فتح تنهي شرعية الثورة وترسّخ شرعية السلطة
أنجزت حركة فتح عقد مؤتمرها العام السادس في ظروف بالغة الصعوبة من الوجهتين التنظيمية والسياسية. ورغم كل ما يمكن أن يقال في المؤتمر، فإن مجرد انعقاده حسم الكثير من قضايا الخلاف في فتح. كما ان انعقاده عنى انتهاء شرعية وبدء أخرى. ورغم أن هناك من سيعترض على الشرعية الجديدة، لكنه سيصطدم، على الأقل في فتح، بواقع أنه لا يمتلك حتى شرعية الاعتراض.
ففتح قبل المؤتمر كانت السلطة والثورة وما بينهما، وفتح المؤتمر وما بعده اضطرت للاختيار بينهما. لم يعد بوسع فتح بعد مؤتمر بيت لحم أن تقف على ساقي السلطة والثورة وصار لزاما عليها أن تختار إحداهما، وانحازت إلى السلطة. ربما لم يكن لديها خيار آخر؛ فالمشروع الوطني الفلسطيني كان قد انزلق إلى هذا الموقع منذ ما قبل اتفاقيات أوسلو ولكنه تخندق هناك عبر هذه الاتفاقيات. ولهذا السبب دار النقاش حول السلطة رغم أن البعض حاول تغليف النقاش بحديث عن الثورة.
وبديهي أن العنوان كان الرئيس محمود عباس وخطابه في المؤتمر. ويمكن القول أن خطاب أبو مازن كان في مفرداته من الألف إلى الياء خطاب السلطة. وعندما انتخب المؤتمرون الرئيس عباس بالإجماع وبالتزكية وضعوا أنفسهم تحت عباءته، ربما إدراكا منهم جميعا، بأن الخيار الآخر انتحاري. وهكذا، عدا خلافات في الهوامش، لم تكن هناك نقاشات سياسية لا عاصفة ولا هادئة. كان المؤتمر، بانعقاده، ومكانه، وتشكيلته، إقرارا بواقع سياسي غلب على فتح قبل عقد المؤتمر بكثير. قد يعود البعض إلى عودة فتح إلى الرئيس عباس مع اقتراب غياب الشهيد ياسر عرفات رغم أن كثيرين منهم كانوا قد وصفوه بـ«قرضاي فلسطين».
من هذه الناحية، ومن دون وثائق وخطابات، كان مؤتمر فتح سياسيا بامتياز. وقد عنى تغيير الوجهة وفك الاشتباك بين الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية. والأهم أن المؤتمر كرس، بالسياسة العملية، غياب السياسة النظرية. ورغم الحديث هنا وهناك عن برنامج سياسي،
فإن المؤتمر لم يقر أية برامج. والحقيقة أنه لا فارق جديا بين إقرار برامج سرعان ما توضع في الأدراج وعدم إشغال النفس حتى بمناقشة برامج كهذه. ففي النهاية، لا معنى لها طالما أنها لا تناقش من أجل أن تقر ولا تقر من أجل أن تنفذ.
وهنا يأتي بيت القصيد. كان برنامج مؤتمر فتح الحقيقي نقطة واحدة: الانتخابات. انتخاب الرئيس وانتخاب اللجنة المركزية والمجلس الثوري. والواقع أن هذا ليس بالأمر الهين. فالرئيس عباس وصل إلى الحكم من باب شرعية السلطة وعبر تشكيك فتحاوي لا يستهان به. أما اللجنة المركزية لفتح ومجلسها الثوري، فكانا أقرب إلى الهلامية من أي شيء آخر. وكان عصر النقاشات في اللجنة المركزية والمجلس الثوري لفتح قد ولى بعدما اختصرت فتح في الزعيم.
ويمكن القول أن فتح بأشكال جديدة تعاود اختصار نفسها بالزعيم في ظروف أصعب. فالقضية اليوم صارت السلطة والوسيلة هي الشرعية الدولية وإذا كان لا بد من المقاومة فهي «المشروعة» و«الشعبية» بأنماط تظاهرات بلعين. والجميع يذكر رفض الزعيم حتى لفكرة إلقاء الحجارة على العدو. ولكن الزعيم نال شرعيته هذه المرة وبالإجماع، بل أنه أضفى شرعية على قسم من القيادة الجديدة إن لم يكن على أغلب أو كل هذه القيادة.
وتكفي نظرة واحدة إلى نتائج انتخابات اللجنة المركزية لحركة فتح لإظهار عدد من الملاحظات. صحيح أن نسبة التغيير كانت كبيرة جدا في وجوه أعضاء هذه اللجنة وهو أمر انطوى على بعض المفاجأة. فمن بين 18 عضوا، تم إبقاء أربعة فقط هم أبو ماهر غنيم وسليم الزعنون ونبيل شعث وعباس زكي. وحل 14 عضوا جديدا في عضوية اللجنة المركزية ولكن التغيير في الواقع لم يأت سوى بأسماء قليلة جدا كانت بعيدة عن التأثير الفعلي.
