طموح «العدالة والتنمية» التركي في سوريا: الولاية الحادية عشرة
في 17 أيلول العام 2009، وقف كل من وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ونظيره السوري وليد المعلم ليعلنا بدء «شراكة استراتيجية» بين البلدين، تبدأ من إلغاء التأشيرات في الاتجاهين، إلى إرساء قواعد «تكامل» ثنائي تصل إلى مستوى التعاون العسكري الذي كان محظورا من الجانب التركي حتى ذلك الوقت مع سوريا، كما تدريب تركيا للديبلوماسيين السوريين في معهدها الديبلوماسي، وهو ما كان استثناء خارقا للعادة في نظرة دمشق حول أين وكيف ومن سيدرب ديبلوماسييها.
والأمثلة التي تشهد على تقارب تركيا وسوريا بين العامين 2003 و2010 لا تحصى. ويمكن سحب أمثلة كثيرة من صندوق الحسد الذي تشكل إقليميا ودوليا اتجاه تلك العلاقة التي انقلبت من عداوة على شفير حرب (1998)، إلى تزاوج يشبه الانصهار استمر خمس سنوات.
ونتج من ذلك الانصهار نتائج إيجابية وسلبية كثيرة، تطرق إليها الباحثون والمعلقون، لكن علامات كثيرة كانت تقلق بعض المسؤولين السوريين، ولا سيما المتمرسين في الخارجية السورية، لا سيما ممن ظل الشك يهيمن على أفقهم السياسي اتجاه أنقرة. أحد الأمثلة التي لا تنسى، كانت في أجواء الامتعاض التي خلقتها كلمة داود أوغلو في ذلك اللقاء الشهير في حلب، والتي تحدث فيها عن «شهداء» العثمانيين على الأرض السورية، مشيرا إلى سوريا باعتبارها امتداداً لإمبراطورية السلاطين البائدة. حينها التفتنا إلى بعضنا البعض في الصالة المضاءة والمكتظة بالإعلاميين، ونظرنا إلى المعلم الذي نقل ثقله من ساق إلى أخرى، محاولا إخفاء ضيق طارئ في وجهه. الكلمة لم تعد موجودة على صفحة الوزير التركي في موقعه الرسمي، ولكن وقعها يتكرر الآن مع الخبر عن تعيين «والٍ تركي للسوريين» لقي تبريرا من «المجلس الوطني» و«الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» بأنه لا يختلف سوى بالتاريخ عما كان يقوله رجال الفرنسيين في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا.
قبل هذا بسنوات عملت تركيا على تشغيل خط طيران من أنقرة إلى حلب لإحدى شركات الطيران الداخلية. كانت خرائط رحلة الطائرة التوضيحية في جيوب مقاعدها الزرقاء تشير إلى حلب المحطة الاستثنائية الوحيدة خارج البلاد بذات الطريقة التي تشير بها إلى غازي عنتاب واسطنبول وأضنة وغيرها.
كان الديبلوماسيون يهمسون بخبث أن حلب ستبقى مطمع الأتراك كولاية حادية عشرة، وبعضهم كان يذهب إلى خبث أكبر حين يقول إن ذلك حصل ضمنيا، مشيرا إلى حجم التقارب الحاصل بعد حصول ما يشبه التكامل الاقتصادي بين محافظتي حلب السورية وغازي عنتاب التركية. وهي المدينة التي تناول المعلم وداود أوغلو عشاء «الاتفاق الاستراتيجي» فيها برفقة ما يقارب 150 ديبلوماسيا وإعلاميا، وشهدت علاقة تجارية ناشطة وغنية مع ريف حلب توسعت لاحقا لباقي الأنحاء السورية.
لكن «حنين» العثمانيين الجدد لم يقتصر على حلب. ففي تصريح له على متن طائرته الخاصة، يقول رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، في ربيع العام 2011، إنه قلق بشأن سوريا، بطريقة تفضح رغبة كامنة بالتدخل «بالطبع نحن نتابع ذلك بقلق. لا أريد أن أكون قلقاً، لكن حدودنا الأطول هي مع سوريا. وتوجد علاقات عائلية وتزاوج عميقة في هاتاي (الاسكندرون) وحلب والقامشلي. حتى من مناطق قريبة من اللاذقية يطلبون مساعدتنا». وذلك في إشارة للتركمان (150 ألفا تقريبا) الذين راهنت الاستخبارات التركية على ولائهم، رغم أن أبرز رموزهم كان مسؤولا كبيرا في القيادة السورية وتسلم ملف العلاقة بين البلدين حتى مقتله في تفجير مكتب الأمن القومي في آب العام الماضي وهو العماد حسن توركماني.
الرهان الآخر كان كما هو معروف على حركة «الإخوان المسلمين» السورية، والذين طلب الأتراك رسميا خلال زيارة داود أوغلو الشهيرة في آذار العام 2011، ومن ثم في آب العام نفسه، إشراكهم بالسلطة، ولاحقا في لقاء جمع أردوغان بالرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أوائل صيف العام 2012.
هوى «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي لم يكن خافيا على دمشق. وكان يثير حنق الأمنيين، كما البعثيين. وكان لا شك يثير غيظا في الخارجية. وقد بدا في أوضح صوره حين مال رجب طيب اردوغان إلى جهة صديقه حينها الرئيس السوري بشار الأسد على طاولة إفطار تكريمية في فندق «دبليو» قرب مطار اسطنبول في رمضان العام 2007، ليطلب منه «كأخ وكصديق» أن يعيد قادة «الإخوان» المنفيين في تركيا إلى بلادهم، ولا سيما من حقق نجاحا ماديا مثيرا للدهشة في تركيا، وبات شريكا تجاريا لـ«حزب العدالة» والحكومة التركية معا.
الطلب الذي لقي آذانا صاغية، فقط، كان بداية الشك الذي بدوره لم يصل إلى درجة الحرص والحذر، وظل في دائرة ضيق الحسابات الداخلية، مرتكزا على البعد الخارجي فقط، لتتراكم الحوادث حتى جاء اليوم الذي أعلن فيه نائب وزير الخارجية فيصل المقداد صراحة في تصريح لـ«السفير» حينها أن تركيا باتت بمثابة «ناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين السورية».
ظلت دمشق رغم ذلك تزيد من اعتمادها على تركيا في كل الشؤون السورية، حتى لحظة الفراق التي حصلت فعليا بعدم تبني دمشق مطلب اردوغان بعودة رئيس الحكومة اللبنانية السابق ســعد الحريري إلى سدة رئاسة الوزراء، وسحــب دعم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وذلـــك في الاجتماع التاريخي الذي حصل بين الطــرفين بحضور أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني (أيلول العام 2010) وانتــهى عمليا إلى عكس ما أعلنته المستشارة الرئاسية بثينة شـــعبان حينها، بأن علاقة البلدان الثلاثة ستشــكل «ركــيزة أساسيــة لبناء مستــقبل أفضل للمنطـقة».
والآن تتخطى نظرة تركيا لسوريا المستقبل ذروة أخرى، بتسمية «وال على السوريين»، بمن فيهم الموجودون في «المناطق المحررة». وذلك على طريقة «الباب العالي» كما ذكرت بعض مواقع الانترنت السورية. الأمر الذي يشكل تعبيرا جديدا عما يدور في ذهن ساسة «العدالة والتنمية»، والذي بني على استراتيجية طويلة الأمد، ليس قطع شريان الصناعة والتجارة في حلب وتدمير بنيتها التحتية سوى خطوة على ذلك الطريق، نحو إحكام عناصر الرضوخ السوري لتركيا، حتى ولو بعد أعوام من نهاية الأزمة.
سبق لداود أوغلو أن قال في 17 أيلول العام 2009 «لا ألغام، ولا أسلاك، ولا بوابات» يجب أن تقوم بين سوريا وتركيا، لكن أحدا لم يتصور حقيقة ما عناه.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد