرك جسمي/ وروحي لحافك/ أنا لا أحبّك يا موت/ لكني لا أخافك...»
ومنها نص آخر في مشاكسة المرض يقول في مطلعه: «اشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان/ كي أقرأ بختك في الفنجان/ اشرب...». وكان آخر ما أنجزه حتى لحظة هذا الحوار، مجموعة «كولاج 3»، وسربية «هواجس لطقوس الأحفاد» التي صدرت في طبعة محلية محدودة، ومن المتوقع أن تصدر في بيروت هذه الأيام، وقد رأى أنها تجربة فريدة في طرح المساءلة التالية: كيف سنبدو في أنظار أحفادنا القادمين، أيفتخرون بنا أم تراهم يسخرون منا؟
وقبلهما أنجز «إنها مجرّد منفضة» (الجزء قبل الأخير من السيرة الذاتية)، و «ملعقة سمّ صغيرة، ثلاث مرات يومياً» (حكاية أوتوبيوغرافية). وهو عاكف على إعداد مجموعتين شعريتين للطبع («غوانتانامو»، و «هيرمافروديتوس»)، فضلاً عن كتاب نثري («نقطة. سطر جديد») وكتاب أفكار ورؤى.
> أما زال الشعر يستأثر بحصة الأسد؟
- إنه يظل جناحي إلى الحياة.
> هل الشعر عموماً ما زال قادراً على التحليق واقتحام فضاءات غير مألوفة؟
- وسيبقى كذلك أبداً. إن الطرح الذي يقول إن زمان الشعر قد ولّى وبدأ زمان الرواية غير دقيق، أو على الأقل سابق لأوانه كثيراً. فالرواية العربية لم تنجز حتى الآن ما أنجزته الرواية العالمية. ربما ينطبق هذا الطرح على الرواية في أميركا اللاتينية بعد رحيل فحول شعرائها، بفضل ما أبدعه روائيون كثيرون في مقدمهم غابرييل غارسيا ماركيز. بيد أن مثل هذا التطور لم يحدث في العالم العربي لأسباب كثيرة، في مقدمها أن الرواية ليست فناً أصيلاً في الثقافة العربية. وعلى رغم تقدّم الإبداع الروائي العربي في الآونة الأخيرة، وخصوصاً على يد الروائيات، ومن وجود مجموعة كبيرة من الروائيين ذوي الموهبة المتميزة، إلا إن النتاجات الروائية العربية لم ترق إلى مستوى الشعر، ولم تطغ عليه. وما زال حضور الشعر متميزاً سواء في الوعي العربي، أو في أوساط الإنتلجنسيا والطلاب الجامعيين، أو على مستوى الدراسات الأكاديمية. ويمكن القول إن الرواية أصبحت أقوى حضوراً من الشعر في أوروبا وأميركا، لكن الشعر ما زال هو سيد الموقف في الوطن العربي برمته، لا من منطلق كونه ديوان العرب، وإنما في ضوء ما تنبئ به الحقائق الميدانية في شأن قدرته الأخاذة على اجتذاب اهتمام الجماهير العريضة، وعلى مخاطبة وجدانها، وعلى أن يتحول إلى حالة ثقافية كما لمست من أمسياتي الشعرية التي عقدتها في العواصم العربية التي أتيح لي إمكان أن أخاطب جمهورها بصورة مباشرة.
> وهذه الأمسيات يمكنها أن تعوّض الشاعر عن انحسار صلة نصه بالمتلقي من خلال الكتاب المطبوع؟
- لا شك في أن ثمة تراجعاً طرأ على مستوى التلقي بالنسبة إلى الكتاب الورقي، وهذه آفة العصر ولا تنحصر في الوطن العربي. إن شكل التواصل تغيّر ويتغير. وواهم من يعتقد أن الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا أتعاطى معها لم تحل محل الكتاب. مع ذلك أنا متفائل بأن الشعر الجيّد يصل إلى أصحاب الذائقة الشعرية الرفيعة. ودليلي البسيط على ذلك هو ما تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً في شأن قيام فتاة أميركية بدق قصيدة لي بعنوان «تذاكر سفر» وشماً على ذراعها باللغة العربية بعد أن قرأت ترجمة لها باللغة الانكليزية وأعجبت بها. ألا يبرهن ذلك على أن هذا الشكل من التواصل أوجد أوطاناً جديدة للشعر؟. إلى جانب هذا، أدرك أن مضار الإنترنت في المجال الفكري والثقافي كثيرة، مع التأكيد أن التقدم كان دائماً في وجهين، وجه نافع ووجه ضار. ولعل الضرر الفادح كامن في تأثيره على سهولة النشر، وعلى تضخيم ظواهر مرضية. وهما ضرران خطران على الشاعر أكثر من خطورتهما على المتلقي، لأنهما يفقدانه التوازن بين قيمة ما يكتب ومعايير الإبداع، ويتيحان إمكان تحقيق «مجد» سريع من دون رصيد فنيّ.
> وماذا بالنسبة إلى الأصوات الشعرية العربية الجديدة؟
- ثمة أصوات مهمة كثيرة، تجعلني أعوّل على استمرار الشعر في التربع على عرش الأدب العربي. وأرجو أن تعفيني من ذكر أي أسماء وأن نبقى في العام. ولدينا هنا في الداخل جزء من هذه الأصوات. لكنني ألاحظ، فيما يتعلق بهذه الأصوات في الداخل، أنها تتسم بهنات ليست هينات، مثل ركاكة اللغة، وعدم التعمق في التراث الشعري العربي، وضعف إتقان العروض التي ما زلت أعتبرها من أهم معايير كتابة الشعر وليست قيداً عليه. برأيي على الشاعر الحقّ أن يربط واقعه بتاريخه الماضي وتراثه القديم، وأن تكون له جذور عميقة وأرض صلبة يقف عليها. وعدم اهتمام الشعراء بدراسة تاريخ أمتهم وتراثهم الخالد يجعلهم بلا جذور، وأعتبر ضعف الثقافة الوطنية وضحالتها من الظواهر الخطرة في أدبنا، ما يحتّم العودة إلى تاريخنا كي نأخذ منه، ونشعر بعقلنا وإحساسنا بالجذور العميقة التي تشدّنا إلى التاريخ.
> ما رأيك بقصيدة النثر التي لم تلتزم العروض؟
- منجز قصيدة النثر عصي على الشطب، وخصوصاً ما تحقق منه بقلم شعراء مثل محمـــد الماغوط وشوقي أبي شقرا. لكني أعتقــــد أن هذا المنجز سيكون أعظم لو كانــــت هذه القصيدة في قالب عروضي. ودعني أصـــارحك القول بأن الادعاء الذاهب إلى أن أوزان الشعر العربي هي قيود هو وهم مبني على جهل، فهذه الأوزان هي أجنحة حرية، وعروض الشعر العربي تعتبر ثروة موسيقية للقصيدة لم يحظ بمثلها أي شعب باستثناء الشعب العربي. وإذا ما درست هذه الأوزان بشكل جاد يسفر عن استبطان الشاعر لها تتحول إلى أجنحة تتيح له مجال التحليق في فضاءات لا حدود لسمائها.
وفي الشعر العربي الموزون بدءاً بامرئ القيس مروراً بأبي تمام والمتنبي وابن الرومي ووصولاً إلى أحمد شوقي والجواهري ثمة صور لا تستطيع تصويرها إلا السينما على غـــرار «مكر مفر مقبل مدبر معاً». هــــذه الأوزان تكــــون قيوداً فقـــط لمن يجهلها، ولمن لا يستبطنها إلى درجة تحولها إلى جزء من دورته الدموية وإحساسه وذاكرته الثقافية.
أنطوان شلحت
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد