غابرييل غارسيا ماركيز.. الكتابة والمرض والواقعية السحرية
لا شك، فقد العالم الأدبي والثقافي، وجهاً بارزاً من وجوهه الكبيرة، التي لن تنسى. رحل غابرييل غارسيا ماركيز، تاركا وراءه العديد من الكتب التي ستبقى وراءه. يرحل الكاتب، ماديا، جسديا، لكن قد يبدو العزاء الوحيد، أن كتبه تعيش أكثر منه، وتبقى من بعده، وتخبر الأجيال المقبلة عن مروره في الأرض.
لكن الكتابة أيضا، هي أحيانا عادات وتفاصيل يومية، من هنا فكرة هذا الحوار المترجم مع الكاتب الكولومبي الراحل، الذي تم إعداده من ثلاثة حوارات مختلفة أجريت مع الكاتب، في أزمنة متفرقة، في كل من «لوموند» و«لو فيغارو» و«باري ماتش»، اخترت منها، كل ما هو متعلق بتفاصيل طريقة الكتابة، لأقدم من خلالها لمحة عن العادات اليومية التي كان يعتمدها ماركيز في الكتابة.
كذلك يتضمن هذا الملف الصغير عن ماركيز، ترجمة للمقالة التي كتبها الكاتب الروسي أوليغ شيشكين الذي كتبها غداة وفاته، والتي يتحدث فيها عن اكتشاف ماركيز وعن حلمه برؤيته، وهو حلم لم يتحقق.
أما الجزء الأخير فهي مقالة للناقد والكاتب وليام كينيدي، يدافع فيها عن الواقعية السحرية، وعن ماركيز تحديدا، معتبرا أن رواياته لم تكن فقط روايات ساحرة ورائعة بل هي روايات متفردة أسست لأسلوب وعالم خاصيْن.. وهي مستلة من «النيوزويك» التي طرحت قبل سنوات سؤالا حول «هل ماتت الواقعية السحرية»، وكانت إجابات عديدة، مع وضد السؤال، وقد اخترت ما له علاقة بماركيز مباشرة.
«العذاب هو أن لا أكتب الحب، أيديولوجيتي الوحيدة»
÷ بدأت العمل كصحافي في قرطاجنة؟
} أجل، كنت في العشرين من عمري، حين وصلت من بوغوتا. تقدمت من الصحيفة المحلية هناك، «إل يونفرسال». قلت للمسؤولين، إنه سبق لي أن كتبت بعض الحكايات وأرغب في أن أصبح صحافيا. أجلسني أحد رؤساء التحرير خلف آلة كاتبة كي أحرر خبرا. قرأ السطر الأول. شطب كلّ شيء. جعلني أعيد الكتابة من البداية. وبعد أن انتهيت، أعاد تصحيح كل ما كتبته، لكن وبالرغم من ذلك نشر ما كتبته. على مرّ الأيام، بدأ يشطب بشكل أقل، حتى اليوم الذي لم يعد يشطب فيه أي كلمة. هكذا أصبحت صحافيا.
÷ بالنسبة إليك لا تزال الصحافة «أجمل مهنة في العالم»؟
} أعمل في هذه الأيام على كتاب يحمل هذا العنوان. لن يتقبله الصحافيون، بيد أن الصحافة هي نوع أدبي مستقل، مثلها مثل المسرح والرواية والشعر.
÷ هل ينطلق الكاتب النجم أحيانا للقيام بتحقيق حاملا معه قلمه ودفتر ملاحظاته؟
} مؤخراً، رغبت بتحقيق مشروع عزيز على قلبي كثيرا، ويتمثل في أن أذهب متنكرا إلى قرية صغيرة أكل أهلها خبزا مسموما سبب بمرض السكان كلهم. رغبت في الذهاب لأكتب قصة هؤلاء الناس. لكني تيقنت سريعا أنه في اليوم الثالث ستذهب الصحافة الكولومبية بأسرها إلى هناك وبأني سأكون أنا موضوع التحقيق الصحافي.
÷ يقول أصدقاؤك بأنك تعتبر الكتابة مثل عملية التنفس، أي أنها حاجة حيوية؟
} هذا صحيح، إنها الشيء الوحيد الذي أفضله في العالم. لا شيء يمنعني من الكتابة. الكتابة تحتل جميع أفكاري.
÷ كم هو الوقت الذي يمكن لك أن تمضيه من دون كتابة؟
} لا أكثر من يوم واحد، مطلقا. لا أرتاح أبدا بين كتابين. ما أن أنهي كتابا، أجدني بحاجة لأن أبدأ بواحد آخر رأسا، إذ أجد أن يديًّ «ساخنتان» في تلك اللحظة. إن تركتهما تبردان، فلن يكون الأمر جيدا. إذ عليّ حينها أن أعود لتعلم الكتابة.
÷ ماذا تفعل كي ترضي نهمك الضاري للمعاجم؟
} في فترة من الفترات، كنت امضي يومي في قراءة «الموسوعة البريطانية» متنقلاً من مادة إلى مادة، وأنا مسحور. يتطلب ذلك وقتا كبيرا من اجل إيجاد كلمة واحدة. الآن، لا ابحث في القواميس إلا بين السادسة والثامنة مساء، إنها ساعات مجردة.
÷ وما هي الساعات المجازية؟
} تبدأ عندما استيقظ. في الخامسة صباحا، أصحح ثلاث أو أربع صفحات، موضوعة على طاولة العمل. في الماضي كنت أقوم بذلك قبل أن أنام. كان الأمر سيئا. كنت استمر في العمل وأنا نائم، استيقظ منهكا لأني صححت الليل بأكمله. حاليا احتفظ بالأوراق للفجر، ما عدا الأيام التي أسافر فيها.
÷ يعني أنت كاتب صباحي؟
} أجل، أنهض كل يوم الخامسة صباحا وأقرأ لمدة ساعتين. أقوم بذلك، في هذه الساعة، لأني بقية ساعات النهار، لن يكون لدي الوقت. بعامة، أصحح ما أكون قد كتبته قبل يوم. لا أعيد قراءة ما كتبته أبدا في المساء، فلو فعلت لما استطعت النوم بهدوء. إذ أستمر بالتفكير في ذلك خلال غفوتي.
÷ نسيت أن تشير إلى أهمية «الدوش» في إبداعك الفني..
} آه أجل، «الدوش» (يضحك). تأتيني الأفكار تحت الماء. إنه المكان الذي أجد فيه الوحي. ومع ذلك، سألني مؤخرا، أحد صحافيي «الواشنطن بوست» عن المدة القصوى التي أقضيها تحت مياه الدوش، فأجبته «عشر دقائق»، فظهرت خيبة الأمل على وجه الصحافي الأميركي.
÷ أنت اليوم في السادسة والستين من عمرك، وما من مرة ظهرت بهذا النشاط كما أنت عليه اليوم: رواية كل ثلاث سنوات، مذكرات، أبحاث في طور التحضير. لمَ هذا التدفق؟
} لأني بدأت أكتب على «الكومبيوتر».فيما مضى، كان يلزمني سبع سنوات لكل كتاب. كنت أضيع وقتا هائلا مع الآلة الكاتبة. اليوم، تكفيني ثلاث سنوات.
÷ ألا يلعب العمر دورا في ذلك؟
} لا أعرف. بأي حال، حتى لو عشت بعد مئة سنة أخرى، فإن ذلك لن يكفي لكتابة كل ما أرغب في كتابته. وهذا أكثر ما يحزنني.
÷ يشكل الحب الموضوع المركزي في أعمالك. أي مكانة يحتلها في حياتك؟
} إنه الأمر الأهم في العالم، الشيء الأهم في الحياة. غالبا ما رددت: الحب هو إيديولوجيتي الوحيدة.
العمر والمرض
÷ كيف تنظر إلى الشيخوخة؟
} ثمة أمر غريب أجده: حين أعيد قراءة أعمالي السابقة، وحين أجد أني أكتب عن «عجوز»، غالبا ما أجد أنه أكثر شبابا مني اليوم. لذلك، أضاعف الآن عمر «العجوز» في رواياتي الحالية.
÷ ما كانت عليه ردة فعلك، قبل سنتين، حين أعلن الأطباء أنهم وجدوا لديك ورما سرطانيا؟
} اعتبرت دائما، أنه في حالة مماثلة، سأشعر بالهلع وبأن علي أن أخفي الأمر عن عائلتي كي أتمكن من الاستمرار بالعيش بطريقة بريئة. حين اكتشف الأطباء «حبة العدس» هذه الصغيرة على رئتي وحين طمأنوني بأنها لن تكبر وتتسع أبدا، رغبت أن أعرف كل شيء عن الأمر. اتخذت القرار بإجراء العملية الجراحية. لقد تحكمت بحياتي.
÷ هل توقفت عن العمل؟
} لوقت قصير جدا. كنت يومها قد سلمت الناشر مخطوط كتابي «12 قصة تائهة». بعد 15 يوما من خروجي من المستشفى عدت إلى الكتابة.
÷ هل أثر المرض على حياتك وعلى وحيك الكتابي؟
} أصبحت أكثر استعجالا عما ذي قبل. كنت معتادا على القول: «يمكن أن أقوم بذلك بشكل أفضل بعد عشرين أو ثلاثين سنة». أعرف اليوم بأنه، حتى لو عشت بعد مئة سنة أخرى، فإنه لن يكون لدي الوقت للقيام بكل ما أريد أن أقوم به. إلا أنني أحاول التخلص من هذا الشعور. إذ، في كل عملية إبداعية، لا بدّ أن نلاحظ الاستعجال سريعا.
÷ لا نعرف إن كان علينا أن نشعر بالأسف لقلة نتاجك (أربع روايات منذ جائزة نوبل عام 1982) أو أن نغتبط بروايتك وأنت تنشر على الرغم من هذه الحياة التي تحياها...
} فكرت وأنا أتسلم جائزة نوبل بتلك اللعنة التي تلاحق هؤلاء الفائزين لعدم وجود الوقت لديهم كي يبدعوا. حاولت كل جهدي ألا أكون سجين الشهرة والنجاح والسياسة أيضا. إن مئة شخص لن يستطيعوا تلبية الدعوات والالحاحات، التي توجه اليّ والتي من الصعب رفضها دائما. لا اخضع إلا لقاعدة واحدة: لن تجدوني صباحا في أي مكان. اكتب كل يوم قبل الغداء.
÷ ما هي علاقتك بالطائرة؟
} كنت أخشى الطيران دائما. انه خوف لم اشفَ منه. ومع ذلك أسافر كثيرا، لا بسبب الشجاعة وإنما لأنني وجدت الوسيلة كي لا أفكر في خوفي. أصرف وقتي بالعمل الذي يأخذني أكثر: إعادة القراءة والتصحيح. في الأيام التي تسبق رحيلي، لا أصحح أوراقي أبدا. فأنا احتفظ برزمة جيدة كي أجد الوسيلة لأشغل نفسي. أتذكر رحلة، من مكسيكو إلى فرانكفورت، حيث أمضيت 7 ساعات وأنا أصحح من دون فترة استراحة واحدة «عن الحب وشياطين أخرى».
÷ يتراءى وكأن ذلك ذكرى سعيدة؟
} إن أخلاقيتي بصفتي كاتبا، هو النقد الذاتي تجاه عملي. إنني أجد لذة حقيقية وأنا أصحح نفسي.
