كارلوس فوينتس.. الرحيل للقاء المستقبل
وجه آخر غاب، من الوجوه الكبيرة الأساسية في الأدب المعاصر في العالم. كارلوس فوينتس اللحظة الكبيرة المنيرة في أدب المكسيك وأميركا اللاتينية. رحل ليل الثلاثاء – الأربعاء نتيجة مشكلات في القلب، عن عمر 83 عاما. برحيله، لا بدّ من أن تنتظر بلاده فرصة أخرى كي تتربع على عرش نوبل، إذ غالبا ما طُرح اسمه كفائز محتمل بها.
منذ أعماله الأولى (تُرجم قسم كبير منها إلى العربية) عرف كيف يبني عملا أدبيا، هو أكثر الأعمال موافقة للتساؤل حول الكذب (بمعنى التخييل الروائي)، إلا أنه في الوقت عينه، أحد أكثر الأعمال التي تستطيع أن تكون نشيدا للأمل (من يمكن له أن ينسى رواية «موت أرتيميو كروز» أو «كرسي الرئاسة»، على سبيل المثال). وبما أنه كان أحد المعجبين بفيكو (جيوفاني باتيستا، فيلسوف وسياسي إيطالي ومؤرخ من القرن التاسع عشر، ناقد للعقلانية الحديثة ومدافع عن العصور الكلاسيكية) الذي اعتقد أن الزمن ليس أفقيا، اقترح فوينتس علينا، في أدبه، الذهاب للقاء ماضي المستقبل كما مستقبل الماضي، أي بمعنى آخر اقترح أن «نرتدي ثياب أبي الهول للعيش في الحاضر» (وفق ما ذهب إليه في كتاب «ما أعتقده»).
صحيح أنه اعتبر نفسه شخصا «كوسموبوليتياً»، وميله للرحلات كان شبيها بميل بورخيس للمكتبات، إلا أنه بقي مكسيكيا في العمق. أقصد، لو عدنا قليلا إلى الماضي، لوجدنا أن د. أتش. لورانس في كتابه «الصباحات المكسيكية»، كما ألدوس هكسلي في «من الكاريبي إلى المكسيك» و«إيميلو شيكي في «مكسيكو» ساهموا في إضفاء هذه الصورة التي نعرفها عن المكسيك اليوم. لذلك، كيف يمكننا أن «نموضع» عمل فوينتس في مواجهة هذه النظريات الخارجية، «الغربية»؟
تشكل هذه النقطة أكثر الموضوعات المتواترة في أدب فوينتس، أي كان يبحث عن هذه «المكسيك» التي وصفها «هامبولدت» يوماً بأنها «المنطقة الأكثر شفافية» (وقد جعل فوينتس نفسه، من هذا التعبير عنوانا
لروايته الأولى) والتي تأتي مخالفة لما ذهب في اعتباره، كاتب مكسيكي آخر هو أوكتافيو باث (نوبل للآداب 1989) أنها «كلاسيكية، نبوية، تدافع عن المتخيل أي عن الشعر، وفي النتيجة عن الكائن البشري» أي «تجتهد في تأخير الرجوع إلى كابوس البدايات»؟
إزاء هذا، اعتبر فوينتس أن الهنود المهزومين أصبحوا المنتصرين الحقيقيين، لقد نجحوا في البقاء على قيد الحياة ونجحوا في فرض أنفسهم «في الليل، في السواد، في الأنفاق». أي إن بديهية هذه الثقافة عادت لتفرض نفسها، عادت لتصبح «الثقافة المقدسة». مقدسة في هذه «الباروكية» التي ردمت الفراغ الذي خلفه الصراع الذي تواجه فيه المنتصرون والمهزومون، في «عذراء الغوادولوب»، أي في هذا الوجه الهندي الذي لم تستطع أن تمحوه الصورة «الكاثوليكية للسيدة العذراء». من هنا، وعلى الرغم من «الفتوحات» ونتائجها، استطاعت الروح الهندية أن تحيا مع ثقافتها الخاصة.
بهذا المعنى يبدو فوينتس ذلك «المكسيكي» الكبير، بمعنى أن اللغة والفضاء (الجغرافي) ليسا سوى عالم واحد من النداءات والأجوبة، أي هذا العالم الذي لا يشكل فيه الإنسان ذلك الكائن الاستثنائي الذي مجدته النهضة، بل تلك اللحظة المميزة للحوار بين الفضاءات المختلفة. هذه النقطة هي التي قادته إلى «الباروكية»، لذلك نجد أن عمله ينفتح على عالم من دون إله، لكنه عالم لا نهائي يبدو الله فيه في كل مكان. إنه رب متعدد، خلاسي، من جميع الأزمنة ومن جميع الثقافات، كي نجد أن الإنسان يقف في موقعه بالضبط: إنه يفكر في الكون، وفي تفكيره هذا يفهم أن التفكير يتخطاه أو بالأحرى أن «اللامفكر به هو جزء لا يتجزأ من الإنسان، لأنه السمة التي لا يمكن دحضها عن وجود الله.
مع رحيله، ثمة صفحة حقيقية تقلب. صفحة كاتب لو يتوقف يوما عن طرح الأسئلة حول «أناه» كما حول العالم، عبر كتب متنوعة، من الصعب أن تسقط من الذاكرة.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد