لبنان والسياسة و السوريون ...
تأخذ أخبار لبنان حيزا كبيرا من أوقات السوريين... البوصلة السياسية الشعبية تتجه نحوه وتشير اليها، والساعات ربطت الى مواقيت أحداثها وجديده ومتابعة أخبارها. والخوض فيها، وفي ثنايا سياستها وسياسييها، صار أشبه بطقس يومي، بل أكثر من يومي أحيانا. فهو أقرب الى مائدة دسمة تتجمع من حولها الأحاديث والدردشات، ترى الناس تولم لها من غير دعوة ولا نيـّة مسبقة. انه يصل درجة أن يكون شأنا حياتيـّا وحيويا أيضا. ولا يقتصر الأمر أو يحتكره مجرد اهتمام نخبوي لفئة معلومة من السوريين، من مثقفين وسياسيين. بل هو يشغل بال العامـّة أيضا، وبطرق وأصناف قد لا تخطر لأولئك. وما أيام لبنان الحمراء التي سبقت استقراره الحالي الا دليل على هذا الاهتمام، المتعدد الطبقات والدرجات.
يميل البعض انطلاقا من هذه الحالة الى الحديث عن وجود شعوب ومجتمعات مسيسة وأخرى غير مسيسة، وهذه الفكرة وان كان المقصود بها يعنينا هنا، الا أن الخطأ يتلبس صياغتها، فالمؤكد، هو أن كل المجتمعات وكل الشعوب مسيـّسة، انما بطرق وتعابير وأمزجة مختلفة تبعا لرقيـّها وتجربتها السياسية والثقافية، ولاعتبارات تتعلق بتوايخ نشأتها وتجمعها وبنيتها الاجتماعية، والشكل والموقع اللذين استقرت عليه حواضنها، أي الدول والكيانات السياسية. وفي الوقت الذي قد تبدو فيه مجتمعات وشعوب مشرقية وكأنها ليست كذلك، نراها مازالت تملك في وجدانها ملكات التفكير والشك، اضافة الى «أنا أعلى» منحوت على شكل قضايا كبرى وتصورات مثالية، ورغبة في البحث عن الحقيقة، تتماهى معها. فتمتزج هذه الآليات في وعيها، لتشكل أساسا مهما من أساسات شخصيتها، ان لم تكن ظاهرة على السطح، دلـّت عليها أمور كالتي نحن في صددها هنا.
والشعب في سورية، هو من طينة تلك الشعوب، المسيسة بعمق والتي تتفاعل مع الحراك العام. من هنا، ومن حيث يتعذر عليه الوصول الى أقاصي نشوته السياسية ضمن حال من الركود واللون السياسي الواحد، فانه يجد له منفذا اليها، عبر لبنان، بكل ما فيه من تفاعل على جميع المستويات، اجتماعي وثقافي وسياسي، فيعمد الناس والأهالي، وبآلية تلقائية نسبيا، عبر مناقشة سياسة لبنان، الى التعبير عن رأيهم ووعيهم ونضجهم، في السياسة والثقافة والاجتماع.
واذا ما تجاوزت غمائم وسحابات كلام الناس اليومي عن لبنان، وسألتهم: لم هذا القدر من الحديث عنه؟ فالاجابة واحدة تقريبا: لأنه يعنينا. بمعنى انعكاس أحوال الكيان اللبناني السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أحوال السوريين. غير أن ما في الأفق النفسي يلوح بما هو أكبر وأكثر اعتبارا من مجرد متابعة عادية وقلق على الأحوال وخوض في التوقعات. انك لترى في الزخم والعنفوان والجديـّة التي تتلون بها هذه الأحاديث، اهتماما يشي بفعل سياسي ما، أو برغبة في هذا الفعل عند الناس، ولعله توق الى العمل والمشاركة السياسيين. والا كيف نفسر سهولة حفظ أسماء كل الوزراء ، ونواب البرلمان اللبناني الفاعلين، السابقين والحاليين، ومعظم أسماء الاعلاميين والنقابيين؟ بشكل صار ملفتا للنظر ومدعاة للاهتمام.
كما تظهر في نقاشاتهم هذه، مصطلحات ومفردات، كالمعارضة، الموالاة، المواطنة، الاضراب، الاعتصام، الفرقاء، الحقوق، النقابات..الخ، وهذه المصطلحات ذات الوزن الثقيل، يندر استخدام السوريين لها في ما يخصهم، لكنها تظهر اضطرارا، وفي مفارقة لافتة، في لغة اعلامهم الرسمي اذ يتناول الشأن اللبناني.
من جهة أخرى، وفي عزّ انخراط المجتمع المشرقي في التقاليد الميدياتيـّة الاعلامية، كان انقسام لبنان مؤخرا الى قطبين متعاكسين ومتخاصمين، في أيام سلم أهلي، ما يظهر واضحا. فالتحزب والاصطفاف العاطفي الى جانب فريق من اثنين، لهما من القوة والعدّة ما لهما، سيحيي في الناس تلك الرغبة الطبيعية بالنديـّة واثبات الذات، وسيعطيهم، تبعا للفريق الذي يتعاطفون معه، الحق الأدبي باستخدام تقنيته في السياسة، من لغة وخطاب ومفردات، وحجج وبراهين ودلالات، وسلوك. يكون فيه الأمر، كما رأينا سابقا، أقرب الى تعويض موارب عما هو غير متوفر لهم في الحياة العامة.
وقد يصطدم البعض، في نهاية الأمر، بما قد يظنه واقعيـّة أو تعقـّلا، فيصاب الوعي بنوع من مفارقة أو اشكالية. فالفعالية اللبنانية، المغرية، بما تملكه من أطياف وأقواس قزح، تظهر وكأنها خطيرة أو أكثر من اللزوم، وبأنها يمكن أن تتسبب بفقدان ركيزة أساسية من ركائز الدولة – الأمة، وهي الأمن والاستقرار السياسي. وبغض النظر عن صحة وعمق هذا الاعتقاد وأسبابه، يبقى أن هناك لغطا وخلطا ما بين السياسة، أشكالها وميولها وأخلاقها، وبين الأعراف والتقاليد السياسية التي تضبط أمور الدولة وتضمن حسن ادارتها وتسعى الى تثبيت مواطنية شعبها.
يبقى، أن اهتمام السوريين بلبنان ليس «لذاته» بقدر ما هو «لذاتهم».
حسان القالش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد