غسان الرفاعي: «نتف الريش» وصراع الحضارات
ـ 1 ـ قصتان واخزتان مستوردتان من أوروبا الشرقية، في زمن السطوة السوفييتية، سربهما «المنشقون العصاة» الى الخارج في محاولة للتنفيس عن اختناقهم، وقد تلقفهما اليسار الأوروبي، وروج لهما بشماتة، والمفاجأة ان اليسار الفرنسي الذي يعاني من التشرذم والمشاجرات والاحباط، شهرهما في وجه حكم «ساركوزي» البونابرتي، خصوصاً قبل اسبوع من الانتخابات الأوروبية التي يثار الكثير من الضجيج حولها.
وتروي القصة الأولى ان ستالين «العظيم»، حينما شعر بوطأة الشيخوخة، ودنو أجله استدعى بولغاتين ومالينكوف اللذين كانا أقرب الناس إليه، وحينما مثلا بين يديه، صفق فأحضر له مرافقه قفصا فيه عصفوران فتح القفص وأخرج عصفوراً وطلب من بولغاتين أن يمسكه، ففعل وهو لا يخفي خوفه، وكعادته قبض على العصفور بقسوة، وأخذ يضغط عليه بأصابعه السمينة الى ان لفظ أنفاسه فألقاه أرضا جثة هامدة. نظر اليه ستالين بغضب، ولم يقل شيئاً. فتح القفص ثانية، وأخرج العصفور الثاني وطلب من مالينكوف أن يمسك به، ولكنه لم يشأ أن يرتكب حماقة كالتي ارتكبها بولغاتين فأمسك بالعصفور برفق، وأخذ يداعبه، فاغتنم العصفور هذا اللطف وصفق بجناحيه وطار. نظر ستالين اليه بغضب ولم يقل شيئا، وطلب من مرافقه ان يجلب له عصفوراً ثالثاً، أمسك به من قدميه الصغيرتين، وتوجه الى بولغاتين ومالينكوف قائلاً:
ـ انظرا جيداً!
وأخذ «ينتف» ريش العصفور، ريشة إثر ريشة، الى ان جعله عارياً، والعصفور يزقزق من الألم، ويتلوى، ولما فرغ من النتف قال:
العصفور الآن بحاجة الى دفء يدي لحمايته، وهو لن ينسى معروفي أبدا.
وفهم بولغاتين ومالينكوف مغزى ما فعله ستالين، انهما مطالبان بنتف ريش المتمردين والعصاة الى ان يستكينوا، ويطالبوا بالحماية والدفء من السلطة.
ـ 2 ـ
اما القصة الثانية فقد كثر تداولها في السنوات 1950 ـ 1960، وتروي قصة معلم في احدى المدارس، حينما بدأ بشرح مفهوم الانسانية، رفع أحد التلاميذ يده، وسأل:
ـ عفوا، استاذ، ما الانسانية؟.
ـ ألا تعرف حقا ما الانسانية؟
ـ كلا
وبدأ المعلم يفكر، بعض الوقت، ثم أجاب:
هذه هي الانسانية: استيقظ ستالين، في صباح يوم مشرق، وذهب الى ينبوع، غير بعيد عن منزله، وأخذ معه صابونة وآلة حلاقة ومرآة، وجلس على حافة الينبوع، وبدأ بحلاقة لحيته، وفجأة اقتربت منه فتاة صغيرة، واخذت تراقبه بامعان، وحينما فرغ من حلاقة لحيته سألته:
ـ ماذا تفعل؟
أجاب «ستالين»: إنني أحلق لحيتي!
وقال المعلم: هذه هي الإنسانية، ثم سكت تاركاً التلاميذ في حالة من الدهشة والحيرة، وتجرأ أحد التلاميذ، وسأل المعلم:
ـ ولكن ما العلاقة بين ما رويته والإنسانية؟
أجاب المعلم غاضباً:
ـ ما العلاقة يا أغبياء؟ ألم تلاحظوا أن «ستالين» كان يمسك بموس حلاقة، وكان بوسعه أن يذبح الفتاة الصغيرة، ولكنه لم يفعل!
ـ 3 ـ
مدهش هذا التحول المريب: كانت القصتان تستخدمان كسلاح لإظهار فاشية النظام الاستبدادي الشمولي، وهما، اليوم، تستخدمان لإظهار فسق ولا أخلاقية النظم الليبرالية. كيف نفسر هذا النص لـ«فرانسوا بايرو» النجم الصاعد في التحرك الشعبي ضد امبراطورية «ساركوزي» البونابرتية: «ساركوزي»، هذا المتسلط، الذي ينتف شعبنا ببراعة، ثم يرغمنا على أن نطلب حمايته ورعايته!. أو هذا النص لـ«مارتين أوبري»، الأمينة الجديدة للحزب الاشتراكي الفرنسي («ساركوزي» يمسك بالخنجر، ويتفاخر بأنه لن يستخدمه للطعن...!) ثم هذا العنوان الذي التهم الصفحة الأولى في صحيفة الليبراسيون اليسارية: (ربيع «ماركس» دون خناجر أو قنابل، والليبرالية تستعد لحفر قبرها...) ثم هذا الشرح: (بعد عشرين عاماً من سقوط جدار برلين تعود الماركسية، بعد ترنح الرأسمالية، بلا مخالب ولا معسكرات اعتقال...!).
ـ 4 ـ
غير أن خبراء الشرق المعتمدين يتحدثون عن «شبح مرعب» يهدد الحضارة الغربية، وإذا كان «ماركس» قد حمل السكين بين أنيابه، وأسقط الكثير من الأنظمة، فإن الخبراء يسهبون اليوم في وصف «الأصولي الإسلامي» الذي يحمل الخنجر الأخضر بين أنيابه. وهؤلاء يزعمون أن كل ما جرى منذ 11 أيلول 2001 إنما هو استمرار للمجابهة بين الشرق والغرب، وتكريس لحرب دينية قديمة ولدت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ولم تعرف حتى الآن وقف إطلاق النار.
يكتب «برنار لويس» في كتابه «المعتمد» الآن في الغرب: «هذا الحشد من الرجال ذوي اللحى، وهم يرددون بلا انقطاع: الله أكبر، الله أكبر» هؤلاء المنحدرون من الجبال والذين يلقون بأنفسهم علينا وهم يتمنطقون بالقنابل، هؤلاء يذكروننا بالأندلس، و«طارق بن زياد»، و14 قرناً من الصراع الدموي بين الشرق والغرب. ويرى «برنارد لويس» ان «الخلل» الذي يشكو منه العالم العربي الإسلامي لا يقتصر على التخلف، ولكنه يتجلى في الشعور بأنه قد تم تجاوز الحضارة الإسلامية، منذ ثلاثة قرون، وأن الحضارة المسيحية قد تفوقت عليها، وأثبتت عجز تقاليدها وطروحاتها عن استيعاب التقدم والتطور، وإنها، عوضاً عن استحداث أساليب جديدة تكون في مستوى طموحاتها، تفضل أن تربط مصيرها بعصرها الذهبي القديم، وأن تتهم الغرب بأنه سبب تخلفها وضعفها، وقد يبدو أن «الانغلاق» الحضاري المتغطرس من سمات العولمة الغربية الحديثة، وليس من افرازات «الاستنقاع الشرقي» الذي يفضل الحجاب على الانفتاح.
ـ 5 ـ
لابد من التذكير بأن أهم مفكر سياسي أميركي طرح الفكرة «صراع الحضارات» هو «صموئيل هنتيكتون»، مستشار الرئيس السابق «كارتر»، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، ومؤسس مجلة «فورين افيرز»، وقد أصدر كتاباً أكثر أهمية من صراع الحضارات بعنوان «من نحن؟» ويتهم فيه النخبة الأميركية المتعولمة التي تحكم البيت الأبيض بأنها تنكرت للقيم الأنكلو سكسونية، وانه مازال متعصباً لليبرالية ويجسد منطلقات «الأكثرية البيضاء» المتمركزة في مدينة بوسطن في وجه «انحطاط الغرب» وتلوثه بالحضارات الأخرى التي تحاصره، وتسعى الى تخليه عن أصالته وصفاته.
ويرى هذا المفكر الأميركي أن هناك مجابهة على امتداد الكرة الأرضية بين الغرب ومجموعات صغيرة من الإسلاميين المنظمين على شكل خلايا، وهذه المجموعات تضرب بشكل منهجي ومنظم المصالح الغربية في كل مكان، وهي مزروعة داخل البلدان الغربية «كطابور خامس» تعمل على التخريب من الداخل.
وفي قناعة هذا المفكر المؤمن بالقيم الغربية، وبضرورة الدفاع عنها ونشرها في كل مكان، والملتزم بالواقعية، إذ لم يعد الغرب يسيطر سيطرة كاملة على العالم، كما كان يفعل عشية الحرب العالمية الأولى والحضارة الإسلامية تشكل اليوم كتلة ايديولوجية قادرة على إرغام الغرب على التخلي عن كل مشروع يدعو الى عولمة حضارته، يكتب في كتابه «من نحن»: علينا أن نعترف ان حضارات عظيمة كالحضارة الصينية، والحضارة العربية الإسلامية، تزدهر دون أن تقاسمنا قيمنا، وتتطور وتتفولذ بتسارع خاص بها، لا علاقة لها بتوجهنا ولا بمصالحنا. إن محاولة فرض التغيير عليها أمر غير مرغوب فيه، ولا مطلوب، ولا هو بالأمر الممكن، ثم إن هامش الحركة عندنا، وحماية مصالحنا يفرضان علينا أن نراهن على تطور النخب في هذه البلدان لا على مدفعيتنا وطائراتنا وصواريخنا...».
ـ 6 ـ
على أن «برونو اتين» الخبير في شؤون الشرق يؤكد ان المجابهة بين الارهاب المتطرف والعولمة المتغطرسة لا علاقة لها بعالم «صلاح الدين» و«ريتشارد» قلب الأسد، وان الإسلام الحديث يستهدف الأنظمة الفاسدة في العالمين العربي والإسلامي أكثر من استهدافه العولمة الغربية، وان عدد ضحايا الارهاب من المسلمين يفوق عدد ضحاياه في الغرب، وان 90% من المهاجرين في فرنسا هم «اندماجيون، ومتأوربون» وهذا ينطبق على أتراك ألمانيا، وباكستانيي بريطانيا.
ويعترف «برونو اتين» ان الإسلام هو «دين أوروبي» تغلغل في اسبانيا، واستوعب 15 مليون مسلم من البلقان، وهذا معناه أن الإسلام لا يمثل «الآخر» ولا «الفكر المعادي» وإنما هو جزء لا يتجزأ من الثقافة الغربية.
ـ 7 ـ
المعركة مستمرة، والمواجهة قائمة: حينما نشر شاعرنا الكبير نزار قباني قصيدته «المارقة» التي سماها «المهرولون» واستهلها بـ«سقطت آخر جدران الحياء، وفرحنا ورقصنا، وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء، ولم يعد يرعبنا شيء، ولا يخجلنا شيء، وقد يبست فينا عروق الكبرياء» أتت الدعوة الى تأديب هذا الشاعر من منبر صحيفة مهاجرة، كتب محررها الثقافي: المشكلة مع هذا الشاعر أنه يعيش دوماً في وحل السياسة، إنه لم يلحظ أن الدنيا قد تغيرت وان الذين حملوه على الأكتاف أمس، سيدوسونه بالأرجل اليوم، إذا عاد يطرح الشعارات نفسها التي خربت جيلاً بكامله، ولم تحقق غير النكسات المتتالية.
ـ 8 ـ
يحق لنا أن نفاخر بأننا كنا صادقين مع أنفسنا، ومع الحقيقة، ومع الإنسان العربي، لا يثقل علينا أننا دفعنا ضرائب باهظة، وقد ندفع ضرائب أكثر فداحة، ولكن شعورنا بأننا مستمرون، سيحمل لنا الكثير من السعادة والفرح الحقيقي.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد