فيــدور دسْتَييفســكي يُحاكِــم الإيديولوجيــا باســم المســيح
قبل أيام (في 11/11/2011) انطلقت في عدة مدن روسية فعاليات ونشاطات ثقافية وعليمة بمناسبة الذكرى التسعين بعد المئة لميلاد الكاتب الروسي العملاق فيدور دستييفسكي (1821 1881) صاحب الروايات الفلسفية الذائعة الصيت والتي تُرجمت إلى معظم لغات العالم. ففي مدينة نوفغورد التي أمضى فيها الكاتب شطراً مهماً من حياته تم افتتاح الدورة الخامسة عشرة من المهرجان المسرحي الدولي بمشاركة أدباء ومفكرين من مختلف أنحاء العالم.
ثمة تصريح شهير لصاحب نظرية النسبية ألبرت أينشتاين يقول فيه: لقد قدَّم لي دستييفسكي أكثر من أي فيلسوف أو مفكّر آخر, أكثر مما قدّمه لي هاوس (كارل فريدريخ)1. وهذا لا يتطلب مني أنْ أقوم بتحليل أدبي أو أن أجري بعض التحليلات السيكولوجية الدقيقة - فالأمر سواء لأن جميع مثل هذه الأبحاث لن تتمكن من النفوذ إلى لبِّ ذلك الإبداع الموجود في رواية «الإخوة كارامازوف».
يعتبر فيدور ميخايلوفيتش دستييفسكي قامة باسقة في الأدب الروسي لم يتمكن أحد بلوغ ذراها. ويجوز القول انه أحد أعظم الكتَاب «المسيحيين» في العالم, دون أن تخطر على بال أي كان فكرة تصنيف إبداعه على أنه أدب ديني. وهذا الجانب لا يقلل بل على العكس يزيد من أهمية الكاتب: فالإبداع الديني يكون دائماً ضيق الأفق بهذه الدرجة أو تلك. ذلك أن سمة التدين والوعظ تؤدي خدمة سيئة للكثير من الكتاب «المسيحيين». بينما نجد أن روايات دستييفسكي, البعيدة كل البعد عن تلك السمة, تعكس وجهة نظر التعاليم المسيحية بصورة كاملة. ونحن لا نعتبر العمل الأدبي «مسيحياً» لمجرد أن مضمونه يحمل طابعاً دينياً, بل حين تنعكس فيه روح المسيح بشكل حقيقي.
مما لا شك فيه أن دستييفسكي قد سبق زمانه: فالقراءة المعمقة, الصحيحة لأعماله، إنما هي من نصيب القرن العشرين (وربما الحادي والعشرين أيضاً). في حين أن موقف الكتّاب المعاصرين له كان سلبياً تجاه إبداعه. وأكبر مثال على ذلك هو رد الفعل على صدور روايته «الشياطين» الذي يتلخص فحواه في إعلان دستييفسكي كاتباً رجعياً. بينما ينظر النقاد اليوم إلى رواية «الشياطين» باعتبارها راهنة جداً وعصرية جداً.
بصراحة, لم يكن دستييفسكي يحظى بالمودة وبالإعجاب في عالم المحترفين في مجال الأدب لا في أيامه ولا في وقت لاحق, مع أنه كان, على الأرجح, أكثر كاتب مقروء في القرن التاسع عشر. أما في الحقبة السوفياتية فقد كان دستييفسكي «كاتباً كلاسيكياً غير مريح»: لم يجدوا مكاناً له في اللوحة الرسمية للإيديولوجية السوفياتية, بعكس تولستوي مثلاً الذي استطاعوا حجز مكان له فيها بدون أية صعوبة. وبالمناسبة, لقد تم منع رواية «الشياطين» اعتباراً من منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.
وإذا كان عدم قبول دستييفسكي لأسباب إيديولوجية أمراً يمكن تبريره وفهمه, فنحن سنلقي الضوء هنا على المبررات الفنية لعدم القبول إياه.
ثمة من يحاول أن يضع دستييفسكي بمواجهة كتاب آخرين من أمثال تولستوي وتشيخوف. فيعتبرون أن واقعية دستييفسكي ليست حقيقية, لأنه يصور أبطالاً «لا وجود لأمثالهم في الواقع». أي إن أبطال دستييفسكي هم عبارة عن شخصيات مبالغ فيها و«استثنائية». ولذلك فهم يميلون إلى قصص تشيخوف المكتوبة بلغة شديدة الوضوح والواقعية.
