كيف نوقف "التطوّر" إلى الوراء؟

17-02-2009

كيف نوقف "التطوّر" إلى الوراء؟

"البقاء للأصلح" عبارة توجز نظرية داروين عن النشوء والارتقاء وأصل الانواع. وقد تبناها بعض المفكرين منذ القرن التاسع عشر وحاول تطبيقها على المستوى الاجتماعي، من دون ان يتبنى استنتاجاتها البيولوجية او الطبيعية. ولسنا هنا لنناقش لاهوتيا صحة هذه النظرية او خطأها، وبخاصة ان الكتاب المقدس ليس كتابا يقدم نظريات علمية حول اصل الكون وانبثاق النور وخلق الانسان. فكل ما يبغيه واضع الكتاب المقدس هو التأكيد على ان الله هو بارئ الكون وكل المخلوقات المرئية وغير المرئية. اما كيف تمت عملية خلق الجدين الاولين، آدم وحواء، فالرواية الكتابية لا يمكن فهمها  الا بإطارها الرمزي لا الحرفي.
بيد ان الكتاب المقدس يتفق مع القراءة الاجتماعية لنظرية داروين بالقول ان الانسان هو قمة الخليقة والكائن الوحيد الذي بوسعه السيطرة على مقدرات هذا العالم الذي يحيا فيه وتحسينه وتطويره نحو الافضل. واذا قال اصحاب الارتقاء الاجتماعي ان الإنسان انتقل من طور الصراع من اجل البقاء الى طور التعاون والتكافل بين ابناء المجتمع الواحد، فالفكر الديني التوحيدي لا يخالف هذا القول، اذ تقوم الاديان على اساس "التعاون على البر والتقوى" من اجل خير الانسان واعمار الارض، وعلى اساس الجماعة من دون إلغاء فرادة كل شخص ينتمي الى احداها.
يوجز ألبرت حوراني في كتابه الشهير "الفكر العربي في عصر النهضة" ما قاله شبلي الشميل جوابا عن السؤال: "ما هو الأصلح للبقاء؟" بقوله: "كما ان الجسد يكون صالحا للبقاء عندما تعمل كل اجزائه بتعاون، هكذا يقوم المجتمع بعمله على احسن وجه عندما تعمل اجزاؤه معا في سبيل خير الجميع" (دار نوفل، ص 256). التطور الطبيعي يعني، إذاً، تحول التنافس بين افراد المجتمع الواحد من ان يكون تنازعا واقتتالا الى ان يصبح تنافسا خلاقا وسباقا للوصول الى بناء الحياة العامة الجامعة واحترامها. هكذا يعمل العضو الواحد من اجل سعادة كل الاعضاء. وان استعرنا قولا للرسول بولس، لتساءلنا معه: هل يمكن ان يكون الجسد سليما اذا اعتل احد اعضائه؟
يستعمل الطبائعيون تعبير الانتخاب الطبيعي، مع بعض الشروط اللازمة، للحديث عن التنازع على البقاء وعن التطور والارتقاء. غير ان مجتمعاتنا الحديثة اختارت عن حق الانتخاب الشعبي وسيلة لاختيار "الاصلح" ليتولى مقاليد الحكم فيها، حتى لا نقع في ديكتاتورية الفرد الفارض نفسه اصلح الناس جميعا. ومع تفضيلنا للخيار الديموقراطي، لا يسعنا القول الا ان الذين يمارسون حقهم الانتخابي في اختيار "الاصلح" قد يخطئون الصواب، ذلك لان جزءا منهم لا يتبعون سوى هواهم، ولا يقيمون وزنا للمعيار الاخلاقي في انتقائهم حكامهم وقادة مصيرهم ومصير اولادهم.
التطور ليس حتميا، بل يستوجب شروطا وآليات كي يكتمل ويتحقق على ارض الواقع. وواقعنا الحاضر ان قارناه بما عبر منذ قرن ونصف لوجدناه يتقهقر او في احسن الاحوال يراوح مكانه. فبعد ازدهار الاحزاب وتنوعها الايديولوجي من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، تعود العائلية المناطقية والحزبية لتؤدي دورا اكبر مما كان مقدراً لها منذ عقود. وبدل ان تتسع الاحزاب لتضم لبنانيين من مختلف الطوائف والمذاهب تقلصت – ما عدا قلة منها – الى احزاب على قياس الطائفة وبإرث عائليّ، او احزاب خاضعة كليا لسلطة القائد الاوحد الفذ، او احزاب اصولية متشددة تسعى الى حكم ديني تمييزي عاجلا ام آجلا. فمن يمكن ان يختار هذا المواطن اللبناني المحتار من بين هؤلاء كافة؟
ثم كيف يمكن بناء الدولة في ظل اجواء كهذه؟ وكيف يمكن بناء "المدينة" بما يحمله هذا اللفظ من معان سامية، وقد تحولت معظم مدننا الى ارياف عامرة؟ ماذا ينفع الكلام عن ابن خلدون وعن نظريته في الانتقال من عصر البداوة الى الحضارة، والتصحر الفكري يهاجمنا من كل حدب وصوب؟ ما جدوى الكلام عن الارتقاء الاجتماعي او السياسي مع ما نراه حولنا من ضجيج صاخب؟


الأب جورج مسّوح 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...