مراقب نيوتن في كراجات الدراما

22-10-2010

مراقب نيوتن في كراجات الدراما

ربما ليس أجمل من منظر بضع غنمات يتجمعن سوية ليتفيأن بظل شجرة وبظل القطيع، لكن المنظر نفسه لا يعود جميلاً عندما يتعلق بالبشر ربما لأنهم أقل وداعة، وربما لأن أي تجمع لهم لا يكون عشوائياً أو طبيعياً بل بتوجيه غالباً من خارج القطيع، وربما من حيوان آخر أكثر قدرة على الاستشراف، يطلق عليه في علم الفيزياء مراقب نيوتن (المراقب الخارجي)، وهو الشخص القادر على مراقبة الحدث من خارجه، ما يعطيه فهماً مختلفاً لما يعايشه أولئك الموجودون داخله.
من أهم الميزات التي يتمتع بها مراقب نيوتن عدم غرقه في التفاصيل المحيطة لأنه يحتفظ بمسافة عن الحدث، وهو ما لا يمتلكه معظم الناس، ربما لأنهم محشورون في مساحات إعلامية وإعلانية لا تتيح لهم إلا أن يكونوا متلقين، تعزز ذلك تربية وأسلوب تدريس تلقيني، تجعل من السهولة القيام بعمليات غسيل دماغ لأدمغة ما اعتادت النقاش، أدمغة تستلهم مشكلاتها لا من واقعها الحقيقي بل مما يلقن لها، فعلى مدار العقد الأخير من القرن العشرين لم يكن من هم ثقافي للمواطن السوري سوى الصراع بين القصيدة الحديثة والتقليدية، وهو ما لم يبق منه شيء إلا في أرشيفات الصحف والمجلات، وما أمكن الوصول إليه من تسجيلات التلفزيون السوري العتيد الذي جيشنا وأقامنا وأقعدنا في نقاشات حامية الوطيس، لا لنصرة حق مزعوم، أو اجتناب باطل مذموم، بل للالتهاء بتفعيلات وبيوت شعر، في وقت لا يجد فيه الشباب بيوت شَعر يسكنونها، لتغدو البداوة حالة مشتهاة.
التحدي التركي
واليوم ومنذ سنوات تعود لبداية الألفية، وبفضل نهضة درامية تعوض عن تخلف فيما عداها، أصبحنا نستفيئ بشاشاتنا، لنثبت تفوقنا على من هم أكثر تخلفاً منا، إخواننا العرب، فيما لا زلنا غير قادرين على استنساخ مسلسلات تركية تتفوق على مسلسلاتنا، كما تتفوق منتجاتهم على بضائعنا، لنفرح قليلاً بملبوسات على الموضة، ويخسر آلاف عمالنا وظائفهم، ولن نبالي بالصناعيين لأنهم تحولوا تجاراً، يأخذون عمولتهم من مستقبلنا بعد إطلاق النار على ماضينا، ولا يهم مصدر الرصاصة أكان مكسيكياً، أم عثمانياً يحيلنا إلى جيراننا الذين تجاوزوا ماضيهم ليصنعوا مستقبلهم، والآن ينادوننا باسم الماضي ليربحوا أسواقاً جديدة وسياحاً جدداً، فيبكينا مسلسل «سفينة الحرية» السيئ الإخراج، ويجعلنا ننسى كل ما تعلمناه عن سنوات الاستبداد التركي، ورفضنا العربي للخلافة الإسلامية في بلاد أخذت الدعوة القومية لتبرر انفصالها وتمردها على الخلافة.
ولا بأس أن نغلق آذاننا على وصف الأتراك لنا - سابقاً - بالعرب الخونة لأننا حاربنا مع الانكليز ضدهم، فاسطنبول مشتاقة لنقودنا، وأوروبا أغلقت أبوابها مثلما استعصت فيينا على الفتح، هذا هو قدر الأتراك، أن يقفوا دائما على باب أوروبا، من دون أن يدخلوها، ربما إلا كعمال تحتار أوروبا اليوم ماذا تفعل بهم وبأولادهم بعد أن احتاجتهم مصانعها، يوم لم يعد من رجال في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
قبل حوالى عشر سنوات فقط كانت عبارة مسكين عزيز تتردد بين السوريين كنكتة، بعد أن هددت تركيا حدودنا لتأسر أوجلان، فكانت مسلسلات مثل أخوة التراب، ابتدأ بعدها سيل المسرحيات والمقالات المحرضة على الاستبداد التركي، كيف لا وعزيز العربي الذي أنقذ ضابطه التركي من الموت، لا يلقى من الطوراني أي مساعدة، ولم يكن الأمر - في دلالة رمزية - يحتاج من التركي سوى أن يمد يده للعربي الذي رهن روحه لخدمة سيده، لكن الأخير استكثر عليه حتى ذلك الأمر، إنما حتى إشعار آخر فقط.
بقدرة قادر أصبح الأتراك اليوم في سقوط الخلافة شهداء، تماماً كما في سفينة مريم، وأصبح ممثلوهم حاضرين في مسلسلاتنا بعد أن ملأوا شاشاتنا، وأصبح علينا أن ننسى ما تفرقه السياسة بين الشعوب، ونتذكر أننا أخوة بالتراب، وكأن السياسة ليست هي التي تملي علينا أن نتناساها.
رغم كل ذلك ما زال ممثلونا الأشاوس يريدون إرغامنا على تصديق أنهم منورون، يسعون لتوعية المجتمع وكشف سلبياته في مسلسلاتهم الاجتماعية الحديثة، التي ـ سبحان الله ـ لا تخضع لتوجيه، وسعيدة بانفراج الرقابة وتوسيع الحدود.
ولا يهم إن شاهدنا ممثلاُ يسفك الدماء في مسلسل إسلامي لينشر دين الحق، وينادي بأخلاق الإسلام، ويقول للمسلمة يا أختاه، لنراه مع كبسة ريمونت كنترول واحدة في مسلسل اجتماعي معاصر يدعو لأفكار ليبرالية تنتقد الكبت الجنسي وتكاد تدعو لقطيعة مع المجتمع وتروج للمساكنة، فساعة لك وساعة لربك، ساعة دراما إسلامية، أو شامية لا يتردد الأخ فيها عن «شخت» أخته على البالوعة إن شك بأخلاقها، وساعة يعيش فيها صراعاً وجودياً ويعاني عدم التأقلم مع مجتمع نسينا كل مشكلاته الاقتصادية، وفي أفضل الحالات أحلناها على أسباب غير مسبباتها، أو رددناها إلى مسؤول فاسد يغرد خارج السرب.
ودائما لا بأس من الانتقال من مسبة التركي إلى الإطناب في مدحه، أو بين الدعوة إلى الظلامية أو التقدمية، وتفسير تلك الكلمات على الله في زمن أصبح فيه الإيمان به مدعاة للاتهام بالإرهاب، وهو الموضوع الذي تمول جهات بترولية دراماه بعناوين صادمة واحداً تلو الآخر، من دون أن نرى إلا أشباحاً لأولئك المتطرفين، ومن دون أن نسمع وجهة نظرهم، ما نسمعه هو دائما وجهة نظر من صنعهم بأمواله، ومن يسكتهم بأمواله، فدرامانا مثل قضائنا، أبوابه مغلقة، وجلساته مغلقة، ولم لا، ما دام المجرم إرهابياً، لا يهم أن نصبح ديكتاتوريين ما دام الجرم على هذه الدرجة من البشاعة، هذا ما تقوله تطبيقاً درامانا، وهذا ما تطبقه أيضاً محاكم بلاد يتهم فيها الناس بلا محاكمة، ولم لا، ما دام الجرم على هذه الدرجة من البشاعة.
محاضرات
الدراما التي شغلتنا لم تكتف بمساحات تمتد بين شارة بداية ونهاية، بل اتسعت هذا العام لنرى نجومها ينافسون الشيف رمزي، ونسمعهم ـ في برنامج وقت الإفطار يدعوننا للابتسام ـ يئنون من مشكلات الدراما، وصعوبة عملهم، وكيف يعانون في ساعات العمل الطويلة، من دون أن يسألهم أحد عن أجورهم، كيف لا، وكل المقابلات مع نجوم الدراما يجريها نجوم الدراما، ليصبح أولئك المتنورون، دعاة الليبرالية والانفتاح، وتعرية أخطاء المجتمع، هم أنفسهم سلطة فاسدة لا وجود فيها لتعدد السلطات، فالحاكم بأمر الله في المسلسل هو نفسه القاضي في البرنامج التلفزيوني، لنتساءل عما فعلوه في مساحة الحرية المعطاة لهم، وأي درس قدموه في الحياة، أليس استمرار القمع ما دمت قادراً على ذلك! ما دمت قادراُ على إسكات غيرك! أو أصلاً عدم إعطاء مساحة حرية لغيرك، لتتيح إنتاج مونولوجك الدرامي في إعادة توليد لروح المونولوج السياسي، وبهذا نتلقى تربية درامية بعد أن تلقينا تربية سياسية عقائدية، وعقائدية عقائدية، وكلها مونولوجية.
المغني العالمي ستينغ المعروف بأغانيه السياسية والاجتماعية المناصرة للإنسان إضافة لأغانيه عن الحب، والذي أنشأ من أمواله منظمة للدفاع عن غابات الأمازون رفض تسمية مغن ملتزم، ووصف نفسه بأنه مرفه Entertainer ، أما فنانونا حتى الشباب منهم الذين لم يعانوا، وولدوا في زمن الأجور العالية يصرون على إعطائنا محاضرات في الدراما ودورها المجتمعي، والأدهى أن التلفزيونات تسمح لهم بذلك، وكأن لا هم لنا إلا نقيقهم المزعج في بلادنا التي يصل معدل الأجور فيها إلى 200 دولار شهرياً بينما يمثل أحدهم بضعة مسلسلات في موسم واحد يبلغ أجره عن كل منها 100 ألف دولار، هذا إن لم يذهب أحدهم إلى مصر ليقبض أضعاف المبلغ، مسلسلات وممثلون يدعون إلى الشفافية في المجتمع، ويرفضون التصريح بما يدفع لهم، ولا نرى أي واحد منهم يتكلم عن سرقة بعض شركات الإنتاج - التي يفخمونها - للحقوق الأدبية للأعمال العالمية، أو حتى لكتاب شباب يبعثون لوحات تلفزيونية لمسلسلات تنتقد الفساد فيما هي غارقة فيه حتى آذانها، لا هذه الأمور لا تهمهم، فالشيكات تأتي من هناك، كيف لا وهناك هو الذي تأتي منه الشيكات، وإليه تصل الأوامر بمدح الأتراك أو ذمهم، بتوسيع النقد للمجتمع المحافظ أو تمجيده، بضربة على النعل أو على الحافر، أو على رؤوسنا.
باص يذهب من الكراجات وآخر يعود، بعضهم ينتظره وآخرون يركبونه فيصلون، أو يظنون أنهم يصلون ليجدوا أمامهم مشواراً آخر وباصاً آخر ينتظرونه في الكراجات، فيما مراقب نيوتن يراقب، فهو ليس بالضرورة أحد القوى المؤثرة فيزيائياً في الحدث، إنه غالباً ليس صانع الحدث، بل مجرد مراقب لما يحدث في كراجات الدراما، وهو ما عاد قادراً على الثقة ليس في الرواية الرسمية أو غير الرسمية لحدث تاريخي بعيد أو قريب، بل حتى بالنشرة الجوية التي تخبرنا أن الحرارة ما زالت بشروط سياحية، وهي أبسط الكذبات وأجملها، فهي تشعرنا بانتعاش كاذب، وتحجب عنا الشعور بالاختناق، تماماً مثل كل كذبة نعيشها لتصبرنا وتجعلنا ننزوي سوية في الظل كما الغنم.

وائل يوسف

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...