إن مثل هذه المناقشات هي أكثر ما تصدر, على الأغلب, عن محترفي مهنة الأدب بالتحديد. في حين أن القارئ العادي لا تظهر لديه مثل هذه المزاعم والادعاءات. خصوصاً أنها غير منطقية. والحقيقة هي أن تشيخوف عبقري بالضبط في تصوير «ما هو عادي». بينما واقعية دستييفسكي تتميز بتنميط نوعي: حيث إنَّ الكاتب يكثِّف في أبطال رواياته مختلف الصفات والنزعات والأفكار الإنسانية. أي إن دستييفسكي يستعين بتقاليد علم الجمال الرومانسي, ولهذا فإن ما هو نمطي عنده يتضمن قرينة الاستثنائي وغير المألوف.
لكن هذا لا يعني أنه «لا وجود لمثل هؤلاء الناس في الحياة»: فلو تملّى كل واحد منّا في أعماق ذاته فإنه سوف يرى هناك أبطال دستييفسكي بالضبط. لأن هذا الكاتب يقوم بعملية نقل المواصفات والمشاعر الإنسانية إلى الخارج. على هذا الأساس كثيراً ما ترفق بمصطلح الواقعية عند دستييفسكي إضافات من مثل: واقعية «صوفية» وواقعية «رمزية»... بالتالي يصبح من الواضح أنه يمكن مقارنة دستييفسكي مع كتاب كلاسيكيين روس آخرين من منطلق الحرفية الأدبية, إلا أن أحداً لم يبلغ درجة العمق الموجودة عند دستييفسكي.
ودرجة العمق في أعمال دستييفسكي لا يمكن تخيلها بعيداً عن توجهاته ومعتقداته المسيحية. وقد كتب فيدور ميخائيلوفيتش بهذا لخصوص قائلاً: «لقد تعرفنا على الكتاب المقدس في عائلتنا منذ الطفولة الباكرة...» وأكثر ما لاقت صدى عميقاً في روحه صورة أيوب كما وردت في العهد القديم.
جديرة بالإشارة تلك الخلافات الدينية التي كانت قائمة بين دستييفسكي والناقد الأدبي والفيلسوف الروسي الكبير بيلينسكي الذي كان مأخوذاً في البداية بصاحب رواية «الفقراء».
وإليكم ما كتب دستييفسكي في دفتر مذكراته «يوميات كاتب» عن بيلينسكي: «كمفكر اشتراكي كان عليه قبل كل شيء أن يعمل على إسقاط المسيحية: فقد كان يعلم أن الثورة لا بد أن تبدأ من الإلحاد... « هل تعلم, راح يزعق في مساء يوم من الأيام... متوجهاً إليَّ ـ أتعلم أنه لا يجوز محاسبة الشخص على آثامه وإثقال كاهله بالواجبات وبهمية الخدين في حين أن المجتمع مبني بطريقة دنيئة لدرجة أن الإنسان يصبح عاجزاً عن ارتكاب المعاصي وحين يتم اقتياده اقتصادياً لأن يفعل الشر ...».
كما تبين أن ثمة خلافاً كبيراً بينهما في مسألة الأخلاق. إذ كان بيلينسكي يطالب الأدب بتبني منحى نقدي. «كنت أعترض عليه قائلاً ـ يشير دستييفسكي ـ أنك لن تستيطع أن تشدَّ أحداً عن طريق المرارة, بل على العكس, سوف تسبب الملل عند الجميع ... إذا رحت تقدِّم المواعظ والنصائح لكل واحد عنوة».
أود التوقف عند إحدى خصائص الروايات العظيمة لدستييفسكي: «الجريمة والعقاب», «الشياطين», «الأبله», «الإخوة كارامازوف». فنحن نجد أن الشخصية المحببة عند دستييفسكي هي شخصية البطل المنظِّر الإيديولوجي. ولكن, هل هذه هي إيديولوجيا؟ لا, إنها عبارة عن منظومة قيم محددة, لكنها منظومة غير صائبة وغيرعقلانية إلى درجة كبيرة بالرغم من كونها تبدو نابعة من الإدراك. هذه نداءات عاطفية تتخذ شكل تنظير مجرّد وتتحول إلى مبادئ رئيسية في الحياة.
لقد تحوَّل القرن العشرون إلى قرن السيطرة التامة للإيديولوجيا, إيديولوجيا مفروضة على المجتمع وعلى الشخصية الفردية للإنسان ومحدثة تشوهاً كبيراً في شخصيته. فالإيديولوجيا تشكل مصدراً للحواجز وتباعد بين الناس. وقد أدرك دستييفسكي هذا التأثير المدمِّر للإيديولوجيا المرتبطة بآثام البشرية فأصدر حكمه عليها.
فمعلوم أنه في أساس الإيديولوجيا إنما تقوم المشاعر الدونية للإنسان. هكذا نرى أن المناقشات الإيديولوجية عند راسكونيكوف (في «الجريمة والعقاب») هي التي تقوده إلى ارتكاب الجريمة البشعة. ونفس الأفكار الثورية نجدها عند أناس بلا رادع أخلاقي وبلا مبادئ في رواية «الشياطين». ويعتبر التعجرف المفرط واحداً من المشاعر الآثمة التي تقوم في أساس الإيديولوجيا البشرية. هذا الشعور بالتعجرف المفرط وبالأنفة هو الذي يعمي راسكونيكوف في «الجريمة والعقاب» وهذه الناحية هي التي تؤدي إلى هلاك ستافروغين في «الشياطين».
إن دستييفسكي يهتم خاصة بشخصية «الإنسان التافه, المُضطهَد والمُهان». واللافت هو أن التعجرف المبالغ به, التعجرف الذي يتظاهر بأشكال عجيبة, هو الذي يصيب وينخر جوهر مثل هؤلاء الناس أيضاً! وإذا كان دستييفسكي يتعاطف معهم, فإنه لا يسعى إلى تبريرهم إطلاقاً.
لن يكون صائباً الاعتقاد بأن دستييفسكي يواجه الإيديولوجيا البشرية الآثمة بإيديولوجية أخرى, «مسيحية». فهو يرى أنه بالمحبة الإلهية فقط يمكن مواجهة الإيديولوجيا البشرية. على هذا الأساس يمكن اعتبار أبطال دستييفسكي شخصيات إيديولوجية بالمعنى المباشر للكلمة: سونيا مرميلادفوا والأمير ميشكين وأليوشا كارامازوف. ويطلق النقاد على هؤلاء مصطلح أبطال ـ إيديولوجيين. وهذا أمر مشكوك فيه.
لأن هؤلاء الأبطال, أولاً, هم أبطال محِبّون. فالصدام بين الإيديولوجيات يؤدي الى مزيد من الضجيج, لكنه ضجيج لا ينتج حلاً للمشكلة. والإيديولوجيا الكاذبة لا يمكن الانتصار عليها إلا بالمحبّة, محبّة تتجلى في حل أخلاقي, في الممارسة وفي التضحية والتفاني, في التسامح وتقبّل القريب. ولذلك نرى أن الأمير ميشكين عندما يحاول الإعلان عن نظرية إيديولوجية ما فإن هذا يخرج عنده بطريقة غبية وسخيفة (المقصود خطابه ضد الكاثوليكية).
والإيديولوجيات تتغذى دائماً على الكراهية, في حين أن التعاليم المسيحية «تقرف» من مثل «مشروب» كهذا. ودستييفسكي على مدار السرد يعرّي رياء الإيديولوجيات البشرية ويفضح جوهرها المدمر والمهلك, مع أنه هو ذاته, كغالبية الناس, لم يكن بعيداً عن تأثير التفكير الإيديولوجي؛ وهذا ما يفسر خطاب الأمير ميشكين في رواية «الأبله», وكذلك تلك الآراء المعادية للغرب وللكاثوليكية عند دستييفسكي بالذات. لكن التفكير الأدبي عند دستييفسكي أضحى هو الأكثر قوة والأكثر حضوراً من «تنظيراته» الخاصة, كما يجب أن يكون عند الأدباء المبدعين العظماء. وما هذا سوى شذوذ محمود ومدهش بآن: فالصورة الأدبية للبطل تنتصر على الفكرة الغريبة عنها, ولذلك نلاحظ أن كراهية ميشكين للكاثوليكية «تغيب» من بنية صورته فتبدو كما لو أنها جانب طارئ وغير أصيل.
إن ما يميز أعمال دستييفسكي الإبداعية من تعددية في الأصوات وغياب الوعظ الأخلاقي الاستحواذي جدير بأن يكون مثالاً يحتذى بالنسبة لكل مَن يحاول إرساء أدب مسيحي. فنحن نرى كيف أن دستييفسكي يسمح لجميع شخوص رواياته «بأن ينطقوا وبأن يعبروا عن وجهات نظرهم» بكل حرية.
لا يمكن تقسيم أبطال دستييفسكي إلى معسكرين: أبطال إيجابيون وأبطال سلبيون. بل يربط ما بينهم نوع ما من العلاقة الجدلية بطريقة أكثر تعقيداً مما يتصَّور. فاهتمام الكاتب لا ينصبُّ على أشرار خياليين, بل على شخصيات غنية ومتنوعة ومتصارعة ـ رَسْكولنيكوف, ستافروغين, دميتري وإيفان كارامازوف, ونستاسيا فيليبوفنا. إذ غالباً ما يتماهى هؤلاء مع شخصيات شبيهة للاية «أصناء» تجسِّد بعض صفاتهم بدرجة مطلقة أو مشوَّهة ـ لوجين وسفيدريغايلوف, بيوتر فيرخوفينسكي وسمِرْدياكوف. فهذه النماذج بالتحديد هي التي تسمح بأن نرى بكل وضوح تلك الصورة الدميمة المشوهة للإيديولوجيا ولطاقاتها المدمِّرة. وأخيراً, ثمة أبطال «إيجابيون» رائعون من أمثال الأمير ميشكين وأليوشا كارامازوف. فهاتان الشخصيتان هما الأكثر صفاء والأكثر إشراقاً في سماء الأدب العالمي, حيث يمثلان المُثل المسيحية عن حق, لكن ليست كإيديولوجيا وإنما كمنظومة قيم متسلِّطة وصمّاء.
فأحياناً يجري النظر إلى الأمير ميشكين على أنه تفسير أدبي لشخصية المسيح. لكن هذا ليس دقيقاً, مع أنَّ هذه الشخصية بالذات تعتبر الأصدق والأشد قوة في الأدب كحاملة للمحبّة المماثلة لتلك التي عند السيد المسيح. كما أن الرواية بحد ذاتها حافلة بالرموز والمقارنات الدينية دون أن تتحول برغم ذلك إلى عمل فني ديني. فالأمير ميشكين يتقيد بوصايا الإنجيل حتى النهاية محاولاً أن يفتدي الآخرين بنفسه.
وليست أقل تعبيراً وإدهاشاً صورة أليوشا كارامازوف, ذلك المسيحي الذي يأبى أن يهرب من العالم إلى داخل جدران الدير (مع أنه يعرض عليه مثل هذا الاحتمال), بل على العكس نراه يخوض الحياة إلى جانب إخوته الأقربين.
وإذا كانت رواية «الجريمة والعقاب» تمثِّل قمة الفن السردي عند دستييفسكي, فإن آخر رواياته «الإخوة كارامازوف» ـ تشكِّل قمة فلسفته. ففي سياق الموضوع الذي تعرضه الرواية نجد قائماً أمامنا ذلك الحكم الصارم والمفتك عن حق في شأن الإيديولوجيا البشرية الفاسدة, التي تلبس, علاوة على ذلك, رداء الدين - (الرواية الشعرية الشهيرة عن قاض في محاكم التفتيش).
وقد اعتبر الفيلسوف المعروف أنتاناس ماتصين من ليتوانيا أن تلك القصيدة عن قاض في محاكم التفتيش هي عمل «أكثر كونياً» مما هي رواية «فاوست» لغوته, وأن القاضي في محاكم التفتيش ذاته هو الشخصية الأبشع والأكثر فظاعة في تاريخ الأدب العالمي بمجمله. والأرجح أن الأمر هو كذلك لأنه يجسِّد الإيديولوجيا البشرية الأكثر إثماً والتي تنافس للوصول إلى مكانة ديانة إلهية, فتعمل باسم الرب لتتستر على العنف الشيطاني ضد الإنسان, وتفرض على البشر المُثُلَ الكاذبة «للسعادة» الآثمة بدلاً من نعمة الحرية التي قدّمها يسوع.