÷ وحين تكتب؟
} بالنسبة إلي، الأمر سهل. اكتب حين يكون عندي قصة متكاملة. كذلك أنا في حاجة إلى إيجاد اسم كل شخص قبل أن ابدأ. وثم يتقدم كل شيء بسهولة، بلا تعقيدات، حتى نقطة النهاية. وعندما امسك بقصتي، استمر في العمر، بالتناوب. أحيانا اعمل على الإيقاع، وأحيانا على اللغة. وفي موازاة ذلك هناك اختفاء لجميع الشكوك النحوية. إن التصحيح مهمة لا تنتهي.
÷ ولكي تنشر، عليك الانتهاء من تصحيح مخطوط ما؟
} عليك الانتهاء من جميع حالات (روايات) النص المتلاحقة. إن جهاز الكومبيوتر يعطينا الاحتمال في أن يكون لدينا كل يوم مخطوط أصلي. إذاك، أمزق وأمزق. إن الذي يعمل عندي بشكل أكثر، ليس الستيريو أو التلفزيون، وإنما آلة تمزيق الورق. تجبرني زوجتي ميرسيدس على الاحتفاظ بالروايات المصححة من اللحظة التي أصل فيها إلى شيء متكامل. لدي 11 رواية مختلفة «عن الحب وشياطين أخرى». ثمانية على صعيد المخطوط و3 خارجة من الطابعة. لكنني شفيت قليلاً من إلحاحي الماضي. في فترة من الفترات كنت أظن انه لا ينبغي وضع نقطة بالطريقة ذاتها حين كانت تأتي ببساطة في الجملة، وحين كانت تسبق العودة إلى السطر. لقد ارتحت من ذلك. وبخاصة في هذه الأيام حيث اكتب كتابا على شكل تحقيق صحافي.
÷ هل يبدو الأمر أسهل؟
} ثمة خمول طبيعي يأخذك في الصحافة. عليك إن تبقى ناقدا في مواجهة المعلومات، منتبها إلى المواد. انه نوع أدبي أسهل من القص، مع متطلبات أسلوبية اقل، مع متطلبات إبداعية اقل. وبشكل مخالف، نستطيع استعمال كل مصادر القص. وكما دائما، لم أقرر أن اكتب هكذا: إن حجة الكتاب هي التي تحدد الأسلوب الضروري. إن مهمة الكتاب الذي يرى أسلوبا فرض نفسه، أن يكمله إلى النهاية. إن كتاب «خريف البطريرك» لم يكتب أبدا مثل «وقائع موت معلن». أن أقوم بكتابة صحافية، فذلك يطهرني. إن هوسي بالكمال يؤدي بي نحو المرض.
البنية
÷ أتتخيل لذة في الكتابة بعيدا عن أي بنية؟
} ليس بالنسبة إلي. إن أصعب شيء قبل الكتابة، ليس عدم وجود قصة وإنما إيجاد بنية القصة. إنني أتألم كثيرا في بحثي هذا. لا زلت متأثرا لغاية اليوم باكتشافي «اوديب ملكا» لسوفوكليس. إنها حلم كل كاتب: قصة تدور حول تحرٍ يتقصى، ويكتشف في النهاية انه هو القاتل. إنني أبقى، حتى نهاية الكتابة، مهووسا ببنيته. ونستطيع التحقق من ذلك: في كتبي، كل فصل يمتلك تقريبا عدد الصفحات ذاتها. إنني مخول أن انقل عنصرا من طرف إلى آخر، فقط كي أحافظ على هذا التوازن.
÷ تنتمي إلى جيل عرف كل أنواع أدوات الكتابة، من الريشة إلى الكومبيوتر.
} ولا اعتقد أن مهنة الكاتب تغيرت، بمرورها من القلم إلى الريشة، ومن الآلة الكاتبة الميكانيكية، ومن بعدها الكهربائية، ولغاية الكومبيوتر. صادفني الحظ بوصول الكومبيوتر في اللحظة التي كنت في خطر فقدان سيطرتي على إبداعي. كانت ايفلين فوغ، في نهاية حياتها، تخشى ألا تكتب رواية خشية ألا تتذكر كل كلمة في المخطوط الذي كانت تكتبه وعلاقة هذه الكلمة بجميع الكلمات الأخرى، هنا يساعدني الكومبيوتر...
÷ تدور أحداث جميع كتبك في الكاريبي باستثناء 12 قصة.
} ولماذا البحث عن مكان آخر؟ نجد فيه كل شيء. لأستدعي الكاريبي، لا استطيع أن أفكر إلا في تلك اللحظات، في طفولتي، حيث كانوا يبحثون عن جسد غريق. كانوا قد وضعوا شمعة مشتعلة في نصف قرعة فوق البحيرة.
أتذكر ذلك، كنت في السابعة. تبعت مع القرية كلها، ومن الضفة، الشمعة التي كانت ترقص من ضفة إلى أخرى، على الماء. انتهت في أن بدأت تدور فوق نقطة محددة. كان الغريق موجودا هنا. سحبوه من الماء كسمكة ضخمة. اعتقد أن الكاريبي اليوم، هو هذه النقطة حيث توقفت الشمعة، نجد فيه كل شيء.. نجد فيه الخلاسيين والسود والصينيين والعرب والأوروبيين، وعمال قناة باناما..
÷ والأوبئة أيضا.. مثلما تقول؟
} أحببت الأوبئة دائما. إنها تمزج التراجيديات الكبرى والعربدة، في المقابر. هذا صحيح، هناك وباء النسيان في «مئة عام من العزلة»، الطاعون في «الجدة الكبيرة» والكوليرا في «الحب في زمن الكوليرا». أريد أن أوقف هذه الأمراض الممزوجة بالحب..
÷ والحب أيضا..؟
} كلا، سأحتفظ به، انه محرك كتبي، حجتي الوحيدة، وايديولوجيتي الوحيدة..
أوليغ شيشكين: سمات الجرح الخارق
بدأ تعرفي الشخصي على أدبه العام 1977. كنت في الثالثة عشرة من عمري، وكانت والدتي استعارت من مكتبة المستشفى الذي تعمل به، ولمدة أيام قليلة فقط، مختارات من أعمال ماركيز الصادرة ضمن سلسلة «أسياد النثر المعاصر». أكببت على الكتاب بشراهة. وتتوجب الإشارة هنا، أنه في عهد الاتحاد السوفياتي، كانت الكتب الجيدة موضوعة على لائحة الأشياء الثمينة التي كان الناس يذهبون لاصطيادها، سرقتها.
ها أن ماركيز يرتاح على طاولة مكتبي. لقد أصبحت روائح شتول البن والموز كما المطر المنهمر بدون توقف من صفحات «مئة عام من العزلة» بالنسبة إلي كما بالنسبة إلى كثيرين غيري، وللأبد، جواز مرور باتجاه أرض السحرة وأرض الانقلابات العسكرية.
فتح لنا ماركيز باب الواقعية السحرية. كان يملك هو نفسه، في داخله، شيئا إكزوتيكيا كاملا، غير مسمى، وفي الوقت عينه، يملك سمات جرح خارق، وبصمة أليمة خاصة، ما يحيل الأدب، بالضبط، إلى أدب كبير. آه، لرومنسية الشباب، لحلم هذه البقعة البعيدة التي تعيش وفق قواعدها الخاصة! كنت أرغب في أن أكون في ذلك العالم، رغبت في رؤيته، إلا أنني لم أكن أفهم جيدا، بأن بلدي «الاتحاد السوفياتي كان فخا كبيرا بالنسبة إلى الذين ولدوا فيه. وبأنني لن أرى كولومبيا، بلاد ماركيز. إذ لم يكن يستطيع السفر إلى الخارج إلاّ قادة الحزب الشيوعي وعملاء الكي. جي. بي، ولم أكن أنتمي إلى هاتين الفئتين.
بيد أن الحياة تغيرت، ففي نهاية الثمانينيات (من القرن الماضي) حين أصبحنا أكثر حرية في التنفس، جاء ماركيز إلى روسيا من أجل مهرجان سينمائي (كان ذلك في العام 1987). جاء بشرط أن يلتقي بغورباتشوف وأن يتحدث معه، ومن بعدها ذهب الكاتب إلى صالة سينما «اوكتوبر»، حيث كان سيتم العرض الما قبل الافتتاحي لفيلم تاركوفسكي «نوستالجيا».
يروي كاتب سيرته الروسي، سيرغي ماركوف، القصة التالية: «كان الفيلم قد بدأ. ولماركيز تلك العادة الدائمة: أن يصل متأخرا، كي يصفقوا له. بيد أنه شعر بالضياع في تلك اللحظة، فأحس بالانزعاج ورحل». كنت حاضرا ذاك العرض، إلا أني لم أشاهد ماركيز. بيد أني أعرف قصة خطابه الذي لم يلقه، من فم صديقي وأستاذي ألكسندر كايدانوفسكي.
أذكر بأني رأيت، وأنا خارج من صالة السينما، كايدانوفسكي وهو على درجات قاعة «اوكتوبر». كان يسير ذهابا وإيابا ويدخن بعصبية.
ـ هل حدث شيء ما؟ سألته
ـ هل تعرف، لقد رفض ماركيز بصراحة أن يتحدث وأن يقول ولو كلمة واحدة عن أندريه! عن تاركوفسكي! لقد أصبح، ماركيز هذا، بالنسبة إليّ، شخصا نتنا.
شتم كايدانوفسكي ماركيز ورحل. وبأي سخط! لقد رفض الكاتب الشهير أن يقول أي كلمة إيجابية حول أستاذ كايدانوفسكي، وهذا ما بدا له أمرا قاضيا.
الشيوعي
لكن، في الواقع، ما الذي كان يمكن لماركيز أن يقوله؟ كان رجلا ذا قناعات يسارية، وصديق الاتحاد السوفياتي، ومتسامحا تجاه ستالين، حتى أنه زار «المزار» (الضريح) الذي كان لا يزال «يرتاح» (يرقد) فيه هذا الأخير. كان مختلفا جدا. كان شيوعيا حقيقيا. ربما من نوع الشيوعيين الذين يمثلهم فيديل كاسترو الذي كان صديقه طيلة عمره. بينما كان تاركوفسكي يعتبر نجما معاديا للسوفيات، وماركيز، وهذا أمر بديهي، لم يكن يرغب في الحديث عنه.
وهنا تكمن المفارقة. كان كاتبا معترفا به في العالم. وحين تناقشت، قبل سنة، مع أحد الأصدقاء الذين يعملون في مجال الكتاب، قال لي بابتسامة: «هل تتخيل يا أوليغ، مستوى المكتبات اليوم في موسكو؟ أنظر مثلا في فهرست مكتبة الحي، لن تجد كتابا واحدا لماركيز! لكن وبخلاف ذلك، تجد في هذا الفهرست شخصا يدعى «غابرييل غارسيا، كاتب». ما سمعته كان غريبا ومزعجا. بيد أنه يمكن للأمر، أن لا يكون مهما جدا، في الواقع، معرفة كيف نسمي كاتبا، بل يكمن الأهم في أمر آخر، ومن بعيد: كيف قرأنا هذا الكاتب. لقد قرأنا ماركيز منذ أكثر من نصف قرن. وهذا زمن قصير جدا بالنسبة إلى الأدب الحقيقي! لكننا نعرف جيدا، أنه في اللحظة التي يُقرأ فيها الكتاب فإن «المدينة الشبح ستحمل من على وجه البسيطة، بإعصار، وستُمحى من ذاكرة الناس».
يضع الزمن نهاية الكائنات البشرية. لقد أغلق أيضا على حياة غابرييل غارسيا ماركيز، إلا أن كتبه بقيت مفتوحة. إنها تتحدث نيابة عن الكاتب، حتى أنها تتحدث عن مبدع «رواية الأرض» الذي غطس في صمت أبدي وحين أصبح جزءا من الأرض المغلقة.
وليام كينيدي: السوريالية تخرج من واقع أميركا اللاتينية
بلغني للتو نبأ موت الواقعية السحرية. لقد قام أبناء هذا النوع الأدبي الذي جعل الرواية اللاتينية الأميركية شعبية مثل المامبو (= نوع من الرقص السريع) باغتياله. هل فوتّ عليّ فرصة ذلك؟ هل علينا القيام بسهرة حول الموتى؟ أيعني ذلك أن غابرييل غارسيا ماركيز قد دخل إلى الجنة وهو يحمل بين ذراعيه روايته الكبيرة «مئة عام من العزلة» بالطريقة ذاتها، التي صعدت فيها بطلته ريميديوس الجميلة، إلى السماء وهي حاملة شراشف السرير؟
إن أشهر كاتب قام بجريمة قتل أبيه يدعى ألبرتو فوغيه. فهذا الكاتب الأميركاني الشيلي قام في العام 1996 بإبدال ماكوندو قرية غارسيا ماركيز الخيالية بمدينة ماك أوندو. وهو يعتقد أن الموضوع القديم حول هوية أميركا اللاتينية. من نحن؟ قد تخطاه الزمن. إذ إن الموضوع الراهن يكمن في السؤال التالي: من أنا؟ انه مخرج للملحمة الجماعية: فجيل ماك أوندو يناضل من أجل الواقع الوسخ ومن أجل موطئ قدم للأفراد.
الواقعية السحرية
بحسب علمي، ولدت عبارة «الواقعية السحرية» تحت ريشة أنخل فلوريس، الأستاذ في «جامعة كوينز كوليدج» في نيويورك. لقد استعملها للمرة الأولى في محاضرة ألقاها في نيويورك العام 1954. باختصار، كان يعتقد بأن الحركة هذه بدأت بالتشكل بعد الحرب العالمية الأولى، بفضل بعض الفنانين من أمثال الكاتب فرانز كافكا والرسام جورجيو دوكيريكو، اللذين تأثرا بمن سبقهم وكانا أيضا على درجة كبيرة من الشهرة والحضور كغوغول وإدغار ألن بو وهيرمان ملفيل وسترندبرغ. لقد أشار (فلوريس في محاضرته) إلى تأثير كافكا على بورخيس، كما يتبدى في قصته «قصة الجوع العالمي» التي صدرت العام 1935، وهي من حدد بداية هذا الاتجاه في أميركا اللاتينية: «لقد تحلق حول بورخيس، بصفته رائدا (...) مجموعة من الكتاب ذوي الأسلوب البراق (...) وقد اتجهوا صوب الواقعية السحرية». ورأى المحاضر في ذلك، التحول من المألوف واليومي إلى فضاء مدهش، غير واقعي متفتح بطريقة رائعة، ونتمنى لو استمر إلى الأبد.
في الستينيات، انفجر نتاج ورثة هذه الحركة الأدبية الأميركية اللاتينية، عبر روايات على قدر كبير من الجودة. لقد أفضى ذلك، لما أسميناه في ما بعد، القنبلة اللاتينية الأميركية. ومن بين هذه الكتب، نجد الروايات الخارقة للكاتب البيروفي ماريو بارغاس ليوسا والمكسيكي كارلوس فوينتس والكوبي خوسيه ليزاما ليما والشيلي خوسيه دونوسو الذي كتب، هو نفسه، كتابا حول هذا الموضوع. لقد وضعت هذه القنبلة الواقعية السحرية في المدار الفضائي.
في العام 1970، قمت بكتابة مراجعة نقدية لرواية «مئة عام من العزلة». كانت أول رواية من روايات هذه القنبلة ولم نكن بعد نستعمل هذه الكلمة التي أقرأها. أذكر أنني كتبت بالمناسبة التالي «انه أول عمل أدبي، منذ التكوين، يستحق أن تقرأه البشرية جمعاء». بعد سنتين ذهبت إلى برشلونة كي أجري مقابلة مع غارسيا ماركيز (الملقب بغابو). الذي كان لا يزال مجهولا في الولايات المتحدة بالرغم من شعبية كتابه المتصاعدة. من الظهر وحتى الثانية صباحا، تناقشنا في جميع المواضيع التي تستحق أن تعالج، وببساطة شديدة أصبحنا أصدقاء. لقد رفضت مجلتان أميركيتان كبيرتان المقابلة، حتى أن أحد رئيسي التحرير نصحني بالقول بأن «أدعه يصبح مشهورا قبل نشر المقابلة». على كل، قامت مجلة «أطلانتيك» بنشر مقالتي، معرّفة بذلك، غارسيا ماركيز، للقراء في الولايات المتحدة. خلال حديثنا، لم نشر أبدا إلى كلمة الواقعية السحرية، بل أشار غابو فقط إلى السوريالية قائلا: «في المكسيك، نجد السوريالية في الشارع. إن السوريالية تخرج رأسا من واقع أميركا اللاتينية».
وعلى غرار أعضاء جماعة ماك أوندو الذين يرفضون اليوم الواقعية السحرية، رغبت أنا أيضا، في روايتي الأولى التي صدرت العام 1969 (ومع الروايات اللاحقة)، أن أرفض بعض الذين سبقوني وكانوا في أغلبهم ينتمون إلى المذهب الطبيعي وهم من الكبار من مثل تيودور درايسر وجيمس. تي. فاريل وحتى جون دوس باسوس الذي هو بالنسبة إلي بطل حقيقي. كانوا جميعهم، لا يرون في الكائن إلا رهان القوى الاجتماعية العدوانية الذي لا يمكن تجنبه. اليوم، يحاول كتاب ماك أوندو أن يتمايزوا بدورهم عن هذا النوع، فكما يقول فوغيه إن الكتيبة التي حاولت تقليد ذلك النوع «حولت الكتاب إلى بائعي حكايات خرافية». إن صرخة حربه تكمن في أن «ليس لأميركا اللاتينية أي شيء ساحر». في الواقع لم تكن «مئة عام من العزلة» ساحرة. لقد كانت رواية متفردة، كما أعمال كافكا، معلم «الاستشباح» الكبير، وكما همنغواي، شاعر الاقتضاب الكبير وكما جويس العبقري اللغوي الذين قلّدوا كلهم لدرجة أنهم أصبحوا ضحايا سرقة صافية وبسيطة في السلّم الكوني. بفضلهم، استطعنا أن نقترب من الواقع بطريقة جديدة. وعندما استعملوا أساليبهم، قام حشد المقلدين باختيار أقصر الطرق إلى القراءة. بيد أن أعضاء ماك أوندو لا يرغبون البتة في إيجاد الخيوط إلى ماك أوندو. حسن. من هنا، هل علينا أن نستنتج بأن الواقعية السحرية نفسها ليست خالدة؟ بأنها ماتت؟ حين أجريت المقابلة مع غابو، تحدثنا عن موت الرواية. ختم حديثه بالقول: «عندما نقول بأن الرواية ماتت، فهذا لا يعني أنها هي التي ماتت وإنما أنت».. إذا، عندما يصر أحدهم على القول بأن الواقعية السحرية ماتت، هل علينا أن نشاهد إشارة عن ذلك؟ ربما. برأيي، إن أصر كتاب ماك أوندو مطولا على هذه النقطة، عليهم ولمصلحتهم أن يراقبوا نبضاتهم.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد