مقاهي بغداد: شاي وأركيلة وجثامين
تلتفت يميناً ويساراً. يشعرك المقعد بوخزات سريعة، أما العرق الذي يلتمع على جبينك فلا تعرف إن كان مصدره الحر الشديد أم الخوف. تشرب شايك سريعاً، وتنتظر صديقاً تتمنى ألا يتأخر عن موعده. تقع صينية الشّاي من صبّي المقهى مخلفة ضجيجا مفاجئاً. تنكسر الأقداح. سرعان ما يخفق قلبك بدقات متسارعة، وتضيق أنفاسك، ويصفرّ وجهك: هذا مشهد لشاب يجلس في مقهى بغدادي.
تحوّلت مقاهي بغداد إلى مشاريع موت جماعي لتجار الدم والميليشيات المتصارعة. فالمكان الوحيد المتبقي للشباب العراقيين ليقضوا أوقاتهم فيه، بات مهدداً من قبل المدججين بالعقيدة.. والديناميت.
لم تعد جلسة المقهى مريحة مثلما كانت في السابق. لا بد أن يرنَّ هاتفك مراراً ليسألك أهلك - هم الذين يعرفون إدمانك المقهى - عن مكان وجودك. وستضطر إلى أن تكذب، لأنهم لو علموا بأنك في مقهى، فمن الطبيعي أن يرتفع ضغط والدك، وأن يرتفع السكر لدى والدتك فتبدأ بالهلوسة، ومن المؤكد طبعاً أن أخاك سيركب سيارته ويأتي مسرعاً إليك لتوبيخك، باعتبار أنك تسببت بموجة رعب في المنزل بعدما عرّضت حياتك للخطر. قد تظن أن هذا لا يهم، فهو خيارك، لكن عليك أن تنتبه إلى أن خيارك هذا سيحيل البيت إلى مكان يشبه ردهة المستشفى.
كل هذا الخوف لم يأتِ من فراغ. تفجير المقاهي الشعبية في العراق أصبح أمراً مألوفاً، والجثث المحترقة التي تخلفها التفجيرات وتتناقل صورها الهواتف أصبح شبه عادي. أغلفة الـ«فايسبوك» بدورها تتغير بعد كل انفجار. أحد المصممين، سريع العمل بتصميم تلك الأغلفة، يضع صور جميع الشبان الذين قضوا في انفجار المقهى المستهدف، ويكتب تحتها أسماءهم وأعمارهم. هكذا تحوّلت بعض صفحات الـ«فـايسبوك» إلى حائط كتابة تعريفي للدلالة على «مقر العزاء» الذي سيقام على روح أحد الضحايا الشباب.
***
أول تفجير استهدف مقهى كان غربي بغــداد، في منطــقة العامرية، وأسفر عن مقتل 27 شخصاً وإصابة 51 آخــرين بجــروح في نيســان الماضــي. تلــته تفجــيرات أخــرى فــي العاصــمة بغــداد وفي محافظــات أخــرى. واستمرت ماكينــة حصــد الأرواح لتصــل إلى آخر تفجير في منطقة الأعظــمية شمــالي بغــداد، والذي أســفر عن مقتل شخــص وجــرح 31 آخرين. وعــلى الرغــم من انتــشار خطر الموت، إلا أن الشباب لم يتخلوا عن الذهاب إلى المقهى، فهو ملاذهم الوحيد. إذ أين يذهبون في مدينة منغلقة على نفسها، متنزهاتها خربة، وسينماتها مقفلة، وملاعبها متآكلة؟ أين سيهربون من حنق الآباء في المنازل جراء المعيشة الغالية التي ترتفع كل يوم؟
أين سيذهب الشاب ما دام لا يستطيع العثور على فتاة، في مجتمع أخذ ينغلق على نفسه يوماً بعد آخر، ليمضي معها وقتا جميلاً؟
***
ليست وحدها الميلشيات من تقوم بإعادة الشباب إلى بيوتهم قسراً. الحكومة تساعد في ذلك أيضاً. ففي شهر رمضان الفائت قامت إدارة محافظة بغداد بإغلاق مقاهٍ عدّة، وأعطت للعشائر الإذن بإغلاقها إذا حاولت فتح أبوابها سراً، ما تسبب بنشوب قتال كبير بين العشائر وأصحاب أحد المقاهي. أسفر ذلك عن مقتل شاب في العشرينيات. وبعد أن سال الدم سارعت المحافظة إلى نفي علاقتها بالأمر، كما سارع التيار الصدري، الحزب الديني ذو الخلفية الراديكالية، والذي يرتبط به المحافظ، إلى الانضمام لتحرك مدني ضد الإغلاق، من أجل إبعاد التهمة عنه!
***
بعد ارتفاع حدة تفجيرات المقاهي وتنكّر قادة الأحزاب السياسية ورؤساء فرق الموت لها، عمدت الميليشــيات الدينــية إلى اتبــاع وسيلة أخــرى. «التشجيــع على الرذيلة» أصبحت تهــمة كافــية لأمر أصحاب المقاهي في المناطق الشعبية بإغلاقهــا. يشعر المرء أن كل ذلك يحصل برضى الحكومة، لمَ لا؟ شباب لا يتواصــلون بعضــهم مع بعض، ويلتزمون منازلهم ويشاهدون القنوات الفضائية الطائفية المدعومة من الأحزاب المشاركة فيها، يعفي ذلك السلطة من أي ضغط أو انتفاضة شبابية جراء ما يتعرضون له من تهميش في القرار السياسي، بالرغم من تشكيلهم 50 في المئة من نسبة السكان بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، مع بطالة وصلت نسبتها إلى 21 في المئة، وفقر يعاني منه 23 في المئة من السكان.
يقول أحد الشبان ساخراً، وهو يودّع أصدقاءه الذين آثروا الجلوس في مقهى، إنه لا يرى أصدقاء هنا وإنما يعدّ نعوشاً تصطف مغطاة بأعلامٍ جديدة وبراقة. لكن أي أكتاف ستحملكم لو فجّر أحد نفسه بينكم.. يسأل الشاب أصدقاءه!
عمر الجفّال
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد