فواز طرابلسي: شارون راحل والجمل باقٍ

25-08-2006

فواز طرابلسي: شارون راحل والجمل باقٍ

نُشرت هذه الصورة (الأسوشييتد بريس) في صحيفة <الانترناشيونال هيرالد تريبيون> يوم 30 تشرين الثاني .2005 والمناسبة قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ارييل شارون بجولة على الحدود الإسرائيلية المصرية. خلال الزيارة، التي رافقه فيها مسؤولون كبار في وزارة الدفاع، أعلن شارون <الدرجة صفر> من التسامح مع التهريب، مشدّداً على أن المهمة ليست قمع التهريب وإنما القضاء عليه نهائياً.
الخبر، على أهميته، لا يفسر الصورة. قد يُقال: إن الجمل عابر للحدود وإنه خير من يمثل التهريب! لكن هذا لا يكفي تفسيراً كاملاً للاهتمام الخاص الذي يبديه كبار المسؤولين الاسرائيليين المتحلقين حول الجمل وفي مقدّمهم رئيس الوزراء.
لاحظ توزع الاشخاص حول الحيوان. العسكريان الى يسار الصورة لا يبدو أن الأمر يعنيهما كثيراً. وأحدهما خافض الطرف والثاني لا تستطيع ان تميز اتجاه نظرته بسبب النظارة العاكسة للنور على عينيه. إلى جانبهما يقف رجلان مدنيان يبتسمان. واحدهما يرمق الجمل بنظرة والثاني منهما يعاينان الجمل بشيء من الجدية. فيما ترتسم على وجه الرجل الأصلع الذي يتوسط الصورة بداية ابتسامة. وحده عنصر الحماية الثالث ذو النظارة العاكسة للنور يرى باتجاه اليمين. إنه الوحيد الذي يأخذ دوره الأمني الحمائي على محمل الجد. لأن الأولين أحرى بهما، بدلاً من التفرج على الحيوان، التحديق كل في اتجاه مختلف للإحاطة بكافة الاتجاهات التي قد يتأتى منها الخطر على المحمي. لو كنت محل مسؤولهما وشاهدت الصورة لأحلتهما على التأديب.
اما مقدّم الصورة فيحتله شارون والجمل. ولا عجب ان يحتل الجمل ثلاثة ارباع الصورة. فالكل يعاينه بطريقة أو بأخرى. بل ان الكل موجود قياساً اليه. والجمل المدرك انه محطّ كل هذا الاهتمام كأنه لا يبالي. الكل يعاينه. وهو يشيح بنظره عنهم جميعاً. يجانبهم. يتطلع أمامه وعلى شفته طرف ابتسامة تشي بشيء من السخرية.
الجمل، بالعبرية <غهمل>، هو سفينة الصحراء والحيوان الذي أعدّته الطبيعة على نحو مدهش للبيئة الصحراوية فجهزته لتحمّل الحر والحمل والسير على الرمال واتقاء العواصف الرملية. له رموش سميكة لحماية عينيه من الرمل. وقوائم مستدقة طويلة لوقاية سائر جسمه من لفح الحر. وهو كثيف الصوف والجلد ايضاً لحمايته من الحر. وهذا ما يمنعه من التعرّق السريع، علماً انه يقاوم التعرق اصلاً، وله طاقة استثنائية على تحمل التغيرات في حرارة الجسم. يتحمل خسارة 40 في المئة من ماء جسمه ويبقى على قيد الحياة، فيما سائر الحيوانات تموت بعد خسارتها أكثر من 20 بالمئة من مائها. يخزّن الماء في دمه، لا في حدبته المميزة كما هو شائع، فهذه مستودع للانسجة الدهنية. ويستطيع الجمل ان يعيش من دون ماء لأسبوعين ومن دون كلأ لشهر كامل! يقطع الجمل مسافة 80 الى 120 ميلاً في اليوم وهو مركوب، او 40 ميلاً وهو حامل حمولة تصل الى مئتي كيلو غرام. ويعمّر الجمل بين ثلاثين وأربعين سنة.
شارون، الذي هو عند حدود الثمانين، يقال عنه أيضاً ان <جلده سميك>، لأنه لا يأبه أحبه الناس أم كرهوه، إسرائيليين أكانوا ام أجانب. ولكن على سماكة جلده، لا يستطيع شارون ان يتحمل ان يعيش من دون ماء لأسبوعين او من دون طعام لشهر كامل، حتى على سبيل الحمية لتخفيض الوزن. ومعلوم ان <أريك>، وهو اسم الدلع للرجل، يشكو السمنة الفائقة. ومع ذلك، فإن انحف جمل يزن ضعفي وزنه اقلاً. والحقيقة أن شارون لا يقارن بالجمل. بل عادة ما يقارن بالجرافة لطاقته على الاقتحام والمبادرة بل المبادهة وجر الناس وراءه.
للجمل 160 اسماً بالعربية. عدا عن اسمه بالعِبرية (وهو اسم نبتة) نعرف لشارون إسماً آخر على الأقل: شارون (خارون) هو اسم المراكبي الذي ينقل اوراح البشر عبر أنهر الجحيم في الميثلوجيا الاغريقية.
والحال إن هذا العسكري تولى نقل أعداد كبيرة من البشر الى الدنيا الآخرة. بدأ حياته قائداً للوحدة 101 المشهود لها بالأعمال الانتقامية ضد العرب. وقد سجلت على اسمه مجازر مشهودة في قبية وناحلين والشاجية وصبرا وشاتيلا وصولاً الى قصبة ابلس وجنين وسواها. وهو قائد حركة الالتفاف الشهيرة التي أنقذت إسرائيل من الهزيمة المحققة في حرب تشرين .1973 وشارون بطل اجتياح لبنان، صيف ,1982 حاول قتل ياسر عرفات خلال حصار بيروت بشتى الوسائل، من دس السم في الأكل الى القنابل الفراغية ومحاولات الاصطياد بالطائرات. فلم يفلح. وعاد فحاصره في <المقاطعة> برام الله، حتى نجح اخيراً في اغتياله بالموت البطيء.
والسؤال: لماذا يبدو هذا الصنديد مهموماً الى هذا الحد في إزاء الجمل؟ كأنه يتساءل: كيف التخلص من الجمل؟ وكأن الجمل يبتسم، لأنه يعرف ما يدور في خلد شارون. فالجمل خطير، لأنه يتذكر كل شيء. مشكلة الجمل أنه لا ينسى. والجمل خطير لأنه يتحمل كثيراً ويصبر. ولكن اخطر ما في الجمل انه ينتفض أخيراً ولا يرحم عندما يثور.
بعد أقل من شهرين على التقاط هذه الصورة، في مطلع كانون الاول ,2005 أُصيب شارون بجلطة دماغية فاجأت أطباءه الذين لا يعرفون عنه من أمراض الا الوزن الثقيل. وفي الرابع من كانون الثاني/ يناير 2006 ضربته جلطة ثانية أغرقته في غيبوبة لا يزال فيها حتى كتابة هذه السطور.
بدأت كتابة هذا التعليق يوم السابع والعشرين من كانون الثاني 2006 وشارون في الغيبوبة. وفي الرابع والعشرين من تموز 2006 صرّحت الناطقة باسم مستشفى تل هاشومير في تل أبيب بأن صحة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ارييل شارون، <شهدت تدهوراً في اليومين الأخيرين>.
في ذلك اليوم، أسفرت معركة بنت جبيل عن تدمير خمس دبابات ميركافا من الجيل الرابع، وقتل اربعة جنود للعدو وإسقاط مروحية اباتشي وقتل اثنين من طياريها. وهدّد حالوتس بتدمير عشر بنايات في ضاحية بيروت الجنوبية مقابل كل صاروخ يقع على حيفا. وكان كوفي أنان لا يزال يعد بوقف لاطلاق النار. وكونداليسا رايس تنهي زيارتها لبيروت.
في هذا الثلاثين من تموز قال لي صحفي اوسترالي من اصل ايرلندي: شارون وبوش يملكان الساعات. أنتم العرب تملكون الوقت. أجبت مستدركاً: صحيح. عندنا ما يلزم من الوقت. هذا لا يفيد كثيراً لأغراض التنمية والتقدم. لكن الوقت نقطة قوتنا الكبرى في المعارك الوطنية والقومية، هذا إذا أحسنا استخدام عنصر الوقت.
يوم الاثنين في 14 آب .2006 أوقف الجيش الاسرائيلي اطلاق النار وباشر انسحابه من الجنوب اللبناني. وفي اليوم ذاته، أعلنت الاذاعة الاسرائيلية أن صحة شارون قد تدهورت من جديد. ووصفت صحيفة <معاريف> حالة ايهود اولمرت على إثر صدمة الهزيمة في لبنان بصرخة معبرة: <شارون استيقظ! اولمرت في غيبوبة>.
لم يستيقظ شارون. ومن أسف انه لم يسمع اولمرت يخبره بأن <الجيش الذي لا يقهر> لم يفلح في التخلص من الجمل بعد 33 يوماً من القتال.
شارون راحل والجمل باقٍ. ومعه الوقت كله.

فواز طرابلسي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...