فها هو إيفان كارامازوف الذي صاغ دستييفسكي القصيدة بلسانه, يريد أن يبرِّر بواسطتها عدم إيمانه وإلحاده, إلا أنَّ أليوشا يؤكد بصورة عادلة تماماً أن القصيدة لا تشكِّل تطاولاً أو انتقاصاً من شخص السيد المسيح وإنما تعتبر مديحاً له. لنتوقف عند الكلمات التالية التي تعود لالكساندر مينْيا: «كيف يرد أليوشا على ثورة الغضب عند إيفان؟ نجد أنه لا يقدم له نظرية لاهوتية متناسقة ومعقدة, بل يتطلع إليه بمحبّة عميقة وبتعاطف كبير ويشاركه معاناته. يبدو أنَّه بإمكاننا أن نفهم الإنسان بمشاعرنا, «بالقلب», وهذا سيكون كافياً...».
والمسيح أيضاً لا يرد على المفتش العظيم في قصيدة إيفان ولا يطرح في مواجهته أية إيديولوجيا خاصة به. فهو يظل صامتاً ومن ثم يقبِّله في شفتيه الممتقعتيَن. هكذا نجد أن دستييفــسكي يجابه الإيديــولوجيا بالمحبّة فقط!
إن رواية «الشياطين», التي لاقت معارضة الكثيرين في حينها, إنما تهدف إلى فضح بشاعة لا الإيديولوجيا الدينية الكاذبة وحسب, بل أيضاً إيديولوجيا الثوريين ـ الإرهابيين. وفي عصرنا هذا ينظر إلى تلك الرواية على أنها كانت بمثابة نبوءة لتلك الأحداث الجسيمة والرهيبة التي حصلت في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. وكتحذير منها.
والإيديولوجيا إنما تُهلك مؤسسيها كما هو واضح على مثال بطل الرواية ستافروغين. وقد أشار إلى هذه النقطة الفيلسوف الروسي المعروف بيردياييف في مقالة له بعنوان «ستافروغين» قائلاً: هو لم يستطع ولم يشأ أن يختار بين المسيح والمسيح الدجال». كان ستافروغين شخصية غنية وجذابة, لكنه خسر نفسه «لأن الشخص الذي يريد أن يصون روحه هو مَن يخسرها...» علماً أنه عُرِضَ عليه طريق النجاة ـ طريق المحبّة.
إن العالم المعاصر أكثر ما هو بحاجة لوعظ إنجيلي لا يقدِّم يقينيات كلامية (سكولاستيكية) ولا تنوّع الدعاية الدينية التي سئمنا منها في المجتمع الاستهلاكي, وليس نظرية إيديولوجية جديدة مع منظومة قيم تتخذ لنفسها مظهر النظرية الحكيمة, تقوم على الكراهية وتسعى للسيطرة الشاملة والمتسلِّطة على حياة البشر... وإنما العالم بحاجة لوعظ يقوم على المحبّة الإلهية وعلى التحرر الروحي الذي منحنا إياه يسوع, لوعظ يحمي الإنسان من التأثير المخدِّر للإيديولوجيا ـ وباء العصر الحديث.
والآداب «المسيحية» تمتلك طاقات جبارة للقيام بدور هذا الوعظ. ذلك أن الصورة الفنية يمكن فهمها واستيعابها حتى حين تكون الصيغة العلمية أو العقيدة اللاهوتية الجامدة غير مفهومة. يتطلب الأمر فقط أن نتعلّم قدر المستطاع عند أولئك الأساتذة الحقيقيين من الكتّاب والفنانين الذين أتحفونا بمآثر عظيمة من الفن المسيحي الحقيقي. وفيودر دستييفسكي واحد من هؤلاء الكتّاب, بل لعله واحد من أعظمهم.
1ـ عالم الرياضيات والفيزياء الشهير.
إبراهيم استبولي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد