موسكو على طريق الإنتقام الكبير
الجمل ـ عمار سليمان علي: بغض النظر عن كل ما يطفو على السطح وكل ما يظهر على الشاشات من مواقف وتصريحات واجتماعات ومباحثات ومؤتمرات, وعن كل ما توحي به الأحداث المباشرة وغير المباشرة, التي تتصدّر نشرات الأخبار وعناوين الصحف أو تنزوي في زواياها الداخلية, وبعيداً عن الكثير من التفاصيل والجزئيات التي ليست أكثر من مكمّلات أو منكّهات أو ملوّنات عظيمة الأثر قليلة التأثير, قد يحلو للمتابع لما يجري على ساحة الوطن العربي وفي حدائقه الخلفية والأمامية من أحداث متتابعة متسارعة منذ حوالي ثلاث سنوات, أن يُشغل خياله السياسي قليلاً وأن يحاول ملء الكثير من الفراغات في ورقة الأسئلة المطروحة أمامه على طاولة البحث والتحليل!
وقد يرى الخيال السياسي المفترض طبعاً أن يستند إلى إحداثيات واقعية ولوغاريتمات جيو سياسية ونقاط علام استراتيجية, أن موسكو التي خسرت قبل ربع قرن حرباً ضروساً ضد ما سُمّي "الجهاديين الأفغان" والتي خسرت لاحقاً ـ كتداعيات للحدث الجلل ـ امبراطوريتها السوفياتية التي ترنحت ثم تفتتت في عهد البيرويستريكا الغورباتشوفية, بعد غرقها في أزمة اقتصادية وسياسية وإعلامية معقدة... موسكو تلك, فيما يرى الخيال السياسي نفسه, تحاول اليوم ـ بعد ربع قرن من النمو والصعود وتنمية العضلات ـ وبكل ما أوتيت من قوة وصلابة وأسلحة وأوراق وحلفاء (تتقدمهم قوى المقاومة ودول الممانعة ومنظمات اليسار الحقيقي) أن تنتقم شر انتقام من أولئك "الجهاديين" الذين تشكل عمودهم الفقري في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من الوهابيين والإخوان المسلمين (مع تعدد التسميات وتنوع التنظيمات وتدرّج السلوكيات), وأن تثأر من أسلافهم الحاليين ومناصريهم وداعميهم, وفي مقدمتهم الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأزلامها من أعراب الخليج..... ويرى الخيال السياسي أيضاً أن موسكو تحاول, بكل تكتيكاتها واستراتيجياتها وحركاتها الشطرنجية الذكية ودفاعاتها المحكمة وتحالفاتها المعلنة والخفية, أن تهزم الإسلامويين أينما كانوا وأينما حلوا, من تركيا إلى تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا, وأن تهزم من خلالهم الولايات المتحدة التي تدعمهم اليوم كما دعمتهم بالأمس, وتقاتل بهم اليوم كما قاتلت بهم بالأمس, وتنتظر موسكو أن تجعلهم جميعاً يتجرعون مرارة الهزيمة التي أذاقوها إياها في أفغانستان.
هل هذا مجرد خيال؟ هل هو خيال مريض؟
لا شك أن الخيال المريض هو من سيرى فيما يجري انتصاراً لمذهب على آخر, أو لأقلية/أقليات على أكثرية, أو انتقاماً من معارك وأحداث مضى عليها ألف وأربعمائة عام ونيف! والسياسة المريضة ليست إلا إسقاطاً للخيال المريض أو للحلم المريض, باعتبار السياسة في المحصلة النهائية ليست إلا الخيال والخيال المضاد, أو الحلم والحلم المعاكس!
وإذا كانت السياسة السليمة في الخيال السليم, واستطراداً في الحلم السليم, فإن الخيال السياسي السليم لا يملك إلا أن يقارن بين سقوط أفغانستان ورئيسها آنذاك نجيب اللـه, وكونه دلالة قوية على انهيار الامبراطورية السوفياتية, وبين صمود الدولة السورية والجيش العربي السوري والرئيس بشار الأسد وكونه دلالة على السقوط الغربي والأمريكي والإسلاموي الجاري بقوة وتسارع شديدين وغير متوقعين!
ولعل الخيال السياسي الواقعي يجنح أكثر مما سبق, فيرى أن موسكو تعمل عملاً دؤوباً ولو من وراء ستارة أو ستائر, بعضها شفاف وبعضها كثيف عاتم, على أن تتجرع واشنطن ـ ذاتها ـ الجزء الأكبر من مرارة الهزيمة التي سيُمنى بها أولئك الإسلامويون, وأن يزداد ترنّحها واهتزازها في انتظار التهاوي الأخير والنهائي, ليكتب التاريخ صفحة جديدة من صفحات الانتقام الكبير!
قد يكون ما سبق خيالاً, أو شبيهاً بالخيال, ولكن ما ليس خيالاً بل بات أمراً واقعاً في الآونة الأخيرة, هو أن الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن تستعر بأشد مما كانت عليه في النصف الثاني من القرن المنصرم, وهذه المرة بمبادرة من موسكو القوية, التي لا تنفكّ توجّه للأمريكيين ضربات ناعمة غالباً وخشنة أحياناً. ولعل تصرف موسكو مع ادوارد سنودن الذي فضح تجسس الولايات المتحدة على شعبها, يشبه كثيراً ما كانت تقوم به واشنطن مع منشقين روس في الحرب الباردة السابقة, ويدلّ على أنها ـ أي موسكو ـ باتت صاحبة اليد العليا في الحرب الباردة الحالية, مضافاً إلى ذلك طبعاً الموقف الروسي بخصوص الأزمة السورية الذي ثبت أنه صامد ومتين وتصعيدي وغير قابل للتغيير, في مقابل موقف أمريكي مرتبك وغير قادر على حسم خياراته, وكذلك إقدام موسكو على استخدام الموانئ القبرصية لأغراض عسكرية لخدمة طائراتها وبوارجها المتوسطية, في مقابل تراجع وانكفاء أمريكي متزايدين, ناهيكم عن مؤشرات ودلائل أخرى عدية وعلى رأسها أمر بالغ الدلالة وهو رفض موسكو لإجراء تخفيضات جديدة متبادلة على الأسلحة النووية, وفق اقتراح قدمته واشنطن, بينما ترضى الخيرة أو تغض النظر على الأقل عن تخفيض مخزون أسلحتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط والمتمثلة بالإرهابيين الوهابيين الإسلامويين, الذين لم يحدث أن وجّهوا بنادقهم وأحقادهم على مدى تاريخهم إلا نحو أعداء واشنطن!
لا يمكن قراءة هذا الرفض الروسي إلا وفق مقولة انقلاب الأدوار, لأن الرفض كان الدور الذي طالما قامت به واشنطن سابقاً في التسعينيات من منطلق عرش القوة الذي كانت تشغله آنذاك, وباتت تتربع عليه موسكو حالياً, وربما إلى أمد طويل, مما يجعلها بتوفر الإرادة قادرة بالفعل, لا بالخيال, على إكمال طريقها نحو الانتقام الكبير!
إضافة تعليق جديد