وقد بدا واضحا أن شخصيات أمنية مركزية أدت أدوارا بالغة الأهمية في السلطة (ثلاثة من قادة الأجهزة الأمنية جبريل الرجوب، توفيق الطيراوي، محمد دحلان) فازت. كما أن شخصيات ذات صلة سابقة أو لاحقة بمؤسسة المقاومة مثل محمود العالول (الذي غدا محافظ نابلس قبل أن يصير وزيرا) واللواء عثمان أبو غربية (رئيس مؤتمر القدس) والأسير مروان البرغوثي. وهناك شخصيات كانت بارزة على الصعيدين الإعلامي أو المصلحي بفعل موقعها السياسي مثل ناصر القدوة وعزام الأحمد وحسين الشيخ وجمال محيسن ومحمد اشتية.
ويمكن القول أن انتخابات اللجنة المركزية لفتح نقلت مركز الثقل القيادي بشكل نهائي إلى الأرض المحتلة. وتكفي هنا الإشارة إلى أن الوحيد بين فلسطينيي الشتات الذي نال عضوية اللجنة المركزية هو اللواء سلطان أبو العينين من لبنان ومعلوم مقدار حساسية هذه الساحة.
ومهما قيل عن مؤتمر فتح السادس، فان المؤكد أنه يشكل نقطة مفصلية في حياة هذه الحركة وحياة الشعب الفلسطيني وقضيته. ولكن يصعب القول أن المؤتمر شكل انطلاقة جديدة. فهو في أحسن الأحوال تصريح لمن قاد مسيرة فتح السياسية والتنظيمية في السنوات القليلة الماضية بمواصلة قيادتها. ولعل وصول بعض الوجوه الجديدة سيخلق حيوية في النقاش داخل قيادة فتح لكن هذه الحيوية كانت قائمة في السلطة.
وفتح اليوم تماهت أكثر من أي وقت مضى مع السلطة. ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الانقلاب على جزء كبير من القيادة السابقة يحمل في طياته إنذارا للقيادة الجديدة بضرورة إدراك أن تغييرا يمكن أن يحدث ولو بعد حين. ولعل خسارة أحمد قريع (أبو العلاء) تعني أكثر من أي شيء آخر أن الاتهامات له بالفساد وجدت لها ترجمة ولو متأخرة بعقاب انتخابي.
يصعب القول أن القيادة الجديدة شابة إلا بالمعنى السوفياتي. فمتوسط أعمار القيادة الجديدة يزيد بالتأكيد عن الستين عاما. السؤال الأهم الذي سوف يبرز ليس ما هو أثر هذا المؤتمر على منظمة التحرير وإنما ما هو أثره على فتح الخارج والتي هي الأخرى فلسطين.
عباس يعزز موقعه بحركيين جـدد
وبلغة النتائج، عزز الرئيس الفلسطيني موقعه في حركة فتح مع استبعاد ما يعرف بـ«الحرس القديم» من قيادة الحركة، بعدما أظهرت نتائج الانتخابات لعضوية اللجنة المركزية فوز 14 عضواً من الجدد ومن جيل الشباب وذلك من أصل 18 عضواً جرى انتخابهم في ختام المؤتمر السادس.
ومن أبرز الوجوه الجديدة التي دخلت اللجنة المركزية النائب الأسير مروان البرغوثي (1061 صوتاً)، ورجل فتح القوي في غزة سابقاً محمد دحلان (853 صوتاً)، والرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية جبريل الرجوب (908 أصوات)، ورئيس مؤسسة ياسر عرفات ناصر القدوة (964 صوتاً)، ورئيس الكلية الأمنية في أريحا توفيق الطيراوي، ورئيس المؤتمر السادس عثمان أبو غربية (854 صوتاً)، ونائب مفوض التعبئة والتنظيم في الضفة محمد المدني (811 صوتاً)، وأمين سر حركة فتح في لبنان سلطان أبو العينين (752 صوتاً)، وجمال محيسن (733 صوتا)، وحسين الشيخ (726 صوتا)، ورئيس كتلة فتح البرلمانية عزام الأحمد (690 صوتا)، ووزير الإسكان والأشغال العامة محمد اشتيه (638 صوتا).
كما انتخب عضوا في اللجنة المركزية كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات (863 صوتاً)، فيما اعتبر مفوض التعبئة والتنظيم احمد قريع والأمين العام للسلطة الفلسطينية الطيب عبد الرحيم والسيدة انتصار الوزير من أبرز الخاسرين.
ومن «الحرس القديم» فاز كل من محمد غنيم (أبو ماهر) بـ1367 صوتاً، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون (920 صوتاً)، ونبيل شعث (644 صوتاً)، وعباس زكي (641 صوتاً).
في غضون ذلك، أكدت حركة حماس أنها ستحدد علاقتها مع القيادة الجديدة لفتح من خلال الحكم على سياستها وتصرفاتها العملية، معتبرة أن فتح أمام اختبار حقيقي حول مدى التزامها بالثوابت والمقاومة. وقال المتحدث باسم حماس فوزي برهوم «سنحكم عليها من خلال سياستها وتصرفاتها وممارساتها العملية». وأضاف «نحن نريد فتح حركة قوية ومتينة بعدما دمرت هذه الحركة وقوضت من خلال من تناوبوا عليها»، داعياً قادة الحركة إلى «الاستفادة من أخطاء الماضي وعدم الانزلاق في المنزلقات الخطيرة السابقة».
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد