من إدلب إلى شرق الفرات: الميليشيات طريقٌ نحو «سوريا الغد»!
ثمة وضعٌ جديد آخذٌ في الارتسام في اثنتين من المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية، وهما على وجه التحديد «جيب إدلب»، ومناطق شرق الفرات. وعلى رغم التباينات الكبيرة بين تركيبة السيطرة في كلّ من المنطقتين في الوقت الراهن، فإن المعطيات توحي بتهيئة كلّ منهما لدخول مرحلة جديدة من «عسكرة الشارع»، وبخطوات متزامنة ومتشابهة في شكل لافت. وخلافاً لما بدت عليه الصورة في العام الماضي (2018) من اشتغال على خفض عدد الكيانات الميليشيوية، وسعي نحو مأسستها في شكل يستنسخ هيكليات الجيوش النظامية توحي المؤشرات اليوم بنزوعٍ نحو توليد عشرات الكيانات المسلّحة الصغيرة، وبطريقة تُذكّر بمرحلة «ازدهار» التمدد الأفقي للعسكرة في المجتمعات الخارجة عن سيطرة دمشق (خاصة بين عامي 2013 و2016).
الجديد اليوم هو وجود قوّة مُستترة، تعمل على ضبط وإدارة ذلك التمدد في إدلب وشرق الفرات على حدّ سواء. وخلال الشهر الأخير، شهدت مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» تشكيل مجالس عسكرية عديدة في معظم مناطق شرق الفرات، مثل عين العرب (كوباني)، وتل أبيض، والطبقة والرقة، والقامشلي والهول. ومن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة الإعلان عن تشكيل ثلاثة مجالس أخرى على الأقل. ولا يبدو من المصادفة في شيء تزامن هذه التشكيلات مع إقرار «قانون الدفاع الذاتي» الذي يُنظم «الخدمة الإلزامية» في المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد». وفيما حرصت «قسد» على تصدير الخطوات المذكورة بوصفها «إعادة هيكلة» لقواتها، تشير معطيات متقاطعة إلى أن المسار قد رُسم بعناية بعد مناقشات مطوّلة بين مسؤولين في أربعة من دول «التحالف الدولي»، هي الولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية، والإمارات. ويؤكد مصدر سوري كردي أن «وصفة المجالس كانت شرطاً سعودياً إماراتياً للمساهمة في دعم قسد، والهيئات المدنية التي تدور في فلكها، مع ضمان توجيه الدعم نحو هذه المنطقة أو تلك في شكل مؤكد».
ويبدو بديهياً ربط هذه المعطيات بالخلافات التي احتدمت قبل فترة في مناطق «قسد»، بين المكوّنين الكردي والعربي العشائري على وجه الخصوص. لكنّ مصدراً قيادياً في «قسد» يرفض هذا الربط، وينفي صحة أي حديث عن أدوار خارجية في «إعادة الهيكلة». يؤكد المصدر أن «المسألة تنظيمية بحتة، وهي جزء من آليات إدارة المناطق بأيدي أبنائها، عسكرياً وخدمياً، وعلى جميع الصعد الأخرى». ثمة تفصيلات لافتة في هذا السياق تستوجب الإشارة إليها، وعلى رأسها حرص «القائد العام» لـ«قسد»، مظلوم عبدي، على توجيه «رسائل قوة» إلى دمشق، من قبيل قوله في خلال جلسة للمصادقة على «قانون واجب الدفاع الذاتي» إن «الدولة السورية بدون مناطق شمال وشرق سوريا ستكون دولة فاشلة»، وإن «على النظام الاعتراف بالإدارات الموجودة، والاعتراف بخصوصية قوات سوريا الديمقراطية ومسؤوليتها الكاملة عن الملف العسكري والأمني في مناطق الإدارة الذاتية». وغير بعيد عن هذا الإطار، جاء توقيع «قسد» أواخر الشهر الماضي لتفاهم، هو الأول من نوعه، بينها وبين «المجتمع الدولي»، في صورة «خطة عمل مشتركة مع الأمم المتحدة» في ما يخص ملف «تجنيد الأطفال».
ويبدو جلياً أن الملامح الجديدة لسياسات شرق الفرات قد أُقرّت بشكل فعلي إبّان اجتماع «المجموعة المصغرة» (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن ومصر) الذي عُقد في باريس (24 حزيران الماضي). وتشهد باريس حراكاً مستمرّاً، معلناً وغير معلن، بغية منح «قسد» و«الإدارة الذاتية» والكيانات المرتبطة بهما جواز مرور نحو «مظلة الشرعية الدولية». كذلك، تبدو العاصمة الفرنسية على موعد للتحول في الشهور القادمة إلى مركز نشاط أساسي لـ«قسد» والكيانات المرتبطة بها، في إطار السعي إلى «التشبيك مع جهات وشخصيات مُعارضة من خارج مظلة قسد». وكان «مجلس سوريا الديموقراطية/ مسد» قد عقد أخيراً «ورشة عمل» في باريس، هي حلقة في إطار سلسلة ورشات، سيتم تتويجها بعقد «مؤتمر القوى المعارضة الديموقراطية».
ماذا عن «جيب إدلب»؟
إذا كان كلّ ما تقدّم متوقعاً في إطار تمسّك واشنطن و«التحالف الدولي» بالهيمنة على مناطق شرق الفرات، فإن اللافت هو تزامن ترتيبات مناطق «قسد» مع أخرى مشابهة في «جيب إدلب»، تحت العنوان نفسه: «التمدد الأفقي لعسكرة الشارع». وتشهد إدلب تشكيل عشرات الكيانات العسكرية الصغيرة، والتي بدأت بواكيرها في نهاية شهر أيار الماضي، عبر الإعلان عن تشكيل «سرايا المقاومة الشعبية»، وهي مجموعات تابعة إدارياً لـ«مجلس شورى الشمال المحرر». وحتى اليوم، تولّدت عن ذلك «الجسم الجامع» سبع «لجان فرعية»، و13 «سرية عسكرية» متوزعة بين قرى وبلدات «جيب إدلب»، إضافة إلى ستّ «سرايا عسكرية عشائرية»، تم تشكيلها بالتوافق مع «مجلس شورى القبائل والعشائر». ويقوم نهج التشكيل، في هذا الإطار، على «الاكتفاء بسرية صغيرة تمثل كل قبيلة وعشيرة»، حتى ولو كان ولاء السواد الأعظم من أبنائها مُعلناً لدمشق.
وخلافاً لما هي عليه الحال في شرق الفرات، فإن الرعاية الاقتصادية لهذه «السرايا» ليست سعودية ــــ إماراتية، بل هي قطرية. وتتباين آراء المنخرطين المحليين في توليد تلك الكيانات حول أهدافها الحقيقية. ففيما يؤكد مصدر من «مجلس شورى الشمال المحرر» أن «الغاية الأساسية دعم الإخوة المجاهدين («النصرة» وحلفائها) في صدّ بَغي النظام»، يقول مصدر من داخل «اللجنة الفرعية في إدلب وريفها» إن الهدف الأساسي «استعادة الثورة إلى أيدي أبنائها، وكفّ أيدي الفصائل المتطرفة عن الهيمنة عليها»! أما على أرض الواقع، فإن تقاطع معظم المعطيات المتوافرة يبدو كفيلاً بتأكيد ما أشارت إليه قبل شهر ونصف شهر، من انخراط أنقرة في نشاط حثيث لـ«إعادة ترتيب أوراق إدلب»، بموجب توافقات خفيّة مع واشنطن
«المجلس التركماني» في حلّة جديدة
دخل «المجلس التركماني السوري» دائرة «إعادة الهيكلة» المتسارعة. وأعلن «المجلس»، يوم الإثنين، عن خطوات جديدة، تأتي في جوهرها منسجمة مع «المشروع» الجديد. وقال في بيان إنه «يجد ضرورة في إعادة هيكلة وتنظيم المجلس بما يتماشى مع التطورات التي تشهدها الثورة»، رابطاً ذلك بـ«قيام الأطراف المنخرطة في الحالة السورية بمراجعة مواقفها وتجديد استراتيجياتها».
وأعلن أنه نقل مقره إلى الداخل السوري (ريف حلب الشمالي)، لافتاً إلى أنه بات «من غير الممكن تمثيل جميع تركمان سوريا من خلال النظام الداخلي للمجلس وهيكليته الحالية، لذلك تم وضع نظام داخلي جديد». وبحسب البيان، فقد «تم إعداد النظام الداخلي الجديد وفقاً لمعايير القانون الدولي، ويتضمن موادَّ من شأنها تسهيل إدارة المجلس التركماني السوري داخل الأراضي السورية وعودة تركمان سوريا إلى وطنهم».
الأخبار - صهيب عنجريني
إضافة تعليق جديد