عندما يتماهى السجناء مع السجّان
الاعتبارات التي تتحكم بإضراب المعلمين وموظفي الحكومة الفلسطينية الموجه ضد حكومة «حماس» المحاصرة والمفلسة، إجراء لا يمكن تفسيره بأنه موجه ضد السجان الإسرائيلي، رغم تماهي السجان مع الإضراب، الذي يشكل جزءاً من الأهداف التي وضعها لنفسه، وهي إما إبعاد حركة «حماس» عن الحكم، أو ضمان ضمها إلى ما سواها من الحركات الفلسطينية التي ألقت السلاح جانباً، أو لم تعد تراه من أولوياتها.
مدينة نابلس المحاصرة بخمسة حواجز تحولت إلى سجن كبير. تضم المدينة 140 ألف مواطن. كانت العاصمة الاقتصادية للضفة الغربية تعج بالحياة والحركة، إلا أن المشهد اليوم مختلف تماماً. نصف محالّ المدينة مغلقة بسبب الركود الاقتصادي. شوارعها شبه خالية من المارة. المواطنون من 55 قرية مجاورة يصعب دخولهم إليها من دون أذونات مسبقة.
ثمة إضراب في 67 مدرسة حكومية في نابلس. السجان ليس مسؤولاً عن المدارس. ولن يؤذي الإضراب الدول المانحة، لكنه وسيلة للضغط على الرئيس محمود عباس ليقوم بحل حكومة «حماس».
تغادر معلمة الرياضيات سهى سليم بوابة المدينة، بإذن من السجان الإسرائيلي. تبقى في بيتها عندما يرسل مدير السجن حراسه المسلحين بالدبابات ليقتحم أقسامه، يضرب ويقتل ويهدم، كما يحلو له. يجرد قوات الشرطة الفلسطينية من أسلحتها، ويرغمها على إخلاء مواقعها، ويهدم مقارّها.
تخرج سليم من بيتها يومياً في الساعة السادسة والنصف صباحاً في طريقها إلى قرية عزموط، التي تبعد نحو عشرة كيلومترات عن نابلس. تقف في طابور طويل على حاجز حوارة، قبل أن يسمح لها بالخروج، لتصل إلى المدرسة متأخرة ساعتين أو ثلاثة.
والمفارقة في الأمر أن نزلاء السجن، وهم في هذه الحالة الفلسطينيون، يتنازعون في ما بينهم الاعتراف بالسجان وسلطته عليهم، أي الاعتراف بإسرائيل والاتفاقات الموقعة معها وسلطة الأمر الواقع المفروضة على الأرض.
مدير السجن الإسرائيلي له صلاحيات مطلقة: منها الزج بالأبرياء في المعتقلات، وحرمانهم التعليم، والعناية الصحية، والخدمات، بحجة أن بعض النزلاء لا يعترفون به مديراً للمعتقل. لكن المدير يصر على تنفيذ إجراءاته، فاضطرت مجموعة من النزلاء إلى الرضوخ لشروطه. ولم يكن رأي هذه المجموعة مقبولاً لدى جميع النزلاء.
يتحكم الجيش الإسرائيلي بحركة الدخول والخروج من المدن الفلسطينية، وحركة البضائع. يفرض منع التجوال أثناء عملياته، مرغماً المواطنين على البقاء في بيوتهم.
حركتا «حماس» و«فتح» ليس لديهما سلطات فعلية. حركتان منبوذتان من إسرائيل. الأولى تخشاها إسرائيل، والثانية لا تثق بها. جيش السلطة «لا يهش ولا ينش»، وفي أول هجوم لجيش الاحتلال، يختفي الجنود والضباط. يلوذون في بيوتهم ويخبئون أسلحتهم.
نصف أعضاء الحكومة مسجونون. الرئاسة عاجزة عن إقناع السجان بإعطائها صلاحيات، ولو كانت تجميلية، لاستعادة صدقيتها المهدورة. يصرّ السجان على أن يقبض بيديه على كل الصلاحيات والسلطات.
مدير السجن اليوم (إيهود أولمرت وفرقته) يجلس اليوم على كرسيه الهزاز ليتفرج على الكوميديا السوداء الفلسطينية، منتظراً ماذا سيفعل السجناء.
الفلسطينيون جميعاً معتقلون في سجون كبيرة وصغيرة، مفصولة بالحواجز والمعابر، تسمى مجازاً مدناً وقرى ومخيمات. ويفرض عليهم قانون السجن. النزلاء الذين لا يخضعون لقانون السجان، يعاقبون.
«يجب على الحكومة (المعتقلة) ألا تعترف بإسرائيل، قبل أن تعترف إسرائيل بنا، كبشر». كان هذا هو موقف المعلمة سهى سليم (34 عاماً) وهي أم لطفلين.
كان هيثم شحادة (10 سنوات) ونحو سبعة أطفال آخرين عائدين إلى البيت. قال الطفل شحادة إنه لا يؤيد الإضراب. فليس لديه ما يفعله في البيت. ويعتقد عبد الرحمن عمران (48 عاماً) أن الإضراب ليس مطلبياً. «لماذا لم يكن الإضراب تصاعدياً، لتخفيف الضرر عن الطلبة. أنا أريد أن أسأل منظمي الإضراب إذا كان الطلاب في نابلس أوروبيين أو أميركيين».
حاولت سليم بصحبة عدد من المعلمات اللواتي يعانين من الحواجز لقاء مدير إدارة التعليم في المدينة، لحثه على نقل عملهن من القرى المجاورة إلى المدينة. خرج المدير من مكتبه ليطمئنهن إلى أنه سيدرس طلبهن.
كان المدير سميح عصيدة، مسؤولاً عن أربعة آلاف معلم، وسبعة آلاف طالب، لن يجدوا إلا الشوارع والحواري مكاناً يمضون فيه أوقات فراغهم، بعد إعلان الإضراب المفتوح، الذي يشارك فيه أيضاً الموظفون الحكوميون.
يعتقد عصيدة أن الإضراب موجه ضد الغرب، لقيامه بفرض حصار على الحكومة الفلسطينية. يرى أيضاً أن «الإخوة في حركتي فتح وحماس» يتصرفون بروح المسؤولية. يقول إن «المحتجين يرفعون لافتات ضد الحصار لا ضد الحكومة. أعترف بوجود لافتات ضد الحكومة. هناك حوادث اشتباكات محدودة. لكننا نسارع إلى احتوائها».
لكن هذا الرأي ليس له صدقية في الشارع، فالإضراب هو محاولة لإسقاط الحكومة، أو إرغامها على تغيير برنامجها السياسي.
«لا مشكلة لدينا في أن نقول رأينا الفتحاوي بصراحة. لا يمكن حل مشاكلنا الداخلية من دون الاعتراف بإسرائيل»، جاء ذلك على لسان أمين سر حركة فتح في نابلس عصام أبو بكر.
وقد علقت في مكتبه 12 صورة لشهداء قيادة الحركة، منهم أبو جهاد، وابو إياد، وماجد أبو شرار، وأبو يوسف النجار.
يعترف المتحدث باسم حركة «فتح» يوسف حرب بأن الحركة تضغط على الرئيس محمود عباس للقيام بحل حكومة «حماس»، واستبدالها بحكومة طوارئ، والدعوة إلى انتخابات مبكرة. ويقول: «نريد أن نتخلص من الحصار. كيف نتخلص من الحصار؟». ويجيب متســــائلاً: «بشــــق الصــــف الفلســــطيني؟»
ويتابع حرب: «الحل بحكومة الوحدة، لكن حكومة الوحدة لها شروط. يجب على حماس أن تغير برنامجها السياسي».
يجب أن تعترف الحكومة بالسجان. عندما يتماهي السجان مع نزلاء سجنه الذين يدافعون عنه، لكنه لا يرفع عنهم الأصفاد، بل يمعن في غيه. ويجلدهم بسوطه. سيتوقع السجان ثورة عليه من النزلاء.
ليس هذا بالضبط ما يحدث في السجن. المشكلة، كما يراها منظمو الإضراب، ليست السجن والاصفاد. إنها مشكلة اعتراف المعتقلين بشرعية السجان. إنه منطق الاستسلام للقوة.
سعيد الغزالي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد