ماذا يشتغل الأدباء والشعراء لكي يؤمنوا حياتهم
تأتي الكتابة من تدافع عواطف وأفكار، من رغبات وإخفاقات والتباسات، من نقص وجنون وحاجة، من الحياة الشخصية وحياة الآخرين، من روافد لا تُحصى ولا تُؤرّخ. إنها تأتي أيضاً من مهنٍ زاولها الكتّاب، مهن بعيدة عن عالم الكتابة. بعضهم أحبّ هذه المهن وبعضهم كرهها. وفي الحالين كانت هذه المهنة توظّف في شخصيات وملاحظات وتأمّلات وأقنعة وهواجس وأحقاد. فرناندو بسّوا كان موظّفاً في شركة للتبغ. سان جون برس أمضى معظم حياته سفيراً. هرمان هسّه عمل ميكانيكياً. أناتول فرانس اشتغل في مستودع مكتبة مجلس الشيوخ الفرنسي. بدر شاكر السيّاب كان موظّفاً في شركة التمور العراقية. كافكا في شركة التأمين. يوسف حبشي الأشقر في الضمان الصحّي. كذلك محمد علي شمس الدين الذي أصبح اليوم مفتشاً عاماً لهذه المؤسسة. فؤاد كنعان عمل في شركة للمياه. منذر مصري في دائرة الزراعة. هي مجرّد مهن خارجية بالنسبة الى الآخرين. لكنها قد تعني شيئاً آخر لدى الذين يمارسونها في النهار ويكتبون في الليل.نجيب محفوظ واحد من أولئك الذين أمضوا حياتهم في الوظيفة. كانت الوظيفة جزءاً من هذا الرجل الذي وضع قوانين صارمة لحياته المهنية والإبداعية على السواء. ولطالما نُظر إلى كتاباته على أنها تشبه في انضباطها التزامه دوام العمل. ارتبط محفوظ بالعالم بنظام خاص ودقيق انعكس في أدبه وإن بصورة خارجية. أراد الشاب الكتابة باختياره الأدب بعد دراسة الفلسفة وبعد ميل سابق نحو الهندسة والطب والموسيقى. لكنه أراد أيضاً الوظيفة كاستكمال لشخصيته الساعية الى الاطمئنان والسلام وتجنّب السجالات السياسية، وعملاً بوصية جيمس بيكي الذي ترجم له محفوظ كتاب "مصر القديمة" عام 1932 وفيه أنّ "خير ما تفعله (المصري) أن تختار لنفسك مهنة كمهنة الكتابة، وتعيش سعيداً في وطنك". محفوظ اختار الاثنين: الكتابة والعيش في الوطن. كان يمضي الصيف في الإسكندرية والشتاء في القاهرة. أما يومياته فكانت مقسّمة بشكل صارم على هذا النحو: الانتهاء من العمل في الثانية بعيد الظهر والعودة الى البيت، تناول الغداء ثم الراحة، الاستيقاظ في الرابعة والكتابة ثلاث ساعات، ثم استراحة وتناول العشاء ومعاودة الكتابة أو القراءة حتى الثانية عشرة ليلاً، موعد النوم. كان محفوظ لا يكتب رواياته إلا على مكتبه في البيت، في حين يكتب سيناريوات الأفلام في المقهى. وظلّ طوال عمله في "الأهرام" يذهب من بيته الى مبنى الصحيفة مشياً، قاطعاً خمسة كيلومترات يومياً. وفي منتصف الطريق كان يستريح قليلاً في "مقهى علي بابا" المطل على ميدان التحرير، ليتابع بعد رشفة قهوة أو رشفتين السير الى شارع الجلاء، حيث "الأهرام"، ويصل في التاسعة بالضبط. وكان موظفو الصحيفة يقولون: "إننا نضبط ساعاتنا يومياً على موعد وصول نجيب محفوظ". حتى إنّ أحد رسامي الكاريكاتور أطلق عليه وصف "الرجل الساعة". هذه الدقة هي التي جعلت الشاعر عبد المنعم رمضان يعدّه "سليل المصري القديم بامتياز. المصري الذي يعرف قيمة العمل فيبني الأهرام والقلاع والمعابد والقصور و... الروايات".الروائي الذي نال نوبل للآداب الوقت في مهنته وعمله الأدبي، أثمر أكثر من خمسين رواية، فإنّ صلاح فضل يذهب في مقال نشرته "الحياة" أبعد من ذلك: "إذا كان محفوظ يثير دهشة مؤرخيه بانتظامه والتزامه ودقته فإنّ توازن الأجزاء في "ملحمة الحرافيش" لا يقل عن ذلك إثارة للدهشة، إذ قد تطول الفصول أو تقصر لكن مجموعها يصل في كلمات عدة الى ثمانٍ وخمسين صفحة لا يتجاوزها في معظم الأحوال، مما يعطيها هذا الطابع السيمتري الذي يغري بالتحليل الدلالي لتركيبها الكلي".
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد