كوني جميلة ،حرَّة، امرأة.. كوني مغنية
الجمل- لينا شماميان: بكلمات هذا العنوان ..تعرفت على (آراكس شيكيجيان) _احترت في اللقب الذي يجدر بي وضعه أمام اسمها : المغنية أم المعلمة أم السيدة ،أَم الأُم ،أم...آثرت وضع اسمها فقط ، فاسم المرء أصدق ألقابه_
في لقائنا الأول ،أذكر أني ذهبت إليها محملة بآلاف التخيلات عن أسطورة التدريس في الغناء الأوبرالي ...فمنذ دخولي المعهد ،كان يتردد اسم(طلاب آراكس: تالار دكرمنجيان –رازق بيطار-سوزان حداد) بصفتهم رائعين...كانت وقتها في حلب ، ولم أكن قد التقيت بها أو بأحد طلابها ،كنت فقط أسمع عنهم الكثير ،وبأنهم جميعا وُفقوا بأن يكونوا مغنيين عالميين بالخارج..
لا يسعك أن تلقاها دون وجل ..ولكنها لا تلبث أن تنتزع كل ما بداخلك من تساؤلات لتضع مكانها أجوبة دون حتى أن تَسأل ..يبدأ اللقاء بابتسامة ،صوت دافئ ،فالكثير من التشجيع ..حين سألتُها،قالت لي أنها تؤمن بمفهوم الإطراء لتثبيت حسن السلوك ...فطالب الغناء أمامها يتحول طفلا يتلمس خطواته الأولى ، ورغم صعوبة تطبيق كل ملاحظاتها ، فبمجرد إتيانه صوتا صحيحا ، يُكافأ بابتسامة الرضا .
لا أدري كم منكم قد حاول يوما أن يختبر الدرس الأكاديمي للغناء ،فبرغم كون محيطنا مترع بالغناء ..فالبعض يكتفي بالإعجاب بقدراته الغنائية في الحمام ،أما الآخرين فيكتفون بالإعجاب بمقدرات المشاهير أو بشتمهم -تعبيرا عن خيبة أملهم بهذه الحياة- ولكن كون المرء مغنيا يتجاوز كثيرا كونه مصوتا ،وحين تسمعها ،تدرك أن المغني مغنٍّ بجسده كاملا ..فما من حبلين صوتيين يستطيعان إخراج كل هذا ،هما فقط معبر لدفع الهواء القادم من الجسد ،هما معبر يحتاج بناؤه عشر سنوات ، عدا عن أهمية الإحماء و التدريب الدوري الذي يتيح للمغني إطالة عمر صوته ،صقله ,وحمايته من خيانة الزمن ،فهي دوما تقول لي (أن تكوني مغنية ناجحة يعني أن تكوني جاهزة للغناء في التاسعة صباحا)..
كل مرة ،تذكرني بأهمية الجسد ،تقول لي (الرياضة درب إلزامي لغناء جميل)..أجمل ما فيها أنها تتقن أبسط التفاصيل ...تقول لي دوما (في أرمينية كان منهاجنا يتضمن التشريح والتمثيل والموسيقى)..وما أن يبدأ الحديث عن أرمينية، حتى تَعجب بتحولها إلى طالبة،أغلى ما تعتز به :مدرّستها(داتيفيك سازانداريان)..بتلك الابتسامة ،تبدأ إخبارك عن تلك المرأة الساحرة ،وعن مدى سعادتها ببقائها طالبتها لتسع سنوات، فقد كانت (داتفيك) قبلة الغناء بالاتحاد السوفييتي. أخبرتني مرة قصة ،آلمتني- رغم سعادتي بأنها تسببت بلقائي (آراكس) - قالت لي بأن مدرّستها سألتها يوما البقاء في أرمينية ،كانت الفرص يومها متاحة لها لأن تكون من أشهر مغنيات الكلاسيك في العالم ،فأجابتها (لا أستطيع ..أنا سوريَة ، هويتي سورية ،وأهلي هناك ،كيف لي أن أسعد بكل هذا إن لم أشاركهم ذاك الفرح ؟) فأجابتها مدرستها (إذن ..سأعلمك التدريس ،ففي وطنك لا مكان للغناء الكلاسيكي بعد ) وهذا ما كان ، فقد تخرجت (آراكس) بماجستير غناء أوبرالي وتدريس صوت من كونسرفاتوار كوميداس بأرمينية ..وعادت لتستقر في حلب وتصبح أول مغنية ومدرّسة للغناء الكلاسيكي في سورية..
مرة،كلمتني عما كان حين بدأت بإقامة الحفلات بين دمشق وحلب في مستهل الثمانينيات ،قالت لي (أحيانا كثيرة كنا نرى بين الجمهور من يضحك حين أغني النوطات المرتفعة (الجوابات)..لم يكن هذا الكمّ من المسارح متوافرا، فصحت نبوءة مدام داتيفيك ..وصرت مدرّسة للغناء ،ومن يومها تقمّصني "صبر أيوب")
بصدق ..للآن أستصعب مهنة تدريس الفنون،فهذا يعني إعطاء خلاصة الروح التي استغرق تشكيلها الحياة، يعني منح الهوية، والتعهد بتخصيب خصوصية روح أخرى بعيدا عن الاستنساخ..وأقسم أن هذا أصعب ما يمكن للفنان أن يفعله ..حتى الآن أجد صعوبة في فهم تلك الغيرية لدى المعلّم ،حين سألتها أجابتني( أنا لا أراكم طلابا ،أتخيلكم ابنتاي)..تقول لي دوما (أصعب مهمة لدى مدرس الغناء ..هو أنه مجبرّ على الاستماع بعينيه،فنحن لا نرى يدين أو مفاتيح :كل ما يُستعمل في الغناء موجود داخل الجسد ،ولا ندرك منه سوى الصوت وهو المعبّر الوحيد لما يحدث هناك من تفاعل)..
(عيناكِ هما الخيال ..انظري دوما للأعلى وغنّي بكل ما أوتيتِ من روح ،اقرئي،استمعي ،تعلمي لغات جديدة ،أحبي ..طوري ذكاءك الموسيقي،خامتك وأذنك الموسيقية:فتلك هي أدواتك..
وفي الحفل ..أرسلي صوتك للبعيد،اهتمي دوما بالشخص الجالس على المقعد الأخير في الصف الأخير من المسرح ،إن كان مستمتعا فقد أجدت الغناء)
قالت لي بعد انتهاء حفلها منذ أسبوعين في دار الأوبرا ( الجمهور لا يحتاج سماع ساعة من الصراخ ..الأهم إيصال إحساس الأغنية ، وأن يجعل الرنين الصوت المنخفض مسموعا بقدر المرتفع ..هكذا تُقاس حرفية المغني) . يومها أضحكني تعقيب أحد الموسيقيين من الحضور،قال لي (كانت في النوطات العالية تنظر للأعلى ،وكأنها إشارة لمهندس الصوتيات ليرفع الصوت )...حينها أدركت كم تمكنت (آراكس) من حرفيتها ..فأنا أعلم تماما أن المايكروفون هو لتسجيل الحفل فقط ، وما من مهندس صوت لحفلات الغناء الكلاسيكي (أقلها في قاعة الدراما) وإلا صار الصوت معدنيا..
أذكر مرة، كنت صغيرة ، و كنا في المنزل نتابع سهرة على التلفاز، نادتني أمي وقالت (تعي شوفي هالمغنية اللي ربحت جائزة عالمية بكوريا..اسمها آراكس متل ستّك..ما أحلاها ..انشالله بتصيري متلها) ومن حينها ، وأنا أتمنى كل يوم ،أن يتحقق دعاء أمي لي
بالاتفاق مع مجلة شرفات
إضافة تعليق جديد