معرض الكتاب في دمشق: الانسحاب من المدينة
انتهت أخيراً في دمشق فعاليات معرض الكتاب في دورته الخامسة والعشرين. وقد انسحب المعرض مجدّداً، وكان جرّب من قبل وعرف النتائج، من قلب المدينة، حيث اعتاد الناس انعقاده في محيط مكتبة الأسد في ساحة الأمويين، ليبتعد إلى مدينة المعارض، القابعة في خلاء شاسع في محيط دمشق، والتي لا يزورها إلا المعنيون بمعارض بعينها. أما المعنيون بمعارض الكتاب، الذين قطعوا كل هذه المسافة إلى مدينة المعارض، فهم قلّة، من بينهم مثقفون ومتدينون، والأهم تجار الجملة. والمعرض يبدو اليوم تفصيلاً على قياس هؤلاء، وهذه هي الميزة الأبرز لانسحاب المعرض من وسطه الحيوي. لقد تحول من معرض للعموم إلى معرض لتجار الجملة. وفي ذلك، بدايةً، انتكاسة كبيرة، خصوصاً لجهة عيش الناس الثقافة والعلاقة مع الكتاب كطقس. ربما كان أجمل ما في معرض الكتاب في محيط مكتبة الأسد هذا اللقاء اليومي، لا سيما بين مثقفين لا يلتقون إلا بالصدفة، اللقاء الذي قد لا يتكرر إلا مرة في العام.
صحيح أن معظم أصحاب دور النشر يشيدون بمساحات أوسع أعطيت لهم، ما يعني طريقة أحسن في عرض الكتاب، وإلقاء الضوء عليه. لكن، أين جماهير الكتاب قبل ذلك؟ أولئك الذين يحتاجون إلى أن يحشر الكتاب في أنوفهم، ويريدون سبباً يتذرعون به للهروب، كأن أسباب انقطاع الثقة بين الناس وجليسهم الأثير لا تكفي؟ إن أسباباً أخرى تحول اليوم بين الناس والكتاب، أولها بعد المسافة الذي هو كلفة قبل أي شيء، كلفة لمن يطلبون حسومات أكثر، لكن الأهم من المكان هو توقيت المعرض، فبسبب مجيء رمضان المبكر والمربك، الذي صادر شهر أيلول، شهر المعرض، جاء المعرض في آب، حيث الناس، والطلاب خصوصاً، في عطلتهم، في المدن البعيدة. لكنه أيضاً شهر المونة، وشهر الإعداد لرمضان، وكذلك لمستلزمات المدارس، كل ذلك جعل من أجنحة المعرض شبه خالية من الناس. ولطالما شكا الناشرون من عدم البيع نهائياً من الساعة الواحدة ظهراً، وقت البداية اليومية، وحتى الخامسة مساء. يبقى إذاً خمس ساعات هي الزمن المتبقي للبيع.
أما حسن التنظيم فيتعلق بالمساحة فقط، ولا يتعداها إلى ترتيب طرق سهلة للوصول إلى الكتاب. فعلى الرغم من أن على باب كل جناح كمبيوتر للبحث عن الكتاب الذي تريد، إلاّ أنه ثبت أن الكمبيوترات لا تحتوي على كل العناوين الموجودة: جربت البحث عن كتب الروائي المصري صنع الله ابراهيم، فلم أجد كتاباً واحداً، ولا حتى في دور النشر المصرية، ولا ندري سبباً لذلك. ولدى السؤال الشخصي، وجدنا كتاباً واحداً من منشورات «المدى» هو «شرف». كذلك لدى السؤال عن كتاب «القمح والزؤان»، الذي يتناول حقبة حكم بورقيبة لتونس، لم نجده، ولم نجد طريقة للعثور عليه، ولا نعرف كيف العثور على كتاب رائج إلى هذا الحد في بلده في معرض عربي للكتاب. كذلك لا تفكر الجهة المنظّمة للمعرض (مكتبة الأسد) بتنظيم استطلاعات وإحصاءت لأحوال الكتاب قد تساعده هو نفسه في تطوير معارضه التالية.
ثم لا ندري لماذا الغياب للإعلان اللائق لمعرض الكتاب، وهو الأكثر احتياجاً لذلك. ألأنه من ترتيب جهة رسمية وسيكتب له أن يكون متجهماً وحزيناً، في الوقت الذي نجد أن الجهات الخاصة التي راحت تصادر الفعاليات الرسمية تحوّل أصغر الفعاليات إلى أحداث ضخام أكبر من حجمها.
لم أرد أن أصدق كلام زميلة مصرية وصفت معرض الكتاب في دمشق بأنه ليس سوى جناح في معرض القاهرة، ولكنني وددت لو أن المعنيين يفكرون بذلك، خصوصاً أولئك الذي يرون أن دور دمشق عاصمة للثقافة ينبغي أن يستمر. كيف ذلك مع هذا الدور الرهيب للرقابة التي ما زالت تدرج على قائمتها ممنوعات الأمس، وأحياناً بشكل اعتباطي، مثلاً كل كتب حازم صاغية غير متوفرة، حتى لو كان بعض كتبه مجرد أحاديث أدب وذكريات.
بإمكان معرض الكتاب في دمشق أن يكون علامة بارزة في المشهد الثقافي العربي، على أن يعود إلى حضن المدينة، وعلى أن تعود إليه فعالياته التي كانت في ما مضى تحتضن كبار الأسماء، وعلى أن يتخلى عن فكرة الرقابة على الكتاب، فربما تعود ثقة الناس إليه. ولكن من الغريب حقاً، لماذا تظهر مبادرات ثقافية وفنية مبتكرة، على صعيد مسرح الشارع مثلاً، وعروض الموسيقى التي تستضيف أسماء بارزة، ويدفع لها الناس الشيء الفلاني، فلماذا لم تظهر بادرة واحدة تسلط الضوء على السلعة الثقافية الأخطر على الإطلاق، الكتاب؟
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد