ملاحظتان؛ الهذيانات... والبديل الواقعي
(1)
«الهذيان هو تشويه ذاتي للواقع، مترافق مع قناعة الهاذي العميقة به. هو إحساس أو حكم أو عاطفة جميعها مغلوطة، لكن الهاذي لا يجعلها موضع تساؤل أو شك، ويتمسك بها بقوة كبديل عن الواقع الخارجي» (ميشيل هانوس، نقلا عن العفيف الأخضر).
(2)
ثلاثة أرباع الكتابات والمواقف السياسية التي يتحفنا بها نشطاء وكتّاب، ينطبق عليها هذا التعريف؛ لذلك، فهي تصلح كوثائق للتحليل النفسي، أكثر مما تصلح للسجال المحكوم بالمنطق والمعطيات الواقعية.
من المؤسف، بالنسبة لكاتب هذه السطور الذي يجتهد في تقديم رؤى وأفكار جديدة في سياق يتطلب الحوار العلمي، أنه يحصد الكثير من الردود العُصابية الهاذية. وبما أن التحليل النفسي ليس من اختصاصي، فإنني أُهمل هذه الجوانب، إنما أحاول التقاط بعض الموضوعات التي يمكن تصويبها من بين الركام الهذياني.
(3)
قلنا، مراراً، إن الخطاب السياسي للمعارضة الوطنية السورية يقع في باب الهذيان، ولم نقصد الشتيمة، وإنما توصيف خطاب منفصل منكفئ على أفكاره وعواطفه وخيالاته الداخلية، ومنفصل عن الواقع الخارجي، بحيث لا تصيح موضع تساؤل أو شك. خلافاتنا مع ذلك الخطاب ـــ وليس الأشخاص حتماً ـــ يمكن تلخيصها كالتالي: أولا، عما إذا كانت مسؤولية الحرب السورية، ناجمة، جوهرياً، عن قرار الحل الأمني ـــ العسكري السوري، أنها ناجمة عن عدوان خارجي يستهدف الموقع الجيوسياسي للدولة السورية ودورها الإقليمي وسياساتها المناوئة للغرب وإسرائيل؟ ثانيا، هل يمكن للجيش العربي السوري وحلفاؤه حسم تلك الحرب أم لا؟ ثالثاً، هل المهمة رقم واحد في سوريا اليوم هي للسجال الاصلاحي أم لمجابهة الإرهاب التكفيري والغزو التركي ومساعي العدو الإسرائيلي لإقامة كيان عميل في القنيطرة؟ رابعاً، هل الأولوية اليوم في سوريا للمفاوضات مع النخب أم للمصالحات الميدانية؟ هل بقي الموقف الروسي القائل بإمكانية تسوية مع المعارضة بمختلف ألوانها، وفي مقدمها «ائتلاف اسطنبول»، قائماً أم أنه تصلب لجهة دعم استراتيجية الحسم؟ وتنبني على الإجابة على هذه الأسئلة المواقف الهذيانية أو الواقعية المسؤولة إزاء النظام السوري: التحالف معه أم معارضته وابتزازه؟ تأييد الدعم الذي يقدمه حزب الله والسوريون القوميون للجيش السوري أم مطالبتهما بالخروج من سوريا وميدان القتال؟
من حسن الحظ أن الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وهو يتمتع بالصدقية حتى لدى أعدائه، قدّم إجابات واضحة، معلوماتية وواقعية وميدانية، عن كل تلك الأسئلة:
ــــ المساومة الغربية مع القيادة السورية هو حول خروجها من محور المقاومة، مقابل وقف الحرب، والمصالحة.
ــــ امكانية اسقاط النظام وتقسيم الدولة السورية «أصبحت وراءنا».
ــــ الأولوية، الآن، لمقاومة التكفيريين والإسرائيليين. وهو ما يحدد الخندق الذي يمكن للوطني أن يقف داخله.
ــــ روسيا، خصوصاً بعد المجابهة في أوكرانيا، تتجه إلى المزيد من التصلب في دعم الرئيس بشار الأسد، وليس، فقط، نظامه.
وبالنسبة لليساريين، هناك بالطبع السؤال المركزي: هل نصطف مع المعارضة اليسارية مع الليبرالية ضد النظام، مستعينة بالقوى الدولية ومستغلة مصاعب الموجهة مع الغزاة التكفيريين، أم تتمسك بالمعارضة الاجتماعية المثابرة، لصالح الكادحين، داخل خندق الدولة السورية نفسه؟
(4)
يثير الصعود الداخلي والإقليمي للحركة الوطنية الأردنية، وخصوصاً جناحها اليساري، صدمة واقعية للعصابيين الهُذاة؛ يرفضون هذا الواقع، فيلجأون، تحت ستار الهجوم على النظام الملكي، إلى خطاب بنيامين نتنياهو حول الأردن: ليس كياناً في ذاته، ولا دولة وطنية، ولا مجتمع له هوية، ولا تخترقه الصراعات الاجتماعية الوطنية من داخله؛ بل هو، في كتاب نتنياهو «مكان تحت الشمس»، جزء من إسرائيل التاريخية، تنازل عنه الصهاينة للعرب؛ يغدو، عند العصابيين الهُذاة، جزءاً من فلسطين التاريخية، بلا ذاتية وطنية، تنطبق عليه النظرية الصهيونية بالمقلوب: «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب»، ويغدو المدافعون عن الدولة الوطنية الأردنية، والعاملون لاستقلالها وتجديدها ووضعها في سكة محور المقاومة، «ملكيين»؛ لا يوجد أردن، بل إن «قوميين»! يسمونه، كما في التوراة، «عبر الأردن»، ويقررون: إنه دولة «وظيفية». حسناً، إذا كانت للدولة الأردنية من وظيفة، فهي الاستيعاب الاقتصادي والسياسي للاجئين ( 1948) والنازحين (1967) والمهاجرين (حتى اليوم) من فلسطين، واسقاط حق العودة. وهذا ما يرفضه الوطنيون الأردنيون.
للفلسطينيين في الأردن حقوق سياسية، ولكنها لا تكمن في الاستيلاء على الدولة الأردنية ــــ كما لا يزال البعض يهذي علناً، وإنما في مقاومة إسرائيل، بثلاثة شروط: احترام سيادة الدولة الأردنية، والاعتراف بالحركة الوطنية الأردنية، والالتزام بممارسة سياسية فعلية على أساس التمسك بحق العودة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وهذا هو جوهر الموقف السياسي للحركة الوطنية الأردنية، منذ نهاية الستينيات؛ رفضته المنظمات، العام 1970، فأعطت للنظام فرصة ذهبية لطردها من البلاد.
(5)
الوطنيون الأردنيون، في ميدان الصراع الفعلي، أدرى بالمعادلات المحلية والاقليمية والدولية التي تحكم حجم ومدى وعمق التغيير السياسي في بلدهم. وهم يتمسكون بالتغيير ــــ مهما كانت التضحيات ــــ ولا يغامرون بالبلد، مهما كانت التدخلات والإغراءات.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد