من يسعى لتفكيك «أحرار الشام» من الداخل؟
استعرت في الآونة الأخيرة عمليات الخطف والاغتيال التي تطال قادة الصف الأول من مختلف الفصائل المسلحة في سوريا. لكن «حركة أحرار الشام الإسلامية» كان لها نصيب الأسد من هذه العمليات، ما دعا بعض المسؤولين فيها إلى التحذير من وجود جهود استخبارية تسعى إلى تفكيك الحركة من الداخل، عبر تصفية كوادرها.
ولم يعد ثمة شكّ في أن «أحرار الشام» باتت تمثل بيضة القبان في ميزان العمل العسكري المناوئ للدولة السورية، وتتجه إليها أنظار جميع الأطراف الداخلية والخارجية الفاعلة في الحرب الدائرة في سوريا. فالبعض يريد استقطابها لترجيح كفة الحل السياسي، والبعض الآخر يريد الإمساك بآخر الخيوط التي تربطها مع تنظيم «القاعدة» لتعزيز موقعه، وآخرون يريدون امتطاءها مؤقتاً ريثما يؤمنون لأنفسهم مطية أفضل، وهناك من يريد تقويضها وتفكيكها لتقوية فصيل آخر أو لسبب مختلف. والحركة بين هذا وذاك تتعرض لتجاذبات شديدة، أدت إلى تصدّع بنيتها الداخلية، وتشوّه بنيانها العقائدي، وضياع قادتها على مفترق الطرق الذي تقف عليه الحرب السورية.
وتعرضت الحركة مؤخراً لسلسلة من عمليات الاغتيال التي طالت قادةً نافذين يتولون مواقع حساسة أمنية وعسكرية، من أهمهم المسؤول العام للتصنيع العسكري ونائبه وغالبية فريقه. كما اغتيل منذ وقت قريب الطبيب والقيادي في الحركة عمر الحجي مدير مستشفى «الريح المرسلة».
وأمس الأول، جرت محاولة لاغتيال القيادي أبو محمد يحيى على مفرق باتبو كللي بريف إدلب، وهو مسؤول قسم التحصين في الحركة. وقبل ذلك حاول مجهولون اغتيال القيادي أبو جابر بنش الذي استلم قيادة «لواء الحسين» خلفاً لـ «رئيس أركان» الحركة إسلام أبو حسين الذي اغتيل في نيسان الماضي. كما جرت محاولة لاغتيال مسؤول التسليح في مدينة جيرود بريف دمشق. هذا عدا القصف الذي استهدف أحد معسكرات الحركة، وسقط جراءه عشرات القتلى، من بينهم مدربون عسكريون في الحركة، كذلك مقتل ستة من كوادرها أثناء تواجدهم على خطوط التماس مع بلدة كفريا المحاصرة.
إثر هذه الاغتيالات ومحاولاتها، خرجت تصريحات لافتة من بعض مسؤولي الحركة تحذر من وجود مخطط لتفكيك الحركة من داخلها. فقال مدير العلاقات الخارجية لبيب النحاس أن تنظيم «داعش» والاستخبارات العالمية تسعى إلى اغتيال الشخصيات في «أحرار الشام» وتفكيكها من الداخل عبر الاختراقات الأمنية والفكرية، والانقلابات.
وجاء ذلك في تغريدات نشرها النحاس على حسابه في «تويتر» قال فيها «تتعرض الفصائل الثورية عموماً، وأحرار الشام بشكل خاص، إلى حملة ممنهجة إعلامية وأمنية لإسقاط الحركة وتشويه صورتها وتصفية كوادرها المؤثرة». وأضاف إن «استهداف قيادات وكوادر أحرار الشام، من قبل النظام وداعش وأجهزة استخبارات عالمية، أصبح أمراً مكشوفاً بلغ ذروته يوم 9 أيلول 2014، وتلجأ هذه الأطراف إلى اغتيال الأشخاص والشخصيات، وتفكيك الجماعة من الداخل عبر الاختراق الأمني والفكري والانقلابات».
كذلك قال خالد أبو أنس، أحد مؤسسي الحركة الأوائل، ومن اشد المؤثرين على سياستها وتوجهاتها، إن «حرباً جبانة شرسة بكل معنى الكلمة تشن على أحرار الشام، وتستهدف القيادات والكوادر عن طريق العبوات وعلى مدار الساعة». وأضاف «اللهم افضح الخونة واكفنا شرهم».
وقد تكون إشارة لبيب النحاس إلى النظام و «داعش» والاستخبارات العالمية مفهومة وطبيعية بمثل هذه الظروف، إلا أن تلميح أبو أنس إلى الخونة يحمل دلالات خاصة، لاسيما أن الرجل من مؤسسي الحركة ومن العارفين بأدق تفاصيلها وخفاياها، ولم يعرف عنه في السابق أنه يدلي بكلام اعتباطي. هذا علاوة على أن كلام النحاس يشير أيضاً إلى أن الاغتيالات تستهدف نوعية معينة من قادة الحركة ممن يؤثر غيابهم على جناح النحاس السياسي ومدى نفوذه، وهو ما يصفه البعض بأنه استهداف «للقادة المعتدلين» في «الأحرار».
ما سبق يعني ببساطة شديدة، أن ثمة شكوكا في الحركة بأن الاغتيالات السهلة، التي تطال قادتها وكوادرها، لا يمكن أن تحدث بمثل هذه الكثافة التي حدثت بها مؤخراً، إلا إذا كانت تلاقي تسهيلات ومساعدات من بعض أعضاء الحركة.
ويبدو أن وجود «الخونة» ليس هو السرّ الذي تحاول الحركة إخفاءه، بل السر هو كثرة أعداد هؤلاء الذين تسميهم «الخونة» وعدم إمكانية تحديدهم وضبطهم، وكذلك تولي البعض منهم مناصب عليا ضمن الحركة. ومن السوابق التي تؤيد ذلك، أن أحد المتورطين باغتيال يعقوب عمر «قيادي في جبهة النصرة» كان «أميراً شرعياً» في «أحرار الشام»، كذلك كان اثنان من المتورطين في محاولة اغتيال قائد «لواء العباس» التابع للحركة من أعضاء الحركة نفسها.
ألا يتطلب ذلك إعادة النظر في قضية الاغتيال الجماعي الذي طال قادة الحركة، وكذلك قضية اغتيال القيادي البارز أبي خالد السوري؟
الواقع أنه منذ اغتيال قادتها الجماعي أواخر العام 2014، والحركة تحاول تمويه التصدع الذي أصاب صفوفها من خلال غطاء «تداول المناصب» وضرورة «ضخ دماء شابة»، فيتم تعيين قيادات جديدة كل فترة من الزمن، وهو ما لم يكن موجوداً في عهد القيادة القديمة التي اغتيلت، حيث لم يفكر أحدٌ آنذاك بتغيير قائدها العام أبو عبدالله الحموي أو غيره من قيادات الصف الأول. لذلك فإن الاغتيال الجماعي الذي شهده المقر صفر في رام حمدان في أيلول 2014 مازال يشكل اللغز الذي يمكن أن يؤدي الكشف عن ملابساته وخلفياته إلى اتضاح الكثير من أسباب وتداعيات التغييرات التي طرأت على الحركة منذ ذلك التاريخ.
وكان من اللافت أن الحركة لم توجه أصابع الاتهام باغتيال قادتها إلى النظام السوري، ولا إلى تنظيم «داعش»، كما كان متوقعاً، بل اكتفت بالإيحاء بوجود يد لجهاز استخبارات أجنبي، ليُقفل بعد ذلك ملف التحقيق في هذه القضية التي كان قادة الحركة الباقون قد وعدوا بالكشف عن جميع ملابساتها، والجهات التي تقف وراءها خلال وقت قصير، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
قد يكون لدى بعض قيادات الحركة معلومات من شأنها أن تشير إلى جهاز الاستخبارات الذي اضطلع باغتيال قادتها، وفي هذه الحالة يكون السؤال الجوهري، لماذا لا يتم الكشف عنه وعن الدولة التي يتبع لها؟ هل هو صديق للحركة أم أنه عدو؟.
وقد يكون الاحتمال الثاني أن توجيه الاتهام بشكل عمومي وفضفاض إلى جهاز خارجي، من دون تحديده، ما هو إلا وسيلة لإخفاء حقائق، من شأن الكشف عنها توجيه ضربة قاضية للحركة.
وواحدة من هذه الحقائق التي يمكن أن تكون قد أخفيت هي أن بعض المتورطين في عملية الاغتيال هم قادة في الصف الأول من الحركة. وهذا ليس أمراً مستغرباً، لأن ثمة شبهات كبيرة في أن اغتيال «أمير» الحركة في حلب أبي خالد السوري اشترك فيه عدد من قيادات الحركة عبر تسهيله وضمان عدم عرقلته، وكانت الغاية من وراء ذلك هي التخلص من إرث الرجل ذي الارتباط بأفغانستان وزعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، وكل تلك المرحلة التي تثير حساسية لدى بعض الدول، وفي مقدمها الولايات المتحدة.
وقد كان موضع شك بشكل خاص أن يكون الناجي الوحيد من عملية اغتيال السوري هو أبو يزن الشامي الذي قاد في ما بعد المراجعات الفكرية للحركة، وعمل على فك ارتباطها مع «السلفية الجهادية».
كذلك فإن الاغتيال الجماعي لقادة الحركة سبقته تفاصيل لم تعط أي اهتمام للتحري عن ملابساته والمسؤولين عنه، ومن هذه التفاصيل الهزة التي تعرضت لها الحركة قبل أيام من عملية المقر صفر، وتمثلت باستقالة أو اعتكاف بعض كبار قادتها، أمثال أبو صالح طحان وأبو جميل قطب، ممن عادوا إلى صفوف الحركة بعد الاغتيال، وتولوا مناصب جديدة أعلى من المناصب التي تخلوا عنها. كذلك وقائع الاجتماع العاصف الذي جمع قادة الحركة مع زعيم «جبهة النصرة» أبي محمد الجولاني قبل مقتلهم بعدة أيام فقط.
ويبقى التساؤل: حتى لو كانت أجهزة استخبارات معينة هي المسؤولة عن تدبير اغتيال قادة «أحرار الشام» قديماً وحديثاً، فمن هو الأصبع الذي يتولى التنفيذ ويضغط على الزناد؟، وهل الخونة فقط ضمن الحركة أم في فصائل أخرى حليفة لها؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن للحركة أن تتجنب هذا النزف الهائل في كوادرها؟ وما هو الثمن المطلوب من الحركة داخلياً وخارجياً لوقف الاغتيالات بحقها؟ وهل هي قادرة على دفعه أم ستبقى رهينة الخونة فيها؟.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد