عبد الرحمن آل رشي: صقر الدراما السورية يحطّ في قاسيون
بنظرته وصوته الجارحين، رسّخ عبد الرحمن آل رشي (1934ـ 2014) مكانة خاصّة له، سواء على المسرح أو أمام الكاميرا أو حتى وراء ميكروفون «إذاعة دمشق». سجّل الممثل السوري الكبير الذي غادرنا أمس الأوّل، أكثر من 25 ألف ساعة برامجية ودرامية، مدوّناً بحنجرته الذهبية ذاكرة جيل روّاد الدراما السورية.
تدهورت صحّة «الزعيم» خلال الأشهر الماضيّة، وتوفيّ إثر أزمة حادّة في الجهاز التنفسي في أحد مستشفيات دمشق. وبالأمس، شيّع إلى مثواه الأخير في مقبرة الأكراد، في حيّ ركن الدين الدمشقي. أطبق جفونه قبالة جبل قاسيون، بعد ثمانية عقود ونيف من عمرٍ قضاه مندمجاً مع الناس وهمومهم، بعيداً عن وهم النجومية وطقوسها.
ودّع الراحل بلاده التي آلمه احتراب أبنائها، بعدما كان من الأصوات المنادية بضرورة الاحتكام إلى الحوار، كما قال حين وقف يخطب بجمهور عريض، في ساحة «السبع بحرات» مع بداية الأزمة. وجّه النداء ذاته في خاتمة أوبريت «بالحب نعمرها» (2013)، منشداً بصوته المزلزل: « كل شي تدمر بدّه يعمر». تواءمت رسالته الأخيرة، مع ما قدّمه قبل ذلك بسنوات، في أغنية «أنا سوري آه يا نيالي» الشهيرة (من كلمات وألحان للفنان حسام تحسين بك). تتناول الأهزوجة الشعبية استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي، وأعلن فيها الراحل الانتماء إلى الهويّة السوريّة، فوق أيّ هوية عرقية أو إثنية بديلة، كونه يتحدّر من أصول كردية.
لقي آل رشي مقاومة شديدة من أسرته، عندما قرّر الدخول إلى عالم الفن. لم تسمح له تقاليد العائلة المحافظة، خمسينيات القرن الفائت، إلا بتجويد القرآن الكريم كحدٍّ أقصى لإبراز مواهبه الفطريَّة في النشيد والإلقاء. كان الشاب الخارج إلى بريّة الحياة بشهادة «سارتفيكا»، ملوّعاً بحبّ الغناء والتمثيل، لكنّ والده منعه عن خوض مجال الفنّ. لهذا، لم يدخل آل رشي مجال الفن إلا بعد موت أبيه، ملتحقاً بالنادي الشرقي للتمثيل والغناء العام 1955.
بعد تمارين فنّ القراءة والإلقاء ومهارات الخطاب، شارك عبد الرحمن آل رشي بمسرحيَّة «لولا النساء» (1957) في القاهرة، مسجِّلاً حضوراً قويّاً منذ إطلالته الأولى على الخشبة. لكنّ ظهوره الأمضى جاء في فيلم «المخدوعون» (1972) للمخرج المصري توفيق صالح، ثمّ مع اللبناني برهان علوية في فيلم «كفر قاسم» (1975). بلغت مشاركاته في السينما نحو ثمانية أفلام، فيما صوّر أضعاف ذلك في التلفزيون، مع أكثر من ثمانين مسلسلاً، كان أشهرها منذ بدايات التلفزيون السوري «مذكرات حرامي» (1968) للمخرج علاء الدين كوكش، و«غضب الصحراء» (1989) للمخرج هيثم حقي. فمن ينسى مشهد النهاية في العمل الأخير، حين أدى آل رشي شخصية «الأزرق»، تاركاً ضحكته خاتمةً للعمل، وفق رؤيا فانتازيّة أرادت إسقاطاً باهراً على طبيعة السلطة وانهيارها العبثي في ممالك الصحراء العربية.
لمع نجم عبد الرحمن آل رشي بعد نجاحات متواترة، وضعته في مقدّمة ممثلي الصف الأول. أدّى شخصيات شريرة ومتسلطة، عميقة وشكسبيرية من حيث غرابتها ومآلاتها التراجيدية، بعيدة عن شخصيته الواقعية كإنسان مرح، حاضر النكتة، ضحكاته تتقدم خطواته أينما جلس. برز آل رشي بعيداً عن أدوار الشر والسلطة، نجماً من نجوم الكوميديا، وصاحب ظل خفيف، خصوصاً في مسلسل «أربع بنات وأنا» (2004) لهشام شربتجي، أو في لوحات المسلسل الكوميدي «بقعة ضوء». نجح أيضاً في أدوار سوداويّة، كما في «راس غليص» (1976) لعلاء الدين كوكش، أو دور «معلم المينا» في «نهاية رجل شجاع» (1993) لنجدة إسماعيل أنزور، أو حتى شخصية ملك الروم في مسلسل «العبابيد» (1996) لبسام الملا.
ترسخّت مكانة آل رشي على الشاشة، في ذاكرة المشاهدين، من خلال عدّة أدوار لقيت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، كما في «جواهر»، و«الخوالي»، و«الظاهر بيبرس»، و«باب الحارة» بجزءيه الأوّل والثاني. في العمل الأخير لعب دور زعيم الحارة، وهو الدور الذي رافقه في آخر أعماله «الغربال» لناجي طعمة المتوقّع عرضه في رمضان المقبل، حيث يؤدّي شخصيّة أبو سالم عقيد الشاغور. وفي العام 2002، قدم آل رشي آخر أعماله المسرحية بعنوان «شيترا»، عن قصيدة لطاغور، وقام بإخراجه أسامة شقير بتعاون مع ابنه محمد آل رشي.
برحيله، يختم عبد الرحمن آل رشي مسيرة نصف قرن ونيف من العطاء غير المحدود، كلّله بجوائز وشهادات تكريم عدّة. وبرحيله، تتواصل رحلة الحداد في وسط الدراما السوريّة التي فقدت خلال الأعوام الثلاثة الماضية مجموعة كبيرة من روّاد الرعيل الأوّل، منهم إلى جانب آل رشي، طلحت حمدي، وخالد تاجا.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد